كيف أكتسب الأخلاق الحسنة؟
الإسلام سؤال وجواب
- التصنيفات: الآداب والأخلاق - محاسن الأخلاق - أخلاق إسلامية -
الخُلق الحَسن صفة سيد المرسلين صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين وأفضل أعمال الصديقين، وهو -على التحقيق- شطر الدين وثمرة مجاهدة المتقين ورياضة المتعبدين، والأخلاق السيئة هي السموم القاتلة والمخازي الفاضحة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري في الأدب المفرد: [273]، وصحّحه الألباني في السلسلة الصحيحة: [45]).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: « » (رواه الترمذي: [2004] وقال: "صحيحٌ غريب". وصحّحه الألباني في صحيح الترمذي).
لذلك كانت العناية بضبط قوانين العلاج لأمراض القلوب وطرق اكتساب الأخلاق الفاضلة من أهم الواجبات، إذ لا يخلو قلبٌ من القلوب من أسقامٍ لو أُهلمت تَراكمت وترادفت، ولا تخلو نفس من أخلاق لو أطلقت لساقت إلى الهلكة في الدنيا والآخرة.
وهذا النوع من الطب يحتاج إلى تأنُّقٍ في معرفة العِلل والأسباب، ثم إلى تشمير في العلاج والإصلاح، كي ينال الفلاح والنجاح، يقول تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9]، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بحُسن الخُلق ويقول: « » (رواه ابن حبان في صحيحه: [3/239]، وصحّحه الألباني في إرواء الغليل: [75]).
ثانيًا:
إذا عرف العبد عيوب نفسه أمكنه العلاج، ولكنَّ كثيرًا من الخَلق جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدُهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه، فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق:
الأول: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس، مُطَّلعٍ على خفايا الآفات يأخذ عنه العلم والتربية والتوجيه معًا.
الثاني: أن يطلب صديقًا صدوقًا بصيرًا متدينًا، فينصبه رقيبًا على نفسه ليلاحظ أحواله وأفعاله، فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبهه عليه، فهكذا كان يفعل الأكياس والأكابر من أئمة الدين، كان عمر رضي الله عنه يقول: "رحم الله امرأ أهدى إليَّ عيوبي".
الطريق الثالث: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه، فإن عين السخط تُبدي المساويا، ولعل انتفاع الإنسان بعدو مُشاحن يذكِّرُهُ عيوبَه أكثرُ من انتفاعه بصديقٍ مداهنٍ يُثنى عليه ويمدحه ويخفى عنه عيوبه.
الطريق الرابع: أن يخالط الناس، فكل ما رآه مذمومًا فيما بين الخَلق فليطالب نفسه به وينسبها إليه، فإن المؤمن مرآة المؤمن، فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه، قيل لعيسى عليه السلام: مَن أدَّبك؟ قال: "ما أدبني أحد، رأيت جهل الجاهل شَينًا فاجتنبته".
ثالثًا:
والخُلُق عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة، وكما أن حُسن الصورة الظاهرِ مطلقًا لا يتم بحُسن العينين دون الأنف والفم والخد، بل لا بد من حُسن الجميع ليتم حُسنُ الظاهر، فكذلك في الباطن أربعة أركان لا بد من الحُسن في جميعها حتى يتم حُسن الخُلق، فإذا استوت الأركان الأربعة واعتدلت وتناسبت حصل حُسن الخُلق، وهو: قوة العلم، وقوة الغضب، وقوة الشهوة. وقوة العدل بين هذه القوى الثلاث.
أما قوة العلم: فحُسنها وصلاحها في أن تصير بحيث يسهل بها إدراك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الجميل والقبيح في الأفعال، فإذا صلحت هذه القوة حصل منها ثمرة الحكمة، والحكمة رأس الأخلاق الحسنة.
وأما قوة الغضب: فحُسنها في أن يصير انقباضها وانبساطها على حد ما تقتضيه الحكمة.
وكذلك الشهوة: حُسنها وصلاحها في أن تكون تحت إشارة الحكمة، أعني إشارة العقل والشرع.
وأما قوة العدل: فهو ضبط الشهوة والغضب تحت إشارة العقل والشرع.
فالعقل مثاله مثال الناصح المشير. وقوة العدل هي القدرة، ومثالها مثال المنفذ الممضي لإشارة العقل، والغضب هو الذي تنفذ فيه الإشارة.
فمن استوت فيه هذه الخصال واعتدلت فهو حُسن الخُلق مطلقًا، وعنها تصدر الأخلاق الجميلة كلها.
ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس بعده متفاوتون في القرب والبُعد منه، فكل من قرب منه في هذه الأخلاق فهو قريبٌ من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله.
رابعًا:
وهذا الاعتدال يحصل على وجهين:
أحدهما: بجود إلهي وكمال فطري.
والوجه الثاني: اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهدة والرياضة، وأعني به حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه الخطيب وغيره؛ من حديث أبي الدرداء، وحسّنه الألباني).
فمن أراد مثلًا أن يحصل لنفسه خُلق الجود، فطريقه أن يتكلَّفَ تعاطيَ فعل الجواد، وهو بذل المال، فلا يزال يطالب نفسه ويواظب عليه تكلفًا مجاهدًا نفسه فيه حتى يصير بذلك طبعًا، ويتيسر عليه فيصير به جوادا.
وكذا من أراد أن يحصل لنفسه خلق التواضع، وقد غلب عليه الكبر، فطريقُهُ أن يواظب على أفعال المتواضعين مدة مديدة وهو فيها مجاهد نفسه ومتكلف إلى أن يصير ذلك خلقا له وطبعا فيتيسر عليه.
وجميع الأخلاق المحمودة شرعًا تحصل بهذا الطريق، ولن ترسخ الأخلاق الدينية في النفس، ما لم تتعود النفس جميع العادات الحسنة، وما لم تترك جميع الأفعال السيئة، وما لم تواظب عليه مواظبة من يشتاق إلى الأفعال الجميلة ويتنعّم بها، ويكره الأفعال القبيحة ويتألّم بها.
ويعرف ذلك بمثال:
وهو أن من أراد أن يصير الحذق في الكتابة له صفةً نفسية حتى يصيرَ كاتبًا بالطبع فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد ما يتعاطاه الكاتب الحاذق ويواظب عليه مدة طويلة يحاكي الخط الحَسن، فيتشبه بالكاتب تكلفًا، ثم لا يزال يواظب عليه حتى يصير صفةً راسخةً في نفسه فيصدر منه في الآخر الخط الحَسن طبعًا.
وكذلك مَن أراد أن يصير فقيهَ النفس، فلا طريق له إلا أن يتعاطى أفعالَ الفقهاء وهو التكرار للفقه، حتى تنعطف منه على قلبه صفةُ الفقه فيصيرَ فقيهَ النفس.
وكذلك من أراد أن يصير سخيًّا عفيفَ النفسِ حليمًا متواضعًا، فيلزمه أن يتعاطى أفعال هؤلاء تكلفًا حتى يصير ذلك طبعًا له؛ فلا علاج له إلا ذلك.
وكما أن طالب فقه النفس لا ييأس من نيل هذه الرتبة بتعطيل ليلة ولا ينالها بتكرار ليلة، فكذلك طالب تزكية النفس وتكميلها وتحليتها بالأعمال الحسنة لا ينالها بعبادة يوم ولا يحرم عنها بعصيان يوم، ولكن العطلة في يوم واحد تدعو إلى مثلها، ثم تتداعى قليلًا قليلًا حتى تأنس النفس بالكسل.
خامسًا:
مثال النفس في علاجها بمحو الرذائل والأخلاق الرديئة عنها وجلب الفضائل والأخلاق الجميلة إليها مثالُ البدن في علاجه بمحو العلل عنه وكسب الصحة له وجلبها إليه.
وكما أن الغالب على أصل المزاج الاعتدال، وإنما تعتري المعدة المضرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال، فكذلك كل مولود يولد معتدلًا صحيح الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، أي بالاعتياد والتعليم تكتسب الرذائل.
وكما أن البدن في الابتداء لا يُخلق كاملًا وإنما يكمل ويقوى بالتنشئة والتربية بالغذاء، فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال، وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم.
وكما أن البدن إن كان صحيحًا فشأن الطبيب تمهيد القانون الحافظ للصحة، وإن كان مريضًا فشأنه جلب الصحة إليه، فكذلك النفس منك إن كانت زكية طاهرة مهذبة فينبغي أن تسعى لحفظها وجلب مزيد قوة إليها واكتساب زيادة صفائها، وإن كانت عديمة الكمال والصفاء فينبغي أن تسعى لجلب ذلك إليها.
وكما أن العِلَّة المغيرة لاعتدال البدن الموجبة المرض لا تعالج إلا بضدها، فإن كانت من حرارة فبالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة، فكذلك الرذيلة التي هي مرض القلب علاجها بضدها، فيعالج مرض الجهل بالتعلم، ومرض البخل بالتسخي، ومرض الكِبر بالتواضع، ومرض الشره بالكف عن المشتهى تكلفًا.
وكما أنه لا بد من الاحتمال لمرارة الدواء وشدة الصبر عن المشتهيات لعلاج الأبدان المريضة، فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة والصبر لمداواة مرض القلب، بل أولى.. فإن مرض البدن يخلص منه بالموت، ومرض القلب -والعياذ بالله تعالى- مرض يدوم بعد الموت أبد الآباد.
فهذه الأمثلة تُعَرِّفُك طريق معالجة القلوب، وتُنبهك على أن الطريق الكُلي فيه سلوك مسلك المضاد لكل ما تهواه النفس وتميل إليه، وقد جمع الله ذلك كله في كتابه العزيز في كلمة واحدة، فقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41].
وأخيرًا:
الأصل المهم في المجاهدة الوفاء بالعزم، فإذا عزم على ترك شهوة فينبغي أن يصبر ويستمر، فإنه إن عَوَّدَ نفسه ترك العزم أَلِفَت ذلك ففسدت، وإذا اتفق منه نقضُ عزمٍ فينبغي أن يُلزِمَ نفسه عقوبةً عليه، وإذا لم يخوف النفس بعقوبة غلبته وحسُنت عنده تناول الشهوة فتفسد بها الرياضة بالكلية.
هذه المباحث مستخلصة من كتاب (إحياء علوم الدين؛ للغزالي: [3/ 62-98]) مع تصرف وزيادة.
والله تعالى أعلى وأعلم.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.