فكّر قبل أن تحكم
ليس من الحكمة التسرع في إطلاق الأحكام المسبقة على الناس قبل السؤال عن دوافع سلوكهم، وتقديم حسن الظن بهم على سوء الظن، ولا يمكن أن نفهم سلوك الناس قبل أن نسأل ونسمع، فالسؤال هو بداية الفهم.
هرع أحد الأطباء إلى المستشفى فور تلقيه اتصالاً هاتفيًا لإجراء عملية جراحية عاجلة.
وحينما وصل وجد والد الطفل المريض ينتظره في الممر وقد انتفخت أوداجه فصب على الطبيب جامّ غضبه، وقال بصوت مرتفع: "لماذا تأخرت يا دكتور! ألا تعلم أن حياة ابني في خطر، أليس لديك ذرة شعور بالمسؤولية!".
صدم الدكتور، لكنه ابتسم ابتسامة صفراء واعتذر، ثم قال للأب: "لقد كنتُ خارج المستشفى وجئت بأقصى سرعة، فأرجو أن تهدأ وتطمئن حتى أؤدي واجبي على أكمل وجه".
رد الأب غاضبا: "أهدأ؟! لو كان ابنك في مكان ابني لما تصرفت بهذا البرود.. ما شعورك حينما يلقى ابنك حتفه وهو ينتظر حضرة الطبيب يصل متأخرًا إلى غرفة العمليات!"، ابتسم الطبيب مجددًا وقال: "لا تقلق، سنبذل قصارى جهدنا لإنجاح العملية، ولا تنس ابنك من صالح دعائك"، أطلق الأب تنهيدة غاضبة وهمهم بكلام غير مفهوم نمّ عن امتعاض شديد.
استغرقت العملية بضع ساعات، ثم خرج الطبيب وقد تهللت أساريره، وقال للأب: "أبشرك؛ لقد نجحت العملية وصحة ابنك على ما يرام"، لم ينتظر الطبيب رد الأب فمضى وهو يقول: "إن كان لديك سؤال فيمكن للممرضة أن تجيبك".
الأمر الذي فاقم من غضب الأب فالتفت إلى الممرضة، وكانت تتابع كل المشهد منذ البداية، فقال لها: "ما هذا الغرور؟! ألا يقف ويتأكد إن كان لدي أسئلة معينة"، فاغرورقت عينا الممرضة بالدموع وقالت للأب: "يا سيدي، حينما هاتفنا الطبيب كان آنذاك يجري الإجراءات القانونية لمراسم دفن ابنه الذي لقي مصرعه أمس في حادثة سير، ورغم إجازته الطارئة، فإنه جاء مسرعًا ليحاول إنقاذ حياة ابنك!"، هنا، بُهِت الأب وانطلق مسرعًا ليقدم واجب العزاء والاعتذار لهذا الطبيب الشاب الشهم.
مغزى هذه القصة التي كثيرًا ما نواجه مثيلاتها في الحياة، أنه ليس من الحكمة التسرع في إطلاق الأحكام المسبقة على الناس قبل السؤال عن دوافع سلوكهم، وتقديم حسن الظن بهم على سوء الظن، ولا يمكن أن نفهم سلوك الناس قبل أن نسأل ونسمع، فالسؤال هو بداية الفهم.
ولذا، فإنني كثيرًا ما أناقش مفهوم (اسأل، افهم، رد) في دوراتي التدريبية للشركات والجهات الحكومية وللإعلاميين؛ لسبب بسيط وهو أنك لن تفهم أو تحسن الحكم ما لم تسأل ثم تتأكد من فهمك بعدها ترد.
مشكلتنا أننا نقفز من مرحلة السؤال -أو بالأحرى الاستماع- إلى الرد ونتجاهل أهمية الفهم الجوهرية في التواصل.
وما أكثر ما نهدره من جهد وأوقات ثمينة؛ لأننا كنا نفترض أن فهمنا صحيح! فكم من ساعات ذهبت سدى في كتابة تقرير اكتشفنا لاحقًا أن المدير لم يكن يقصده؟! ولذا، فإن المهنيين هم من يحرصون على كتابة ما يسمعون أو إعادته شفاهة للتأكد من دقة الفهم قبل الرد أو البدء بالمهمة المطلوبة.
وكم من فرد أو مؤسسة أو دولة ناصبناها العداوة، لأننا لم نبذل جهدًا يذكر في فهمها.
ولو أدرك كل واحد منا أهمية الاستماع ثم الفهم ثم الرد لوفر على نفسه عناء الاعتذار والهرولة خلف ذلك الطبيب أو غيره!
محمد النغيمش
- التصنيف: