محمد الفاتح وفتح القسطنطينية
راغب السرجاني
بذل الفاتح جهودًا مختلفة للتخطيط والترتيب لفتح القسطنطينية، فاعتنى بتقوية الجيش العثماني ماديًّا ومعنويًّا، فحرص على نشر العلماء بينهم، حتى يغرسوا فيهم روح الجهاد، ويذكِّروهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثناء على جيش الفتح؛ حتى يجتهدوا في فتح القسطنطينية؛ عسى أن يكونوا هم الجيش المقصود.
- التصنيفات: السياسة الشرعية - التاريخ الإسلامي -
ظلَّ فتح القسطنطينية حُلمًا يرواد الفاتحين المسلمين، منذ سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبشِّر؛ فعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّة؟ُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ"[1]، وروي عنه صلى الله عليه وسلم: «
وتعاقبت دول الإسلام، واتسعت رقعة الفتوحات، حتى أذن الله بالفتح على في عهد الدولة العثمانية، وعلى يد الأمير محمد بن مراد الثاني الذي حمل لقب الفاتح، فكيف صار هذا الأمير هو الأمير الخير، كما بشَّر به رسول الله، وكيف كان جيشه خير الجيوش؟
تذكُر كتب التاريخ والسِّير أن محمد الفاتح حظي بتربيةٍ علمية خاصة، منذ طفولته، فقد اهتم والده السلطان مراد الثاني بتنشئته تنشئةً علمية وجسدية جادّة، فمرَّنه على ركوب الخيل والرمي والمبارزة، وجعله يتتلمذ على يد خيرة أساتذة عصره، ومنهم "أحمد بن إسماعيل الكوراني"[3] الذي ذكر السيوطي أنه كان أول معلمي الفاتح، وقال عنه: إنه "كان عالِمًا فقيهًا، شَهِد له علماء عصره بالتفوق والإتقان، بل إنهم كانوا يُسمُّونه: أبا حنيفة زمانه".
وتشير الروايات التاريخية إلى أن الكوراني حبَّب الفاتح في العلم، وجعله يُقبِل عليه بهمَّةٍ ونشاط، فما مضى وقت حتى كان محمد الفاتح قد حفظ القرآن، ودرس التاريخ الإسلامي، وكان على اطِّلاع بالمحاولات الإسلامية السابقة لفتح القسطنطينية، وأسهمت تربيته في تنشئته على حُبِّ الإسلام، والعمل بالقرآن، وحب العلم، وتقدير العلماء، وقد تأثَّر الفاتح كذلك بالشيخ "آق شمس الدين سنقر"[4] الذي كان أول من زرع حُلْمَ "فتح القسطنطينية" في ذهنه منذ الصغر، وكبر الفتى وهو يصبو إلى تحقيق ذلك الحلم..
وقد درَّس الشيخ "آق شمس الدين" لمحمد الفاتح العلوم الأساسية من قرآنٍ وحديث وسُنَّة نبوية وفقه، وكذلك اللغات العربية والفارسية والتركية، كما درَّس له بعضَ علوم الحياة كالرياضيات والفلك والتاريخ.
وكان الشيخ آق شمس الدين صارِمًا مع محمد الفاتح، حتى إنه بعد أن تولَّى السلطنة، يقول لأحد وزرائه: "إنَّ احترامي لهذا الشيخ يأخذ بمجامع نفسي وأنا ماثل في حضرته مضطربًا ويداي ترتعشان!"[5].
وقد أثَّرَت هذه المجموعة من العلماء، وهذه التنشئة العلمية في تشكيل الأمير الصغير، وتربيته سياسيًّا وعسكريًّا.
وما إن تولَّى محمد الثاني مهام السلطنة خلفًا لوالده مراد الثاني، حتى وضع فتح القسطنطينية هدفًا نصب عينه، واتخذ من أجل ذلك عددًا من الخطوات العملية العلمية:
في البداية بذل الفاتح جهودًا مختلفة للتخطيط والترتيب لفتح القسطنطينية، فاعتنى بتقوية الجيش العثماني ماديًّا ومعنويًّا، فحرص على نشر العلماء بينهم، حتى يغرسوا فيهم روح الجهاد، ويذكِّروهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثناء على جيش الفتح؛ حتى يجتهدوا في فتح القسطنطينية؛ عسى أن يكونوا هم الجيش المقصود، كما كان لانتشار العلماء بين الجنود أثر كبير في تقوية عزائم الجنود، وربطهم بالجهاد في سبيل الله.
وفي ذات الوقت أخذ بزمام الاستعداد المادي، والأَخْذ بالأسباب؛ فأخذ يستعين بأهل الخبرة والعلم وسألهم: لم لا نستطيع أن نفتح القسطنطينية؟ فحددوا له ثلاثة أسباب:
1- عدم وجود حصون للمسلمين عند بداية الحصار.. مما يجعل المسلمين في العَرَاء أثناء الشتاء القارِس... وأعلموه أنَّ بناء الحصن يستغرق سنة كاملة.
2- عدم وجود مدفع يستطيع أن يخترق سمك الأسوار أو يجوز ارتفاعها.
3- امتداد سلسلة بعرض الخليج، تمنع سفن المسلمين من دخول الخليج، وتهديد الأسوار الضعيفة[6].
من هنا انطلق الفاتح، وبعقلية العالِم الواعية، وبنفسٍ يملؤها الطموح، وروحٌ تملؤها الحيوية، في استقدام عددٍ من العلماء المختصين، وتكوين مجلس للبحث في كيفية التغلب على هذه العقبات، وبذل من أجل ذلك المال الكثير، وحثَّ الكثير من ذوي الدراية والخبرة في فنون الحرب على تقديم مقترحاتهم، وأفكارهم، حتى تكون محل مناقشة، مما أسفر بعد ذلك عن وضع حلول عاجلة، ساعدت في تكوين الخطة الأولى للفتح.
خطة فتح القسطنطينية:
لقد وضع محمد الفاتح خطة عبقرية، تحدّث عنها المستشرقون بانبهار شديد، وقالوا: "إن هذا الرجل سبق الإسكندر الأكبر ونابليون"؛ فقد قام محمد الفاتح بعد تحديد أسباب امتناع الفتح... بحلِّها واحدًا تلو الآخر؛ فللتغلُّب على العائق الأول: وهو عدم وجود حصن للمسلمين أمام سور القسطنطينية؛ قرَّر بناء حصنٍ في مدة زمنية لا تتعدى الأشهر الثلاثة... فجمع العمال، واختار منهم المتقنين المهرة، وحفَّزهم بقوله: "أتحبون أن تكونوا من أتباع رسول الله يوم القيامة.... وتكونوا من الذين قال فيهم « »؟ فتحفّز العمال، وأنجزوا العمل في وقتٍ قياسي، وتم بناء قلعة عظيمة يستغرق بناؤها سنة كاملة في ثلاثة أشهر فقط.
أمَّا العائق الثاني: وهو عدم وجود المدفع الصالح لاختراق أسوار المدينة؛ فقد ضرب الفاتح المثل في تفعيل قاعدة "الحكمة ضالَّة المؤمن؛ أنَّى وجدها؛ فهو أحقُّ الناس بها"[7]؛ فقد استقدم الفاتحُ العالم المجري المهندس "أوربان"، والذي كان قد علم أنه أعدَّ مدافعَ ذات قوة خاصة، بإمكانها أن تدكَّ أسوار القسطنطينية، وكان "أوربان" قد عرض خدماته على إمبراطور القسطنطينية، فلم يمنحه ما كان يريده من مكافأة، فجاء للفاتح، فاستقبله استقبالًا حسنًا، وأغدق عليه الأموال، وعرف كيف يستفيد منه أكبر استفادة، بل ويسَّر له كل الوسائل التي تمكِّنه من إتمام اختراعه، ووضع تحت تصرفه ما طلبه من آلات وفنيين..
وشرع "أوربان" في صنع المدافع، بمعاونة عدد من المهندسين العثمانيين الآخرين، وكان الفاتح يشرف عليهم بنفسه، ولم تمضِ ثلاثة أشهر حتى كان "أوربان" قد صنع ثلاثة مدافع، بينها مدفع ضخم عملاق، كان يزن سبعمائة طن، وتزن القذيفة الواحدة فيه ألف وخمسمائة كيلو جرام! يصل مداها ألف ميل، يجرُّه 60 ثورا بمعاونة 400 من الرجال الأشداء كل 200 على جانب[8].
وعندما أرادوا أن يجربوه لأول مرة في "أدرنة" أنذر السلطان سكان المنطقة، ثم أطلقوه فسُمِعَ دَوِيُّه على بُعْدِ ثلاثة عشر ميلًا، وسقطت قذيفته على بُعد ميل، وتركت أثرًا بعمق ستة أقدام في الأرض، وقد قطع هذا المدفع -الذي أسماه العثمانيون بالمدفع السلطاني- الطريق من أدرنة إلى موضعه أمام أسوار القسطنطينية في شهرين اثنين، وسُرَّ السلطان محمد الفاتح بنجاح التجربة، وتفاءل بالفتح، وأجزل العطاء لهذا المهندس المجري، ولكل المهندسين الذين عاونوه[9].
أمَّا عن السلسلة الموجودة بعرض الخليج؛ فقد كانت هذه السلسلة تعوق دخول أسطول المسلمين إلى داخل الخليج حتى تصل إلى الأسوار؛ ولهذا قرَّر أن يقوم بعمل فريد من نوعه، فقام بعمل ممر تسير فيه السفن خلال الجبل حتى تصل مباشرة إلى داخل الخليج بدون المرور عبر السلسلة وهذه المسافة تقدر بثلاثة أميال..
واستعمل في ذلك قضبانًا خشبية دهنها بالزيت لتسهل من حركة السفن، وكان عددها سبعين سفينة، واستعمل في جرِّها مئات الثيران ومئات الرجال، واستغرق نقل السفن من بعد غروب الشمس حتى ما قبل الفجر؛ حتى يفاجئ الروم. وقد استمرَّ الحصار ثلاثةً وخمسين يومًا حتَّى قيض الله الفتح للجيش[10].
وهكذا كان العلم سبيلًا للتخطيط، وعاملًا هامًّا من عوامل فتح القسطنطينة، وتحقيق ذلك الحلم للمسلمين.
بيد أن دور العلم لم يقتصر على التمهيد للفتح، أو استخدامه للحرب، بل ظل ملازمًا للنهضة العثمانية في عهد محمد الفاتح.
-------------------------------------
المراجع:
[1]- (رواه أحمد: [6645]، والدارمي: [486]، والحاكم: [8662]، وقال: "صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح؛ غير أبي قبيل وهو ثقة"، انظر: مجمع الزوائد: [6/323]، وقال الألباني: "صحيح"، السلسلة الصحيحة: [4]).
[2]- (رواه أحمد وابنه في زوائده: [18977]، والحاكم: [8300]، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، والطبراني في الكبير: [1216]، وقال الهيثمي: "رواه أحمد، والبزار، والطبراني؛ ورجاله ثقات"، انظر: مجمع الزوائد: [6/323]).
[3]- (العالِم الجليل، تولّى قضاء العسكر، ثم منصب الفتوى، توفي بالقسطنطينية [813 ـ 893]هـ، من مؤلفاته: شرح صحيح البخاري، كشف الأسرار عن قراءة الأئمة الأخيار، شرح جمع الجوامع في أصول الفقه، غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني، وقصيدة في عِلم العروض.عمر كحالة: معجم المؤلفين: [1/166]).