(10) لا فقه واقع ولا فقه سُنة
أبو محمد بن عبد الله
لم أرَ من استدل به على أن الأمة لا تفهم ما تقرأ مما هو مكتوب مسطور، أو مسموع مقروء، أو مشاهَد منظور، ولا أنها لا تعرف الحساب، وأبعدُهم عن نجعةٍ من استدل به على إخراج فقه الواقع السياسي من دائرة الإمكان، وصنَّفه في قوادح الشريعة، ثم ولَّاه للعلمانيين دون العلماء المسلمين!
تأصيل مثل هذا بمثل هذا لاستدلال، ينمّ على أن صاحبه لم يفقه الواقع الذي يؤصِّل له، ولم يفهم الحديث الذي يؤصل به، فلا فقه واقع ولا فقه حديث.
- التصنيفات: مذاهب باطلة - مذاهب فكرية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
نتابع مناقشة مسألة التأصيل لترك بعض علماء الشريعة لقيادة الأمة إلى جانب أمرائها، فهما معًا الأولياء، بتأصيل غير صحيح، وذلك أن تأصيل مثل هذا بمثل هذا الاستدلال، ينمّ على أن صاحبه لم يفقه الواقع الذي يؤصِّل له، ولم يفهم الحديث الذي يؤصل به، فلا فقه واقع ولا فقه حديث.
مورد الحديث:
وحديث: «إنا أمة أمية..» الذي يستدلون به، هو مُبَيَّن بتكملته من الحديث نفسه؛ حيث بَيَّن فيما تتمثل أمية الأمة، لا أنها جاهلة بالكتابة والقراءة والحساب مطلقًا، فضلًا عن أن تكون أمية عن فهم وقائع الأحداث وتحليلها بالعقل والحكم عليها بالشرع، أو أن علماء شريعتها أمِّيون لا يستطيعون العلوم الدقيقة الخاصة، أو أن علم كلَّ شيء يجب على كلِّ أحد في الأمة، فإن لم تُطِقْهُ العامة امتنع عن الجميع!
ففي الحديث: «إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا» وعقد الإبهام في الثالثة «والشهر هكذا، وهكذا، وهكذا» يعني تمام ثلاثين. (مسلم؛ صحيح مسلم، رقم: [1080]). والوقوف دائمًا عند شطره الأول يوحي بمعنى آخر، بل يوهم المعنى الخطأ؛ بإجراء العموم في غير موضعه، بل إن تَعمُّد هذا الاجتزاء يكون من تحريف الكلم عن مواضعه. فمورد الحديث في أمر خاص، لم يستدل به العلماء على غيره؛ وآخره يُبَيِّن أوّلَه؛ فهو ينفي أن يكون عمل الأمة على التنجيم وكتاباته وحساباته.
قال على القاري: "«إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» فإنه يدل على أن معرفة الشهر ليست إلى الكتاب والحساب كما يزعمه أهل النجوم، وللإجماع على عدم الاعتداد بقول المنجمين ولو اتفقوا على أنه يُرى" (علي الملا الهروي القاري (المتوفى: 1014هـ)، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، [4/ 1372]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته». والمعتمد على الحساب في الهلال كما أنه ضال في الشريعة مبتدع في الدين فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب"[1].
وقال العيني: "قال ابن بطال وغيره: لم نكلّف في تعريف مواقيت صومنا ولا عبادتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، إنما ربطت عبادتنا بأعلام واضحة وأمور ظاهرة يستوي في معرفة ذلك الحساب وغيرهم، ثم تمم هذا المعنى بإشارته بيده ولم يتلفظ بعبارته عنه نزولا ما يفهمه الخرس والعجم" (انظر: بدر الدين العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، [10/ 287]).
الحديث ليس على إطلاقه
لكن هذا الحديث ليس على إطلاقه، فقد كان فيهم من يكتب ومن يحسب، ولهم علم الفرائض مِن أَحْسَبِ الحساب، وكتبوا الوحي، وانتشر في الأمة الكتابة والحساب، بل صار علم أكثر العلماء في الكتاب! فهل خالفت الأمة حديث نبيِّها صلى الله عليه وسلم حين قال: «إنا أمة أمية؛ لا نكتب ولا نحسب»؟!
قال الإمام الذهبي: "«إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب». أي لأن أكثرهم كذلك، وقد كان فيهم الكَتَبَةُ قليلاً. وقال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا} [الجمعة:2]. فقوله عليه الصلاة السلام: «لا نحسب» حق، ومع هذا فكان يعرف السنين والحساب، وقسم الفيء، وقسمة المواريث بالحساب العربي الفطري لا بحساب القبط ولا الجبر والمقابلة، بأبي هو ونفسي صلى الله عليه وسلم، وقد كان سيد الأذكياء" (الذهبي، سير أعلام النبلاء، [14/57]).
قال ابن العربي: "«إنا أمة لا نحسب ولا نكتب»، فإن هذا إنما جاء لبيان صورة معينة خاصة" (عن فتح الباري، [4/422])، وقال ابن حجر: "والأولى أن يقال أراد بنفي الحساب ما يتعاناه أهل صناعته من الجمع والضرب والتكعيب وغير ذل" (فتح الباري، [4/422]).
إذن هذا الحديث ليس على إطلاقه وعمومه، فهو من قبيل: "العام الذي أريد به الخصوص" [2]. يعني أنه لم يُرِدْ أنها أمية لا تكتب في شيء ولا تحسب، ولا أنها تبقى كذلك إلى قيام الساعة، وإنما عنى به حساب التنجيم وكتابته، مما هو أقرب إلى الكهانة منه إلى العلم.
وقال الذهبي: "فصدق إخباره بذلك، إذ الحكم للغالب، فنفى عنه وعن أمته الكتابة والحساب لندور ذلك فيهم وقلته، وإلا فقد كان فيهم كتاب الوحي وغير ذلك، وكان فيهم من يحسب، وقال تعالى: {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء:12]. ومن علمهم الفرائض، وهي تحتاج إلى حساب وعول، وهو عليه السلام فينفي عن الأمة الحساب، فعلمنا أن المنفي كمال علم ذلك ودقائقه التي يقوم بها القبط والأوائل، فإن ذلك ما لم يحتج إليه دين الإسلام ولله الحمد. فإن القبط عمقوا في الحساب والجبر، وأشياء تضيع الزمان وأرباب الهيئة تكلموا في سير النجوم والشمس والقمر، والكسوف والقِران بأمور طويلة لم يأت الشرع بها، فلما ذكر صلى الله عليه وسلم الشهور ومعرفتها بين أن معرفتها ليست بالطرق التي يفعلها المنجم وأصحاب التقويم، وأن ذلك لا نعبأ به في ديننا، ولا نحسب الشهر بذلك أبداً" (الذهبي، سير أعلام النبلاء، [1/ 74]).
ولم أرَ من استدل به على أن الأمة لا تفهم ما تقرأ مما هو مكتوب مسطور، أو مسموع مقروء، أو مشاهَد منظور، ولا أنها لا تعرف الحساب، وأبعدُهم عن نجعةٍ مَن استدل به على إخراج فقه الواقع السياسي من دائرة الإمكان، وصنَّفه في قوادح الشريعة، ثم ولَّاه للعلمانيين دون العلماء المسلمين!
فهل في الحديث أن الأمة أميَّة في كل شيء احتاج إلى تَخَصُّص؟!
بل؛ هل في الحديث أن الأمية ممدوحة مطلوبة؟
هل يعني أن نمدح الأمة بجهلها لما يدور حولها، مما تفتقت عليه قرائح البشر، من أفكار أو مخترعات لا تنافي الشرع؟
نحن اليوم نقول أن تَعَلُّم الإعلام الآلي من فروض الكفايات، وهو من أعقد العلوم وأخصِّها وأبعدها عن العامة، لأن أمورًا كثيرة من حياة الناس العوام ارتبطت به، بل به يجلس المحارب في غرفته ويطلق الصواريخ والقنابل على الأمة، وبطيَّارته المبرمجة وأسلحته المسماة بالذكية، وقد تفوق درجةُ عالمِهِ درجات بعض علماء الشريعة، وبه يُعرف الجنين في بطن أمِّه أذكر أم أنثى، وقد كان الموَرِّثون يجعلون ميراثه بين الذكر والأنثى، حتى يولد ويتبيَّن، كل ذلك لما لهذا من أثر وخطر على الأمة! وجماعة الطائفة المنصورة ليست محصورة في علماء الشريعة، وإنما هم منها، ومنها علماء الأدب والتاريخ وكل علم تضطر إليه الأمة، وتنصر به دينها وتقيم به دنياها، لتستغني به عن الأمم الكافرة. ومع ذلك لا يقال إن الأمة أمية فلا تطلب هذا العلم، كما لا يقال يجب على جميعها؛ لأن قُصاراه أن يكون من فروض الكفايات!
وأخيرًا فإن تأصيل مثل هذا بمثل هذا الاستدلال، ينمّ عن أن صاحبه لم يفقه الواقع الذي يؤصِّل له، ولم يفهم الحديث الذي يؤصل به، فلا فقه واقع ولا فقه حديث.
وهل هذه الأمة فعلاً أمة أمية، وهل في أميتها مدح أو لها طلب؟ هذا ما سنتناوله في مقالتنا القادمة بإذن الله تعالى.
ويتبع إن شاء الله تعالى
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 25/ 207.
[2] - خَبَرْتُ بعض المتكلمين بالعلم- طلاب علم- يناقشون في مسائل قررها العلماء، ولا يعرفون مبناها من قواعد الاستنباط وأصول الفقه! وحتى يصح لك الاستدلال، لا بد من معرفة قواعد الاستنباط، كقاعدتنا هذه.انظرها مثلا في: روضة الناظر لابن قدامة: 1/ 16، وإرشاد الفحول للشوكاني: 1/ 285، وغير ذلك.
يمكن مراجعة المقالات السابقة: أَعلماء عَلمانيون؟! (9): أمية الأمة وفقه الواقع
أَعَلمانيون؟! (8): فقه الواقع ليس فقه الخواص
أَعُلماء عَلمانيون؟! (7): فقه الشرع ليس فقها للواقع
أعلماء عَلمانيون؟! (6): فقيه بالشرع ليس فقيه بالواقع
----------------
تاريخ النشر: 23 ربيع الأول 1436 (14/1/2015)