الطريق إلى الأندلس

منذ 2015-01-04

إن الأندلس قبل الفتح الإسلامي كان يسودها الضعف والانحلال، وانتشار الظلم، وكثرة الثورات، كل هذه الأوضاع تجعلها في حاجة للإسلام؛ لكي يخلصها مما هي فيه من ظلم وفساد؛ لأن الدول العظمى التي تتحكم في الأمم تجعل الظلم قاعدة من القواعد التي ترسّخها في العالم، ولهذا تحتاج إلى الإسلام؛ لأنه دين الرحمة والتسامح، ونشر العدل بين الناس.

إن التحدث عن التاريخ الإسلامي يجعلنا نتحدث عن جزء مهم من التاريخ الإسلامي وهو تاريخ الأندلس، ولكن لماذا نتحدث عن تاريخ الأندلس بالتحديد؟

السبب في ذلك أن تاريخ الأندلس يشمل أكثر من ثمانمائة سنة كاملة، وتحديدًا من سنة 92هـ/ 711م إلى سنة 897هـ/ 1492م، أي ثلثي التاريخ الإسلامي، فكيف لا نتحدث عنه إذن؟!

لماذا سميت هذه البلاد ببلاد الأندلس؟ وعن سبب تسميتها بالأندلس نسبة إلى قبائل الفندال أو الوندال، فسميت هذه البلاد بفانداليسيا، ومع الأيام حُرّف إلى أندوليسيا فأندلس.

ولكن ما هي علاقة المسلمين بالأندلس؟ اتجه إليها المسلمون لنشر الدين الإسلامي في هذه البقاع. وهناك اعتراض من قائل يقول: لندع الناس يعبدون ما يشاءون، لماذا نشغل أنفسنا وننشر رسالتنا هناك؟ والجواب: أن الله - سبحانه وتعالى - جعل للمسلم رسالة عليه أن يؤديها، فهذه هي رسالته في الدنيا والآخرة، فقد قال الله - سبحانه وتعالى -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110].

وقد يولد ذلك عند بعض الناس استنتاجًا بأن الإسلام انتشر بحدّ السيف، ولكن كيف وقد قال الله - سبحانه وتعالى - في كتابه الكريم: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) [البقرة: 256]؟!، وأن رسالة المسلمين هي نشر الحب والتسامح والعدل بين الناس، فنجد المسلم لا يقتل طفلاً، ولا شيخًا، ولا امرأة، ولا يقطع شجرة، فكيف - إذن - انتشر بحدّ السيف؟!

متى فُتحت الأندلس؟

في سنة اثنتين وتسعين من الهجرة، ويتوافق تاريخ فتح الأندلس مع فترة من فترات الدولة الأموية، وتحديدًا في خلافة الوليد بن عبد الملك - رحمه الله - الخليفة الأموي الذي حكم من سنة 86 هـ/ 705 م إلى 96هـ/ 715 م.

الأوضاع في الأندلس قبل الفتح الإسلامي:

إن الأندلس قبل الفتح الإسلامي كان يسودها الضعف والانحلال، وانتشار الظلم، وكثرة الثورات، كل هذه الأوضاع تجعلها في حاجة للإسلام؛ لكي يخلصها مما هي فيه من ظلم وفساد؛ لأن الدول العظمى التي تتحكم في الأمم تجعل الظلم قاعدة من القواعد التي ترسّخها في العالم، ولهذا تحتاج إلى الإسلام؛ لأنه دين الرحمة والتسامح، ونشر العدل بين الناس.

وتدعي بعض الدول أن ما فعله المسلمون بالأندلس كان اعتداءً على الحرية، وأن ما يفعلونه بالشعوب هو الحرية، ولكن هذا الزعم غير صحيح، فإن ما قام به المسلمون هو نشر العدل والمساواة بين الناس، وعدم المساس بحرية غير المسلمين، أما ما تفعله الدول الأخرى من اعتداء على حقوق المسلمين، ووصفهم بالإرهابيين، ووضعهم في المعتقلات هو - بلا شك - الاعتداء على الحرية.

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد:

فموضوع هذه الصفحات هو الحديث عن حِقبة من التاريخ الإسلامي هي من أهم الحِقَب في تاريخ المسلمين إنها "تاريخ الأندلس".

وقد يسأل سائل: لماذا الحديث عن التاريخ أصلًا؟!

فكثير من الناس يلوم على المسلمين كثرة الخوض في الحديث عن التاريخ، يقولون: أنتم تبكون على اللبن المسكوب، هذا ماضٍ قد انتهى، فلنعش في حاضرنا، ولننظر إلى مستقبلنا.

والواقع أن هذه الآية مقلوبة تمامًا؛ لأننا إذا نظرنا إلى كتاب الله - سبحانه وتعالى - نجد أمرًا عجبًا، نجد أن ثلث القرآن الكريم جاء في صورة قصص، وهو أمر لافت للأنظار، فإذا كان ثلث القرآن الكريم قصصًا، فإن هذا ولا ريب يشير إلى أسلوب رباني فريد من نوعه في التربية.

وإنني أرى أن مناهج التربية يجب أن يأتي ثلثُها في صورة قصص، حتى تحاكي أسلوب الخالق - سبحانه وتعالى - في تربية الخلق أجمعين.

وإلا فلماذا ينزل ثلث القرآن الكريم قصصًا؟ ولماذا يكون هذا هو أسلوب المولى - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم -، وفي هذا الثلث بالذات - في تعليم الناس وتربيتهم، وإرشادهم إلى الطريق القويم؟

إن الله - سبحانه وتعالى - في قرآنه الكريم قصّ قصصًا كثيرة، قصّ قصص الصالحين والطالحين، وقصص الأنبياء ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم قصص الذين خرجوا عن منهجه - سبحانه وتعالى -، وكيف عاقبهم - عز وجل -، وكيف كانت نهايتهم وخاتمهم...

والقرآن الكريم ككتاب هو في الحقيقة منهج حياة، فيه كثير من الآيات التي تشير إلى منهج المسلم في تَلَقّي القصص، يقول - سبحانه وتعالى -: (فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 176]. ويقول في آية أخرى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111]. فقد خصّ - سبحانه وتعالى - العبرة بطائفة معينة فقال: (لِأُولِي الأَلْبَابِ) أي: لأصحاب العقول والأفهام.

إذن حينما نقصّ القصص بصفة عامة، سواءً القصص القرآني، أو التاريخ الإسلامي، أو التاريخ غير الإسلامي -؛ حينما نقصّ هذا القصص لا بدّ أن نأخذه من خلال هذا الفهم وهذا المنطلق، منطلق الدراسة والتفكر والتدبّر والنظر في الأمور.

فليس غرضنا في هذا الصفحات في هذا الموضوع - تاريخ الأندلس - تحريك العواطف، ولا إلهاب المشاعر، ولا مجرد البكاء على ما سبق من الحضارات، أو البكاء على اللبن المسكوب، أو غيره، وإنما هي دعوة إلى التفكر، دعوة إلى التدبّر والتأمل، دعوة إلى أخذ العبر والدروس.

وهي أيضاً طريق نبدأ فيه سويًا بالتنقيب عن صفحة من صفحات التاريخ الإسلامي، صفحة تاريخ الأندلس، وهي وإن كانت غير كافية؛ لتغطية كل تاريخ الأندلس بكل أحداثه وتفصيلاته، إلا أنها تضع أرجلنا على الطريق لدراسة هذا التاريخ العظيم، هو وغيره - بمشيئة الله - من تواريخ أخرى لاحقة.

وأسال الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، إنه ولى ذلك والقادر عليه، وهو نعم المولى ونعم النصير.

وفي بداية حديثنا عن تاريخ الأندلس، وفي محاولةٍ لتحليل التاريخ تحليلًا دقيقًا، نحاول أن نقلّب صفحاتٍ، ونُظهر أحداثًا قد علاها التراب أعوامًا وأعوامًا، نحاول أن نظهر ما حاول الكثيرون أن يطمسوه، أو يخرجوه لنا في صورة باطل وهو حق، أو إظهار الحق وكأنه باطل.

فكثير من الناس يحاولون أن يزورواْ التاريخ الإسلامي، وهي جريمة خطيرة جدّ خطيرة يجب أن يتصدّى لها المسلمون.

سنن الله في خلقه

في بداية الحديث أيضًا يهمنا أن نتعرف على سنن الله في خلقه، وسننه - سبحانه وتعالى - في أرضه، فلله سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، كما يقول - سبحانه وتعالى -: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا) [فاطر: 43].

فهذا أمر الله - سبحانه وتعالى - قرره في كتابه، وجعله من سننه الثوابت، وكمثال عملي على ذلك: نجد أن الماء يغلي عند درجة مائة مئوية، وسيظل يغلي عند هذه الدرجة إلى يوم القيامة، فمن رحمته - سبحانه وتعالى - أن ثبّت لنا هذا الأمر؛ إذ لو كان الماء يغلي اليوم عند درجة ثلاثين - مثلاً - وغدًا عند درجة خمسين، وبعد غد عند سبعين فلن تستقيم حياة الناس مع هذا الأمر، ولن تستقر أمورهم؛ لأن كل يوم مغاير للآخر، وكل شكل فيه تبدّل وتحوّل لم يُعهد.

والله - سبحانه وتعالى - وضع قواعدَ محكمةً وسُننًا ثابتةً.

فالنار تحرق وستظل تحرق إلى يوم القيامة، إلا أن هناك استثناءات لا ينبني عليها، فتلك النار التي من أهم خصائصها الإحراق لم تحرق إبراهيم - عليه السلام -، وهذا استثناء، والمؤمن الكيّس الحصيف لا يبني على الاستثناءات، ولا يتخذها قواعد، إنما يبني على قواعد أصولية ثابتة راسخة.

فهل يستطيع المؤمن في حياته أن يبني على الاستثناء ويضع يده - مثلاً - في النار؟ ثم يقول: قد يحدث لي مثلما حدث مع إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، هذا غير جائز على الإطلاق، ولا يصح أن يتفوّه به أحد.

إذن، هي ثوابت الله التي لا تتبدل ولا تتغير، وقِسْ على ذلك ما شئت، فالإنسان والحيوان بصفة عامةٍ لا يستطيع أن يعيش بدون طعام أو بدون شراب، ولو عاش أي إنسان دون طعام وشراب أيامًا كثيرة فمآله لا محالة إلى الموت.

كذلك وبالمثل فإن سنن الله -تعالى- في تغيير الأمم هي سننٌ ثابتة، فقد جعل اللهُ - عز وجل - لتغيير الأمم وتبديلها من الفساد إلى الصلاح، ومن الصلاح إلى الفساد سننًا ثابتةً لا تتغير، فإن أنت سرت في طريق معيّن كانت الخاتمة معلومة وواضحة جدًا؛ إذ هي ثابتة عند الله - سبحانه وتعالى -.

وحينما تقرأ التاريخ، وحينما تُقلِّب في صفحاته تشاهد سنن الله - سبحانه وتعالى - في التغيير والتبديل، فالتاريخ يكرّر نفسه بصورة عجيبة، حتى والله لكأنك تقرأ أحداثًا حدثت منذ ألف عام أو أكثر، فتشعر وكأنها هي هي، نفس الأحداث التي تتم في هذا الزمن، مع اختلاف فقط في بعض الأسماء أو المسمّيات.

فأنت حين تقرأ التاريخ كأنك تقرأ المستقبل بأحداثه وتفصيلاته؛ ذلك أن الله - سبحانه وتعالى - قد قرأه لك بسننه الثوابت، وحدد لك كيف ستكون العواقب، وما نهاية هذا الطريق الذي ستبدؤه وتتبعه.

والمؤمن الحصيف لا يقع في أخطاء السابقين، والمؤمن العاقل الواعي هو الذي يكرر ما فعله السابقون من المحامد والإيجابيات، فيفلح بفلاحهم واقتدائه بهم، وهو نفسه الذي لا يقع في أخطاء من عارض منهج الله - سبحانه وتعالى -، أو وقع في خطأ مقصود كان أو غير مقصود.

بني أمية (40 - 132 هـ= 660 - 750 م) وحسناتهم

الدولة الأموية كغيرها من الدول الإسلامية لها الأيادي البيضاء والفضل الكبير على المسلمين في شتى بقاع الأرض، ونظرة واحدة على عدد المسلمين الذين دخلوا الإسلام في زمن حكمها تكفي للرد على الافتراءات والمزاعم التي حِيكت في حقها، فهذا إقليم شمال إفريقيا بكامله دخل الإسلام في عهد بني أمية، ابتداءً من ليبيا وحتى المغرب، وإذا كانت الفتوح الإسلامية لهذه البلاد قد بدأت في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فإن هذه البلاد قد ارتدّت على عقبها، ثم فُتحت من جديد في عهد بني أمية، ومع إقليم شمال إفريقيا كانت أفغانستان، وأيضاً جمهوريات جنوب روسيا، كل هذه البلدان وغيرها وصلتهم رسالة الإسلام، ودخلوا فيه في زمن بني أمية، فقد كان الجهاد في أيامهم أمرًا طبيعيًا جدًا، وهو في كل أيام العام صيفًا وشتاءً، يخرج إليه الناس وكأنهم ذاهبون إلى أعمالهم، وإضافة إلى ذلك أيضًا فقد دُوّنت السنة النبوية في مدتهم، وحُكِّم شرع الله وطُبّق في دولتهم.

ومع كل هذا فإنا لا نقرّ بتبرئتهم من كل خطأ أو عيب؛ فالنقص والخطأ شيمة البشر، ومن المؤكد أن هناك أخطاء كثيرة في تاريخ بني أمية، لكن - بلا شك - كل هذه الأخطاء تذوب في بحر حسناتهم، وبحر أفضالهم على المسلمين، فقد امتدّ حكم بني أمية اثنين وتسعين عامًا، من سنة 40 هـ= 660 م إلى سنة 132 هـ= 750م، وكان أول خلفاء بني أمية الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - ورضي الله عن أبيه أبي سفيان صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ذلك الخليفة الذي لم يسلم من ألسنة كثير من الناس، فطعنوا في تاريخه وفي خلافته - رضي الله عنه -، ولقد كذبوا، فليتنا نصل إلى معشار ما فعله معاوية بن أبي سفيان للإسلام والمسلمين.

وإن كان هذا ليس هو مجال الحديث عن بني أمية إلا أن هذه المقدمة البسيطة قد تفيد - بمشيئة الله - في الحديث عن الأندلس، فبعد معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - تتابع الحكامُ الأُميون وكان أشهرهم عبد الملك بن مروان - رحمه الله -، ومن تبعه من أولاده، وكان منهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام، وقد تخللهم الخليفة الراشد المشهور عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وأرضاه، وهو خليفة أموي من أبناء الدولة التي يطعنون فيها، وهو الذي ملأ الأرض عدلًا ورحمةً وأمنًا ورخاءً...

أما الجانب السيئ من تاريخ دولة بني أمية فإنه يكمن في السنين السبع الأخيرة فقط من تاريخهم، تلك التي كان فيها كثير من المآسي، وكثير من الاختلاف على المنهج الإسلامي، وكانت سنّة الله - تعالى -، فحين فسد الأمر في بني أمية؛ قامت دولة أخرى؛ وهي دولة بني العباس، أما الأندلس وفتح الأندلس فيبقى حسنة من حسنات بني أمية.

أوروبا قُبَيْلَ الفتح الإسلامي للأندلس

من المفيد جدًا أن نتعرف على حالة أوروبا والوضع الذي كانت عليه - خاصة بلاد الأندلس - عند الفتح الإسلامي وكيف كان؟ وكيف تغيرّ هذا الوضع وهذا الحال بعد دخول أهل هذه البلاد في الإسلام؟

الواقع أن أوروبا في ذلك الوقت كانت تعيش فترة من فترات الجهل الفاضح، والتخلّف البالغ، فكان الظلم هو القانون السائد، فالحكّام يمتلكون الأموال وخيرات البلاد، والشعوب تعيش في بؤسٍ كبير، والحكّام بنوا القصور والقلاع والحصون، بينما عامة الشعب لا يجد المأوى ولا السكن، وإنما هم في فقر شديد، بل إنهم يباعون ويشترون مع الأرض، وبالنسبة للفرد نفسه، فالأخلاق متدنية، والحرمات منتهكة، وبُعدٌ حتى عن مقومات الحياة الطبيعية، فالنظافة الشخصية - على سبيل المثال - مختفية بالمرة، حتى إنهم كانوا يتركون شعورهم تنسدل على وجوههم ولا يهذبونها، وكانوا - كما يذكر الرحّالة المسلمون الذين جابوا هذه البلاد في هذا الوقت - لا يستحمّون في العام إلا مرة أو مرتين، بل يظنون أن هذه الأوساخ التي تتراكم على أجسادهم هي صحة لهذا الجسد، وهي خير وبركة له!!.

وكان بعض أهل هذه البلاد يتفاهمون بالإشارة، فليست لهم لغة منطوقة أصلًا فضلًا عن أن تكون مكتوبة، وكانوا يعتقدون بعض اعتقادات الهنود والمجوس من إحراق المتوفى عند موته وحرق زوجته معه وهي حية، أو حرق جاريته معه، أو من كان يحبه من الناس، والناس يعلمون ذلك ويشاهدون هذا الأمر، فكانت أوربا بصفة عامّة قبل الفتح الإسلامي يسودها التخلف والظلم والفقر الشديد، والبعد التام عن أي وجه من أوجه الحضارة أو المَدَنية...

وقبل الفتح الإسلامي لأسبانيا بسنة أو تزيد؛ قام أحد رجال الجيش واسمه: لُذريق بالاستيلاء على السلطة، وعزل الملك غَيْطَشَة، وغداة الفتح الإسلامي كان لُذريق هو حاكم البلاد، لكن أتباع الملك السابق ومؤيديه لم يرضوا عن هذا الحكم الجديد، وكانوا يتحينون الفرصة لاستعادة ملكهم، ووجدوها في الفتح الإسلامي، ووهموا أن المسلمين طلاب غنائم فلن يستقرّوا في إسبانيا، لكنهم لم يجدوا لهذا الوهم إشارة، فالمسلمون حَمَلَة عقيدة يعملون على نشرها وإعلائها.

كانت أسبانيا - إذن - قبل الفتح الإسلامي تشكو الاضطراب، والفساد الاجتماعي، والتأخر الاقتصادي، وعدم الاستقرار، نتيجة السياسة، ونظام المجتمع السائد.

لكن هذا لا يعني أن هذه السلطة لم تكن قادرة على الدفاع، كما لا يعني انعدام قوتها السياسية والعسكرية، بل كان بإمكانها أن تصد جيشًا مهاجمًا، وتحاربه وتقف في وجهه.

أقام القوط في أسبانيا دولة اعتبرت أقوى الممالك الجرمانية حتى أوائل القرن السادس الجرماني، وبقيت بعد ذلك تتمتع بقوة عسكرية مدربة وقوية، تقارع الأحداث، وتقف للمواجهات...

لماذا تاريخ الأندلس؟

قد يبرز هنا سؤال آخر، لماذا تاريخ الأندلس بالذات؟ لماذا ندرس تاريخ الأندلس دون غيره؟.

فنقول: إن تاريخ الأندلس يشمل أكثر من ثمانمائة سنة كاملة، ثمانمائة سنة من تاريخ الإسلام، وتحديدًا من سنة 92هـ، 711م إلى سنة 897هـ= 1492م أي ثمانمائة وخمس سنين، هذا إذا أغفلنا التداعيات التي أعقبت ما بعد 897 هجرية، فهي إذن فترة ليست بالهيّنة من تاريخ الإسلام.

فمن العجيب إذن ألا يعرف المسلمون تفاصيل فترة هي أكثر من ثلثي التاريخ الإسلامي، هذا أمر. والأمر الآخر: أن تاريخ الأندلس لكبر حجمه، وسعة مساحته، مرت فيه كثير من دورات التاريخ التي اكتملت ثم انتهت، فسنن الله في تاريخ الأندلس واضحة للعيان، فقد قامت فيه كثير من الأمم، وارتفع نجمها، وسقطت فيه أيضاً كثير من الأمم وأفل نجمها، كثير من الدول أصبحت قوية، ومن ثم راحت تفتح ما حولها من البلاد، وكثير من الدول سقطت وهوت، وأصبحت في تعداد الدول المنهزمة، والتي نسمع عن مثلها في هذه الآونة.

أيضًا ظهر في تاريخ الأندلس المجاهد الشجاع، وظهر في تاريخها الخائف الجبان، ظهر في تاريخ الأندلس التقي الورع، وظهر في تاريخ الأندلس المخالف لشرع ربه - سبحانه وتعالى -، ظهر في تاريخ الأندلس الأمين على نفسه وعلى دينه وعلى وطنه، وظهر في تاريخ الأندلس الخائن لنفسه ولدينه ولوطنه، ظهرت كل هذه النماذج، وتساوى فيها الحكام والمحكومون والعلماء وحتى عوام الناس.

وما من شك أن دراسة مثل هذه الأمور يفيد كثيرًا في استقراء المستقبل للمسلمين.

هل سمعت عما جرى في الأندلس؟

والآن تُرى كم من المسلمين يسمع عن موقعة وادي بَربَاط؟ تلك الموقعة التي تُعدّ من أهمّ المواقع في التاريخ الإسلامي، فالموقعة التي فُتحت فيها الأندلس تُشَبّه في التاريخ بموقعتي اليرموك والقادسية، ومع ذلك فإن الكثير من المسلمين لا يسمع من الأساس عن وادي برباط.

وتُرى هل قصة حرق السفن التي يُقال أنها حدثت في عهد طارق بن زياد - رحمه الله - هل هي حقيقة أم من نسج الخيال؟ كثير من الناس لا يعلم حقيقة وتفاصيل هذه القصة، وكيف حدثت؟ إن كانت قد حدثت، وإذا لم تكن حدثت في الأصل فلماذا انتشرت بين الناس؟!.

ثم من هو عَبْدُ الرَّحْمَن الدَّاخِل - رحمه الله -؟ وكم من الناس يعرف تاريخه؟ ذلك الرجل الذي قال عنه المؤرخون: لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام بالكلية من بلاد الأندلس.

ومن هو عَبْدُ الرَّحْمَن الناصر؟ أعظم ملوك أوروبا في القرون الوسطى على الإطلاق. ماذا تعرف عن حياته؟ كيف وصل إلى هذه الدرجة العالية؟ وكيف أصبح أكبر قوة في العالم في عصره؟

يوسف بن تَاشْفِين - رحمه الله - القائد الرباني، صاحب موقعة الزَلَّاقَة، كيف نشأ؟ كيف ربّى الناس على حياة الجهاد؟ كيف تمكّن من الأمور؟ بل كيف ساد دولة ما وصل المسلمون إلى أبعادها في كثير من الفترات؟

أبو بكر بن عمر اللمتوني، من يسمع عن هذا الاسم؟ من يسمع عن هذا المجاهد الذي دخل الإسلام على يده أكثر من خمس عشرة دولة إفريقية؟! إنه أبو بكر بن عمر اللمتوني، من يسمع عنه؟

من يسمع عن أبي يوسف يعقوب المنصور، صاحب موقعة الأَرْكِ الخالدة، تلك التي دُكّت فيها حصون النصارى، وانتصر فيها المسلمون انتصارًا ساحقًا؟

من يسمع عن دولة المرابطين المجاهدة؟ ومن يسمع عن دولة الموحّدين، وكيف قامت؟

من يسمع عن مسجد قرطبة؟ ذلك المسجد الذي كان يُعدّ أوسع مساجد العالم، ثم كيف حُوّل إلى كنيسة ما زالت قائمة إلى اليوم؟

من يسمع عن مسجد اشبيلية؟ من يسمع عن جامعة قرطبة والمكتبة الأموية؟ من يسمع عن قصر الزهراء، ومدينة الزهراء؟ من يسمع عن قصر الحمراء؟ وغيرها من الأماكن الخالدة التي أمست رسومًا وأطلالًا، وهي اليوم في عداد أفضل المناطق السياحية في إسبانيا، وتُزار من عموم الناس، سواء مسلمين أو غير مسلمين.

ثم من يسمع عن موقعة العِقَاب؟ تلك التي مُني فيها المسلمون بهزيمة ساحقة، رغم تفوقهم على عدوهم في العدد والعدة، وكأن حُنَيْن عادت من غابر التاريخ؛ لتروي أحداثها في موقعة العقاب، تلك الموقعة التي قال عنها المؤرخون: بعد موقعة العقاب لم يُر في الأندلس شابٌ صالحٌ للقتال.

من يعلم أن عدد المسلمين الذين هلكوا في هذه الموقعة الضخمة قد تجاوز ثمانين ألف مسلم؟

كيف سقطت الأندلس؟ وما هي عوامل السقوط التي إن تكررت في أمّة من المسلمين سقطت لا محالة بفعل سنن الله الثابتة.

ثم كيف وأين سطعت شمس الإسلام بعد سقوط الأندلس؟ كيف جاء غروب شمس الإسلام في الأندلس في غرب أوروبا متزامنًا مع إشراقها وسطوعها في القسطنطينية شرق أوروبا؟

ما هي مأساة بَلَنْسِيَّة؟ وكيف قُتل ستون ألف مسلم في يوم واحد؟ وما هي مأساة أوبذّة؟ وكيف قُتل ستون ألف مسلم آخرين في يوم واحد؟

ما هي مأساة بَرْبُشْتُر، وكيف قُتل أربعون ألف مسلم في يومٍ واحدٍ، وسُبي سبعة آلاف فتاة بكر من فتيات بَرْبُشْتُر؟ وإننا لنشاهد هذه الأحداث الغابرة تتحدث الآن عن نفسها في البوسنة والهرسك وغيرها من بلاد المسلمين...

ماذا كان ردّ فعل المسلمين، وكيف تصرفوا، وكيف قاموا من هذه المآسي المفزعة؟، أسئلة كثيرة وكثيرة، لو استطعنا الإجابة عنها؛ لعرفنا كيف ننهض الآن ونقوم.

إن تاريخ الأندلس بصفحاته الطويلة - أكثر من ثمانمائة سنة - يُعدّ ثروةً حقيقية، وثروة ضخمة جدًّا من العلم والخبرة والعِبرة، ومن المستحيل في هذه الدراسة أن نلمّ بكل أحداثه وتفصيلاته، بل لا بدّ وأن نُغفل منه بعض الجوانب، ليس تقليلًا من شأنها، وإنما اختصارًا للمساحة.

ومن الواجب على الجميع أن يبحث في هذا التاريخ، تاريخ الأندلس، تاريخ ثمانمائة سنة؛ إذ هو يحتاج أكثر وأكثر مما أفردنا له، فلا بدّ من القراءة والاستزادة من المصادر التاريخية وغيرها.

وتاريخ الأندلس هذا يُعدّ جزءًا ضئيلًا جدًا من تاريخ الدولة الإسلامية ذات الألف وأربعمائة عام من الزمن، وذات الأبعاد الجغرافية الهائلة من المساحة، فانظر أيها المسلم إلى العمل الذي يجب أن تفعله، ولا تركن أبدًا إلى الدَّعة والكسل، لا تركن أبدًا إلى السكون، فأمامك طريق طويل جدًا حتى تتعرف على سنن الله - سبحانه وتعالى -.

طبيعة الجهاد في الإسلام

قبل الخوض في تاريخ الأندلس من حيث ترتيب الأحداث منذ الفتح وحتى السقوط، منذ عام 92 هـ= 711 م حتى عام 897 هـ= 1492 م قبل الخوض في تفصيلات هذه الأحداث، هناك بعض الأسئلة التي قد تدور في أذهان البعض نحاول الإجابة عليها، ومن أهمّها:

لماذا حمل المسلمون سيوفهم وخرجوا بجيوشهم متوجهين إلى الأندلس لفتحها؟

فالأندلس دولة مستقلّة ذات سيادة، ويحكمها القوط النصارى في ذلك الزمن، والمسلمون دولة كبيرة جدًا وهم جيرانهم، فلماذا يحمل المسلمون سيوفهم ويتوجهون إلى فتح هذه البلاد؛ ليعرضوا عليها ثلاثتهم المعهودة: الإسلام أو الجزية أو الحرب؟

فهذا العمل يُعَدّ الآن في مصطلح الشرعية الدولية بمثابة تعدٍ على حدود دولة مجاورة ذات سيادة. فلماذا إذن حمل المسلمون السيف وانتقلوا إلى البلاد المجاورة؟ ومن هذا السؤال بالذات يتولد عند كثير من الناس استنتاج واستنباط هو في غير محلّه على الإطلاق، ومجافٍ للحقيقة تمامًا، إنه قولهم: إن الإسلام انتشر بحدّ السيف. فهذه مشكلة كبيرة تعترض كثيراً من الدعاة، خاصة من قِبل أصحاب المناهج العلمانية.

ولكن كيف وقد قال الله - سبحانه وتعالى - في كتابه الكريم: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) [البقرة: 256].

ويبقى السؤال: كيف نوفّق بين حمل المسلمين سيوفهم وخروجهم إلى هذه البلاد، وبين قوله - تعالى -في الآية السابقة: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256].

ولتوضيح هذا الأمر نقول: الجهاد في الإسلام نوعان:

نوع يسمى جهاد الدفع، وآخر يسمى جهاد الطلب، وجهاد الدفع هو: ذلك الجهاد الذي يتبادر إلى الذهن من أول وهلة، ويعني الدفاع عن الأرض، وهو أمر مقبول ومفطور على فهمه عوام الناس، سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين.

أما النوع الآخر والذي لا يستوعبه كثير من الناس فهو ما يُسمّى بجهاد الطلب، أو جهاد نشر الدعوة، أو جهاد تعليم الآخرين هذا الدين، فالإسلام هو الدين الخاتم، وهو كلمة الله الأخيرة إلى الناس، وقد كلّف الله هذه الأمة - أمة الإسلام - أمر نشر هذا الدين في ربوع العالم، وتعليم الناس - كل الناس - مراد ربهم - عز وجل - الذي أنزله على نبيه محمد خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم-.

ومن سنن الله - سبحانه وتعالى - أن يكون هناك أقوام ممن يَحكمون شعوبًا غير إسلامية يحولون دون وصول هذه الدعوة إلى شعوبهم، ويقفون بكل ما أوتوا من قوة في الحدّ من انتشارها، وفي هذه الحالة شُرع للمسلمين أن يتوجهوا بجيوشهم وسيوفهم؛ لحماية الدعاة إلى الله - سبحانه وتعالى -؛ لنشر هذا الدين، وتعليمه للآخرين، فمَنْ لهؤلاء الذين يولدون في بلادٍ يعلمونهم أن المسيح هو الله؟ ومَنْ لهؤلاء الذين يولدون في بلاد يعلمونهم أن البقرة هي الإله؟ ومَنْ لهؤلاء الذين يولدون في بلاد يتعلمون أنهم خُلقوا من عدم، وأن ليس للكون إله، وأن الطبيعة هي رب الكون؟.

مَنْ لهؤلاء؟ وَمَنْ يعلمهم إذا لم يعلمهم المسلمون أصحاب الرسالة الخاتمة؟ وقد جعل الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والرسل، ولن يكون هناك نبي أو رسول يبعثه الله - عز وجل - من بعده - صلى الله عليه وسلم -، فمَن لهؤلاء إذن غير هذه الأمة الشاهدة؟ وقد قال - سبحانه وتعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143].

إنها مهمّة أمة الإسلام، أمّة الشهادة، ستشهد على الأمم عند الله - سبحانه وتعالى - وتقول: يا رب، ذهبت إليهم وعلمتهم وشرحت لهم، وجاهدت في سبيلك، لكنهم أنكروا، أو اتبعوا. فهذه الأمة شاهدة بهذا الجهاد، وبتوصيل دعوتها الربانية إلى هذه الأمم.

والطبيعي أن يكون هناك من يمنعك ويصدّك، ويقف بكل ما أوتي من قوة حائلًا بينك وبين مَن تريد توصيل الدعوة إليهم؛ وذلك لأنهم- وهم الحكام- مستفيدون من عبادة هؤلاء الناس لغير الله - سبحانه وتعالى -، فإذا حُكِّمَ شرعُ الله انتقلت الحاكمية من هؤلاء الناس- الحكام - إلى الله - سبحانه وتعالى -ـ، وهم لا يريدون ذلك، ومن هنا سيقفون أمامك بجيوشهم وسيوفهم، ولن تجد من سبيل إلا أن تقف أنت أيضًا أمامهم بجيشك وسيفك؛ حتى تحمي الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى -.

والمسلمون كما تربوا لا يقاتلون الشعوب، هذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخاطب الجيوش الفاتحة فيقول: اتقوا الله في الفلاحين، اتقوا الله في عموم الناس. وهم المغلوبون على أمرهم، الذين لا يهمهم مصلحة الحاكم هذا أو ذاك، إنما يريدون أن يتعلموا أين الخير فيتبعوه، اتقوا الله في هؤلاء، يقول: ولا تقتلوا إلا من قاتلكم.

فكان المسلمون يتجنبون تماما إيذاء أيّ أحدٍ لم يقاتلهم، ولو أذًى يسيرًا، فتجنبوا الأطفال والنساء والعُبّاد في الصوامع والضعفاء والكهول الذين لا يستطيعون قتالًا، بل إنهم تجنبوا الأقوياء الذين لم يعاونوا، أو يشتركوا في قتال المسلمين، وكان المسلمون يقاتلون الجيوش فقط، يقاتلون الحُكّام الذين عَبّدوا الناس لغير الله - سبحانه وتعالى -.

لماذا تكون الدعوة إلى الله مصحوبةً بالجيش؟

وهنا قد يسأل سائل: إذا سمح لك هؤلاء الحكام بالدعوة إلى الله في بلادهم، كأن تقوم مجموعة من الدعاة المسلمين بالذهاب إلى هذا البلد أو غيره، والدعوة إلى الله فيه دون جيش أو قتال أو جزية، ويختار الناس ما يشاءون، إذا سُمح بذلك فهل يقبل المسلمون هذا ويتخلّون عن الجيش والسيف؟ وما هو موقفهم؟ ولماذا لم يبعث المسلمون أناسًا يدعون إلى الله بدون جيش؟ لماذا لم يبعثوا من يدعو إلى الله في الأندلس وفي الروم دون أن يخرج خلفهم جيش؟ أليس الإسلام قد انتشر في إندونيسيا والفلبين وماليزيا، وغيرها من الدول بالتجارة ودون سيف؟.

وفي حقيقة الأمر فإن في هذا الكلام افتراض غير واقعي وغير عملي، ففكرة أن الدعاة إلى الله يخرجون إلى مثل هذه البلاد بدون جيش؛ أمر يُعدّ مخالفًا لسنن الله - سبحانه وتعالى - في أرضه وفي خلقه، بل إنه مخالف للتاريخ والواقع؛ ففي التاريخ نجد أن دولًا ضخمةً جدًا دخلت في الإسلام عن طريق الفتوحات الإسلامية، أما القلّة الاستثنائية فهي التي دخلت الإسلام عن طريق التجارة، وللأسف فإن هناك كثير من الناس خاصة مِن المسلمين مَنْ يصوّر الأمر بغير ذلك، عن وعي منهم، أو عن غير وعي -؛ استحياء من فتح المسلمين للبلاد الأخرى.

لكن الدين الإسلامي وهو دين الله الكامل الشامل ليس فيه ثغرات، وليس فيه ما نستحي منه أو نخفيه عن الآخرين، فهذه دولة فارس والتي تشمل الآن: العراق وإيران وباكستان وأفغانستان وكل دول الاتحاد السوفيتي الجنوبية، والتي تمثّل أكثر من خمسة عشر إلى ستة عشر من جملة الاتحاد السوفيتي السابق، كل هذه البلدان من هذه الدولة الفارسية أسلمت، ودخلها المسلمون عن طريق الفتح الإسلامي العسكري، بالجيوش والجهاد والاستشهاد والحروب المريرة لسنواتٍ طويلة، ومثلها أيضًا دولة الروم، وكذلك بلاد الشام التي تشمل فلسطين والأردن وسوريا ولبنان وأجزاء من جنوب تركيا، بالإضافة أيضا إلى بلاد آسيا الصغرى، كل ذلك فُتح بالجهاد في سبيل الله، دولة الروم فُتحت فتحًا عسكريًا، وليس فتح القسطنطينية خافيًا عن العيون، وكذلك أيضًا كل بلدان شرق أوروبا، وكان منها على سبيل المثال: بُلغاريا واليونان ورومانيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وأجزاء من النمسا ويوغوسلافيا بكاملها وقبرص ومالطا، كل هذه البلدان فُتحت بالجهاد في سبيل الله في زمن الخلافة العثمانية، وعاش فيها الإسلام ردحًا من الزمن، ثم ما لبث أن اختفى منها.

وأيضاً دول شمال إفريقيا كلها فُتحت بالجهاد في سبيل الله، ابتداءً بمصر ومرورًا بليبيا ثم تونس ثم الجزائر ثم المغرب، ومثلها أيضًا دول وسط وغرب إفريقيا فقد فُتحت أيضًا بالجهاد في سبيل الله.

ثم على سبيل الاستثناء دخل الإسلام ماليزيا وإندونيسيا عن طريق التجارة، أبعد ذلك يُغلَّب هذا الأمر الذي حدّث على سبيل الاستثناء على سنة الله - سبحانه وتعالى - في نشر دينه عن طريق الجهاد في سبيل الله؟! فهذا أمر لا يُعقل، ولا يمكن أن يُقرّه أحد.

إذن بقيت القاعدة التي تقول: إن هؤلاء الحكام الذين يحكمون الشعوب المجاورة للدولة الإسلامية لن يتركوا المسلمين أبدًا يدعون إلى الله - سبحانه وتعالى - في حراسة جيش من الجيوش، ومن هنا شرع الله - سبحانه وتعالى - الجهاد فأصبح سنّة ماضية إلى يوم القيامة.

حقيقة الحرية في البلدان الغربية

إذا نظرنا إلى الأمر نظرة واقعية نجد أن الناس اليوم قد فُتنوا بما أُشيع عن حرية التعبير في البلدان الغربية مثل: أمريكا، وفرنسا، وإنجلترا، ودول الغرب بصفة عامة، حتى ظنوا أن طريق الدعوة مفتوح، ومن ثم راحوا يقولون: ابعثوا من يدعو إلى الله في هذه الدول فلن يكون هناك من يعوقهم.

لكن الحقيقة أن هذا الأمر ليس متروكًا هكذا بدون وعي منهم أو إدراك، فإنهم ما تركوا مثل هذه الحرية المزعومة إلا لمعرفتهم أن المسلمين لم يصلوا بعد إلى القوة المؤثرة المغيِّرة في هذه البلاد، ولو وصل المسلمون إلى المستوى الذي يرى حكامُ الغرب فيه أنه سيؤثّر على سياسة بلادهم فلن يكون هناك حرية، ولن يكون هناك سماح بالدعوة للإسلام، بل سيقفون لهم بالمرصاد، فهذه الدول لا تسمح بقيام دول إسلامية خارج حدودها، فما الحال لو قامت هذه البلاد الإسلامية أو الدول الإسلامية أو مجرد الفكر الإسلامي المنهجي داخل هذه البلاد؟ فها هي السودان البلد الفقير والضعيف نسبيًا بالمقارنة بغيره من الدول حينما أعلنت تطبيق الشريعة الإسلامية في بعض ولاياتها قامت الدنيا ولم تقعد، وقامت دول الغرب هذه ،وأمريكا على رأسها بضرب مصنع الأدوية الموجود في الخرطوم بحجة أنه يصنّع موادًا كيماوية.

فهذه مجرد بادرة قيام لدولة إسلامية في مكان ضعيف معزول، وبعيد تمام البعد عن هذه البلاد الغربية. ومثلها فعلت فرنسا بلد الحريات والتنوير، وبلد الحضارة كما ملؤوا أسماعنا، فحين بدأت الفتيات الصغيرات يدخلن المدارس محجبات صالت صولتهم، وتم منعهن من دخول المدارس، أما إذا دخلن بلباس فاضح فبها ونعمت. ولِمَ يكون ذلك؟ إنهم يحاولون بكل ما يستطيعون من قوة وقف المدّ إسلامي، ويعرفون جيدًا أن هذا الفكر الإسلامي هو الذي يتناسب مع الفطرة السليمة، ومن السهل أن ينتشر، ويُكتب له النجاح والغَلَبَة، ومن ثَمّ فهم يسعون لإيقافه، والحادثة مشهورة ومعروفة للجميع.

وفي أمريكا منذ سنوات قليلة كانوا في الكونجرس يسعون لتمرير قانون يسمح بالقبض على من يُخلّ بالأمن القومي الأمريكي بدون دليل، أي قانون يشبه قانون الطوارئ المعروف، وهذا أمر غير شرعي عندهم؛ إذ لا بد أن يكون هناك دليل قبل أن يُدان الإنسان، أو يُتّهم، أو تُقيّد حريتُه، ولقد كان هناك بعض الدلائل التي تشير إلى إمكانية تطبيق هذا القانون، والذي بموجبه يمكن الإمساك بالناشطين في الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى - بحجة مسّ الأمن القومي الأمريكي أو الإرهاب.

وتشير بعض الشواهد إلى أن هذا القانون ربما يتمّ تمريره وتطبيقه في وقت قريب.

فهذه البلاد لن تسمح على الإطلاق للدعاة إلى الله - سبحانه وتعالى - بالقيام بدورهم في هداية الناس وتعريفهم بربهم، ولن يستطيع الدعاة القيام بهذه المهام إلا إذا كانوا محميين بقوة تحوطهم وتحرسهم، هذه القوة هي قوة الجيش الإسلامي والفتح الإسلامي، وقوة الجهاد في سبيل الله، ثم إذا افترضنا أن بلدًا مما ذُكر سابقًا من أدعياء الحرية سُمح فيه بالدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى -، وسمح فيه بالمقال الإسلامي، والكتاب الإسلامي، والشريط الإسلامي، ثم يخرج عليك بعد ذلك في مقابل المقال الإسلامي بعشرة آلاف مقال علماني، وفي مقابل الصورة الإسلامية الهادفة عشرة آلاف صورة فاضحة تثير شهوات الناس، وتبعدهم عن دين الله - سبحانه وتعالى -، بل وعن الأخلاق الإنسانية، وفي مقابل دعوتك إلى أن الله - سبحانه وتعالى - واحد تجد عشرات المؤلفات التي تقول: إن الله هو المسيح، معاذ الله من هذا القول ومن الشرك به - سبحانه وتعالى -.

فإن كان هذا الأمر على هذا النحو فهل ستؤدي الدعوة الإسلامية نتيجتها وسط هذا الركام الضخم جدًا من المضادات المناوئة لها؟، ودعوة الإسلام إنما هي محاولة لإدخال كل البشر وكل الخلق في دين الله - سبحانه وتعالى -، وتعبيدهم له وحده، ومن هنا شُرع الجهاد في سبيل الله، وشُرع فتح البلاد المجاورة لأمة الإسلام حتى وإن أبت في بادئ الأمر.

زمن فتح الأندلس

في أي زمان تم فتح الأندلس؟ سؤال مهم جدا ونقصد به: مع أي العصور الإسلامية يتوافق تاريخ فتح الأندلس وهو اثنتان وتسعون من الهجرة؟ والجواب أن هذه الفترة كانت من فترات الدولة الأموية، وتحديدًا في خلافة الوليد بن عبد الملك - رحمه الله - الخليفة الأموي الذي حكم من سنة 86 هـ= 705 م إلى 96 هـ= 715 م وهذا يعني أن فتح الأندلس كان في منتصف خلافة الوليد الأموي - رحمه الله -.

وهذا التاريخ يجرّنا إلى الحديث عن الدولة الأموية المظلومة في التاريخ الإسلامي، تلك الدولة التي أُشيع عنها الكثير والكثير من الافتراءات والأكاذيب والأحداث المغلوطة التي تشوه صورتها، وبالتالي صورة التاريخ الإسلامي كله، وذلك حتى يتسنى للمتربصين القول بأن التاريخ الإسلامي لم يكن إلا في عهد أبي بكر وعمر، حتى وصل الأمر إلى الطعن في تاريخ أبي بكر وعمر أنفسِهما مع علم الجميع بفضلهما.

ولا يخفى على الجميع المراد من ذلك، وهو أن يترسّخ في الأذهان عدم الاعتقاد بقيام أمة إسلامية، أو دولة إسلامية من جديد، فإذا كان هذا شأن السابقين القريبين من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذا كان هذا شأن دولة بني أمية وبني العباس وغيرهما من الدول التي لم تستطع أن تقيم حكمًا إسلاميًا صالحًا - في زعمهم - فكيف بالمتأخرين؟ وهي رسالة يريدون أن يصلوا بها إلى كل المسلمين، وليس لهم من غرض وراء ذلك إلا أنهم (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة: 32].

حروبنا وحروبهم

ووسط كل هذا يخرج من يتشدق بالقول: إن هذا الزمان ليس زمن الحروب العسكرية، أو التغيير العسكري، أو الفتوحات المزعومة، إنما هو زمن السلم وزمن السياسات والمفاوضات.

لكن واقع الأمر يشهد بأن هناك حروبًا عسكرية دائرة وتدور في كل وقت، ومع ذلك يُلام المسلمون على فتوحاتهم الإسلامية السابقة في الشمال الإفريقي، وفي فارس، وفي الأندلس، وفي غيرها، ولا تُلام إسرائيل - مثلاً - على ما تفعله في فلسطين، وعلى ما فعلته في عام سبعة وستين وتسعمائة وألف في مصر وسوريا، وعلى ما فعلته في لبنان ثماني عشرة سنة.

المسلمون يلامون وقد دخلوا البلاد؛ لينشروا فيها العدل والرحمة والدين، ويعبّدوا الناس لرب العالمين، ولا تُلام إسرائيل وقد دخلت البلاد التي احتلتها فقتلت ونهبت وسرقت، وفعلت الكثير والكثير من الموبقات.

أيُلام المسلمون على هذه الفتوحات المجيدة التي علّموا فيها الناس دينهم، وهدوهم إلى طريق ربهم، ولا تُلام إسرائيل على ضرب المفاعل النووي -مثلاً- في العراق أو ضرب تونس؟! أو على ضرب أمريكا لمصنع الأدوية - كما ذكرنا - في السودان؟! ألا تُلام أمريكا ودول الغرب على حروب متتالية ضد دولة العراق؟! ألا تُلام أمريكا على تدمير العراق وشعبه، وتدمير بنيته التحتية، ووفاة أكثر من نصف مليون طفل عراقي بسبب نقص التطعيمات ونقص الغذاء؟!

لا يُلامون على ذلك، ويُلام المسلمون على نشرهم العلم والدين والرحمة والعدل في ربوع العالم أجمع!

لا يلام الصرب على أفعالهم في البوسنة والهرسك، وعلى ما فعلوه في كوسوفا من قتل مائتي ألف أو أكثر في كل واحدة من الاثنتين، وعلى هتك عرض خمسين ألف فتاة مسلمة، ويُلام المسلمون على الحريات العظيمة التي أعطوها للنصارى واليهود في حكم الدولة الإسلامية!

ألا تلام روسيا على اجتياح الشيشان، واجتياح أفغانستان، وتدمير المنشآت المدنية في هذه البلاد، وقتل المدنيين ليل نهار، ويُلام المسلمون على نشر العلم والمدنية في ذات البلاد وكانت من قبل تعبد النار؟!

أيُلام المسلمون على فتحهم لجمهوريات جنوب روسيا بصفة عامة، ولا يلام الروس والصينيون الذين احتلوا أجزاءً كثيرة من هذه البلاد، وحكموا الناس فيها بالحديد والنار أعوامًا وأعوامًا، حتى أنهم قتلوا كل من كان يخفي في بيته مصحفًا؟! أيوجه هذا اللوم إلى المسلمين، أم إلى هؤلاء الذين حكموا باسم الحضارة الحديثة والمدنية والتقدّم وما إلى ذلك من أسماء؟!!

تاريخ المسلمين مليء بصفحات الشرف والعزة والمجد، وهؤلاء إنما يريدون تغيير هذه الصفحات المشرقة عن عمد؛ حتى يشعر المسلمون بشيء من الاستحياء تجاه تاريخهم، وإنما التاريخ الإسلامي صفحات بيضاء ناصعة، يُشرّف كل المسلمين، ويعلي من قدرهم، وإنما الاستحياء كل الاستحياء يجب أن يكون من أدعياء الحضارة والمدنية، وفُعّال الفحش والموبقات.

رسالة المسلمين

وهناك اعتراض آخر من قائل يقول: لندع الناس يعبدون ما يشاءون، لماذا نشغل أنفسنا بتعليمهم أن الله - سبحانه وتعالى - واحد؟ لماذا نجيّش الجيوش حتى نعلمهم هذا المفهوم؟ لماذا لا ندعهم أحرارًا يعبدون ما يعبدون من دون الله - سبحانه وتعالى -؟.

والجواب: أن الله - سبحانه وتعالى - جعل للمسلم رسالة عليه أن يؤديها، وهذه الرسالة لََخّصها رِبعِي بن عامر في حواره مع قائد عسكر الفرس في موقعة القادسية حين قال - رضي الله عنه -: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جوْر الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعة الدنيا والآخرة.

فهذا هو مراد المسلم وهذه هي رسالته في الدنيا، روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110]. قَالَ: خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ، تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ.

أي إذا كان الناس يأبون الدخول في الإسلام تأتي بهم ولو في السلاسل حتى يدخلوا فيه، فتنقذهم من أن يخلدوا في نار خالدة، وتنقذهم من العيش في جور الأديان، ومن ظلم الحكام إلى العيش في عدل الإسلام، والعيش في سَعة الدنيا والآخرة، تمامًا كمن يريد أن يلقي بنفسه من مكان مرتفع جدًا؛ فأسرعت أنت وجذبته من يده وأنقذته، هل يأتي من يلوم عليك إيلام يده، أو أنك جذبت يده بقوة؟ وإذا كنت قد أنقذته من هاوية الموت المحقق الذي لن يلومك عليه أحد، فبالأحرى أن تنقذه من هاوية أبدية إنها هاوية الجحيم، بالأحرى إذن أن تنقذه من أن يخلد في نار جهنم، وتهديه إلى هذا الدين وتُعَلّمه إياه، وبالأحرى أن تأتي له بالجيش الذي يؤثّر فيه؛ حتى يسمع كلام الله - سبحانه وتعالى -؛ فإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وكثير من الناس لا يسمع إلا إذا كان الداعي محاطًا بقوة وبجيش كبيرين، وهنا يبدأ يسمع ويفكّر فيجد أن ما كان يرفضه هو النجاة، وما كان يريد اتباعه هو الهلاك المحقق الذي لا فكاك منه، والكثير من الأمم التي دخلت في دين الله أفواجًا حين دخل الفاتحون دخلوا غير مكرَهين ولا مضطرين.

وقد يقول قائل: إن هذا الفتح ودخول هذا الجيش يتعارض مع قوله - تعالى -: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256].

والحقيقة أن هذا الفتح وهذا الدخول للجيش لا يتعارض مطلقًا مع هذه الآية الكريمة، فالمسلمون حين يدخلون هذه البلاد يعرّفونهم أولاً دينَ الله - سبحانه وتعالى -، ثم يُخيّرونهم جميعًا بين أن يظلّوا على إيمانهم بمعتقداتهم، أو يعبدوا الله - سبحانه وتعالى -، فمن أراد أن يبقى في ظلم الشرك وفي ظلم الجاهلية بقي فيه، ومن أراد أن يدخل في نور الإسلام دخل فيه، وكانت له سعادة الدنيا والآخرة.

حاجة الجميع للإسلام

إن الناس اليوم جميعًا في حاجة ماسّة إلى الإسلام، وإن أبوا ذلك فالعالم بلا شكٍ يتجه إلى كارثةٍ محققة، والدول العظمى التي تتحكم في هذه الأمم اليوم تكيل بأكثر من مكيال، وتجعل الظلم قاعدة من القواعد التي ترسّخها في العالم، والأدواء والأمراض الأخلاقية لا حصر لها.

وبعيدا عن الأمراض الأخلاقية وضحاياها كانت لعلكم قرأتم أو سمعتم عن المؤتمر الأخير لمرضى الإيدز -مرض نقص المناعة المكتسبة- الذي جاء فيه: أنه في خلال العشرين سنة الماضية -من سنة ثمانين وتسعمائة وألف إلى سنة ألفين- قُتل عشرون مليونًا من البشر بسبب الإيدز، وأن أقلّ معدلات الإصابة بهذا المرض كانت في البلاد الإسلامية، ولعل ذلك كان نتيجة طبيعية؛ لأن هذا المرض الأخلاقي ينتشر بسبب غياب الوازع الديني، وبُعد الناس عن دين الله - سبحانه وتعالى - وعن شرعه - عز وجل -، فعموم الناس في الدول الإسلامية مرتبطة بشرع الله - سبحانه وتعالى -، حتى إن كان هذا الارتباط ضعيفًا، بعكس ما في الدول غير الإسلامية، والتي تنكر بالكلية منهج الله - سبحانه وتعالى -، ونظرة واحدة على تاريخ كل المعارك والفتوحات الإسلامية لا تجد ضحاياها يقتربون من واحد على مائة من العشرين مليوناً السابقة، هذا غير سبع وثلاثين مليوناً آخرين من حاملي هذا المرض اللعين ينتظرون الموت.

هناك المذابح والمجازر والانقلابات التي تحدث في إفريقيا وفي أمريكا الجنوبية وغيرها من البلاد، كثير من القتلى يموتون في بشاعة منقطعة النظير، لماذا؟ لأنه ليس هناك إسلام يحكم أو يسود، لم يكن هناك دين الرحمة والعدل والإنسانية، لم يكن هناك ما يجعل الناس يعيشون في سعادة دنيوية، ومن ثم سعادة أخروية، ومع هذا الظلم من الإنسان لغيره كان أيضًا ظلمه لنفسه، وهو الشرك بربه خالقه - سبحانه وتعالى -، قال - سبحانه وتعالى - على لسان لقمان: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13].

التعريف ببلاد الأندلس

وفي بداية الحديث عن تاريخ الأندلس نجيب أولًا عما قد يُثار من أسئلة حول معنى هذه الكلمة والمراد منها، فبلاد الأندلس هي اليوم دولتي إسبانيا والبرتغال، أو ما يُسمّى شبه الجزيرة الأيبيرية، ومساحتها (مجموع الدولتين) ستمائة ألف كيلو متر، أي أقل من ثُلثي مساحة مصر.

ويفصل شبه الجزيرة عن المغرب مضيق أصبح يُعرف منذ الفتح الإسلامي بمضيق جبل طارق،

-ويسميه الكتاب والمؤرخون العرب باسم درب الزقاق- وهو بعرض 12. 8 كم بين سبتة وجبل طارق.

وعن سبب تسميتها بالأندلس: فقد كانت هناك بعض القبائل الهمجية التي جاءت من شمال إسكندناف من بلاد السويد والدنمارك والنرويج وغيرها، وهجمت على منطقة الأندلس، وعاشت فيها فترة من الزمن، ويقال أن هذه القبائل جاءت من ألمانيا، وما يهمنا هو أن هذه القبائل كانت تسمى قبائل الفندال أو الوندال باللغة العربية؛ فسميت هذه البلاد بفانداليسيا على اسم القبائل التي كانت تعيش فيها، ومع الأيام حُرّف إلى أندوليسيا فأندلس.

وقد كانت هذه القبائل تتسم بالوحشية والهمجية، وفي الإنجليزية إلى الآن همجية ووحشية وتخريب تعني (Vandalism)، وتعني أيضا أسلوب بدائي، أو غير حضاري، وهو المعنى والاعتقاد الذي رسخته قبائل الفندال، وقد خرجت هذه القبائل من الأندلس، وحكمها طوائف أخرى من النصارى، عُرفت في التاريخ باسم قبائل القوط (GOTHS) أو القوط الغربيين، وظلّوا يحكمون الأندلس حتى قدوم المسلمين إليها.

لماذا تَوَجّهَ المسلمون إلى الأندلس دون غيرها

لماذا اتّجه المسلمون في فتوحاتهم إلى بلاد الأندلس خاصّة من بلاد العالم، وأيضًا لِمَ هذا التوقيت بعينه أي سنة 92 هـ= 711 م؟.

كان المسلمون في هذا الوقت قد فتحوا الشمال الإفريقي كله، ففتحوا مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، ووصلوا إلى حدود المغرب الأقصى والمحيط الأطلسي، ومن ثَمّ لم يكن أمامهم في سير فتوحاتهم إلا أحد سبيلين، إما أن يتجهوا شمالًا، ويعبروا مضيق جبل طارق، ويدخلوا بلاد إسبانيا والبرتغال وهي بلاد الأندلس آنذاك، وإما أن يتجهوا جنوبًا صوب الصحراء الكبرى ذات المساحات الشاسعة والأعداد القليلة من السكان...

ولما كان هدف المسلمين هو البحث عن التجمعات البشرية؛ حتى يعلموهم دين الله - سبحانه وتعالى -، ولم يكن من أهدافهم البحث عن الأراضي الواسعة أو جمع الممتلكات، ولأن المسلمين قد وصلوا إلى الحدود القريبة من الأندلس مباشرة، واستتبّ لهم الأمر في أواخر الثمانينيات من الهجرة فيما دون ذلك من البلاد التي فتحوها -، كما سيأتي تفصيله بإذن الله – .

فالأندلس إذن هي البلاد التي تلي بلاد المسلمين مباشرة والله - تعالى -يقول في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ) [التوبة: 123].

على هذا النهج سار المسلمون في كل فتوحاتهم، ويجسد هذا المنهج ذلك الحوار الذي دار بين معاذ بن جبل - رضي الله عنه - وبين ملك من ملوك الروم قبل موقعة اليرموك، وكان رسولا إليه، سأل ملك الروم رسولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل: ما الذي دعاكم إلى الولوغ في بلادِنا وبلادُ الحبشة أسهل عليكم؟ وقد كانت الروم آنذاك تقتسم العالم مع فارس، فيسأل ملكُ الروم متعجباً: كيف تَطْرقون أبواب القوة العظمى، وتتركون الحبشة وهي الأسهل والأيسر؟! فأجابه معاذ بن جبل قائلا: قال لنا ربنا في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ) [التوبة: 123].

أنتم البلاد التي تلينا، ثم بعد الانتهاء من بلاد الروم سنجَوِّزها إلى الحبشة وغيرها من البلاد. أي أننا لم ننس الحبشة، ولكن أنتم المجاورون لنا، وهكذا كان الحال بالنسبة إلى الأندلس؛ حيث كانت هي التي تلي بلاد المسلمين.

راغب السرجاني

أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.

  • 26
  • 1
  • 48,297

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً