كيف يتحمَّلُ بِرَبِّكُم!
أسماء محمد لبيب
أَيَا مُدَّثِّرًا بِدِثَارِ البرْدِ، ومُفْترِشًا فُرُش الصُّوفِ، ومُلْتَحِفًا بما يَرُمُّ عظامَكَ؛ تَذَكَّرْ ذاكَ الطفلَ الذي افْترَشَ الجليدَ، وتَلحَّفَ الصَّقَيعَ، وتَوَسَّدَ الحَجَرَ القاسِي لِوَجْنَتَيْهِ، وانكَشَفَتْ قَدمَاهُ، وكَفَّاهُ.
- التصنيفات: تربية النفس - تزكية النفس -
بِالَأمْس؛ أغمضتُ عينيَّ بصعوبةٍ؛ إذ شَعُرْتُ ببردٍ مؤلم بين الجفون؛ قد أَبْطأَ انطباقُهُما سريعًا كما اعْتَدتُّ دومًا دون تفكير.
يا للبرد القارسِ الذي لم تَسْلَمْ منه حتى جُفوني
ثم انْتَبَهْتُ فجأةً: جُفون! أيُّ جُفونٍ!
وَفَتَحتُ عينيَّ لا إراديًا!
تذكرتُ ذاك الصبىّ الذي جاءَ في التَّقريرِ الإخباريِّ عن مُخيَّم (عرسال)، بمن فيه من إخوةٍ لنا في الإسلام، تََقطَّعَتْ بِهم أحلامُ الدفءِ البسيط، قَفَزَتْ صورتُه أمامَ عينيَّ -دون إذنٍ- تُؤَنِّبُ جفوني على جرأتِها على التغافلِ والإغفاءِ، لنْ أنسَ الثلجَ الأبيضَ الذي جثم فوق أهداب عيونه ما حَييِتُ.
ثُمَّ أزاحتْ جانبًا تلك الصورةَ صورةٌ أخرى أشدُ وَخْزًا، صورةُ تلك الأمِّ التي تهرولُ حاملةً طفلِها، وقَدْ انْحَسَرَتْ أَكمامُ ملابسِه عن ذراعيه لِصِغَرِها عليه، وقَصُرَ سِروالُه، وبَدَتْ ساقُه عاريةً بالكاملِ، إلا من الثلجِ المنهمرِ زَخَّاتٍ على جلدهِ الرقيقِ، وأنامل قدميهِ الدقيقةِ؛ وهم يركضون فى رحلةِ البحثِ عن مأوىً، أو ربَّما عن مُجردِ جوربٍ مخروقٍ، أو شربةِ ماءٍ لم تتجمدْ بعدُ، يا إلهي!
ثم أزاحتها جانبًا صورةٌ ثالثةٌ؛ لذاك العجوزِ المُمْسكِ بمِعْوَلِهِ يَذُبُّ الثلجَ؛ عن مَدخلِ خيمتِه المصنوعةِ من (المشمع البلاستيكي)، وقَدْ كَشفَ عن قدميه بلا جَوربٍ كذاك الصبىِّ آنفًا، والحسرةُ خَنقَتْ دموعَه، فَابْتلعَ الكلماتِ في انكسارٍ بادٍ، وقهرٍ مُعْجِزٍ، قَهْرِ الرجالِ.
وتتَابَعتِ الصُّورُ جُلُّها كمطارقَ قدْ أَبَتْ علىَّ أدْنَى غَفْوةٍ الليلةَ، وأَفرَزَتْ تِلْكُمُ الكلماتِ فى رأسي تباعًا كحباتِ المسبحة:
أَيَا مُدَّثِّرًا بِدِثَارِ البرْدِ، ومُفْترِشًا فُرُش الصُّوفِ، ومُلْتَحِفًا بما يَرُمُّ عظامَكَ، ومُرتَِشفًا حَنَانًا لوجْهِك من حُضنِ وِسادَتِك الوَثِيرةِ:
أَدَامَ اللهُ عليكَ مَلاحِفَ الدَّفءِ بعضُها فوق بعضٍ.
هذا فضلُ الله يُؤْتيه من يشاءُ، ويقبِضْهُ عمن يشاءُ.
تمتعْ بالعافيةِ لا حَرجَ عليكَ، وسَلِ اللهَ مزيدًا من مزيد، لا بأس.
لكن تَذَكَّرْ ذاكَ الطفلَ الذي افْترَشَ الجليدَ، وتَلحَّفَ الصَّقَيعَ، وتَوَسَّدَ الحَجَرَ القاسِي لِوَجْنَتَيْهِ، وانكَشَفَتْ قَدمَاهُ، وكَفَّاهُ.
نعم؛ أَذْهِبْ زَمْهَرِيرَ مَعِدَتِكَ، وتَجَمُّدَ أطرافِك؛ بِحساءٍ شَهىٍ ساخنٍ، تحتضنُ وِعاءَهُ أناملُك، وتَرتَشِفُهُ وَحْدَكَ علَى مَهَلٍ، دونَ هَلعٍ من انتهائِه، وتنشَّقْ أبخِرتَه الحارَّةَ، ليَعُمّ الدّفءَ في كل جوانحِك.
نعم؛ تَمتَّْع بالعافيةِ لا حرج عليك، وسَلِ اللَه مزيدًا من مزيدٍ، لا بأس، لكن فقط تَذَكَّرْ ذاكَ الطِّفْلَ الذي شَقَّ صَدرَهُ المُتَهَالكَ سُعَالٌ مُزْمِنٌ، لا يَغفُو فيغفُو الصبىُّ، وقَرَصَ بَطْنَهُ جوعٌ يَتَراكَمُ مُنذُ أيامٍ، حتَّى صَفِرَتِ الرِّيحُ في أمعائِه، فعَطِبَتْ بعدَ عزٍّ وغِنًى.
تَذَكَّرْهُم بَِفضْلِ دُثُرٍ أو طَعامٍ أو دعوةٍ، وذاكَ أضعفُ الذِّكْرَى.
اللهمّ آوِهِم من عَراءٍ، وآمِنْهُم من خوفٍ، وأطعِمْهُم من جوعٍ، وآيِسْهُم من جزعٍ كئيبٍ؛ يختلجُ في صدورهم لا ريبْ.
بيدك نواصِى المخلوقات كافَّة، والبردُ خلقٌ من خَلقِك، وجُنْدٌ من جُنْدِك، مُرْهُ يَكُنْ دِفئَا وسَلامًا عَليهِم، وعذابًا على أعدائِك، مُرْهُ يَترفَّقْ بمياهِهِم فلا تتجمَّدُ من جديد، ويُجمِّدِ الدماء في عروقِ قاهريهم، ومَنْ سَاقُوهُم لهذا الجحيمِ، وأحْصَرُوهم فيه.
أَجَلْ هو جَحيمٌ، من أنفاسِ جَهَنَّمَ!
رجاءً وطمعًا.. أن من لَامَسَ حنايا قلبِه هذا الكلامُ -وأثقُ أنَّ ذاكَ قدْ حَدَثَ- ولا يُدْرِكُ سبيلًا إلى أهلينا هناك، فَلْيُخْرِجْ من مالِه ما يكفِي؛ لشراءِ ولو بطانيةٍ واحدةٍ، ثمَّ لينَزِلْ من بيتِه، في بلدِه؛ قاصدًا هؤلاءِ الرَّاقِدين أَسْفلَ الكباري، وداخلَ محطاتِ مترو الأنفاقِ، وفي العششِ، وصدقًا لن تبحثوا كثيرًا، هُمْ في كل مكانٍ.
أو قُومُوا بشحنِها على مخيماتِ اللاجئينَ، من خلالِ مصارفَ آمنةٍ، لعله لا زالَ مستطاعًا إنقاذُ طفلٍ قبل أن يُسْلمَ الرُّوحَ، ويلْحِقَ بأقْرانِه بالله.. بالله.. بالله..
واجْعلوا أبناءكم يساهمون فى هذه الصدقةِ بالمالِ، والجهدِ، والدُّعاء كذلك.
قال الصحابة؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال لهم ذات يوم: « » (صحيح مسلم؛ برقم:1728)؛ حَتَّى ذَكَرَ أَصْنَافَ الْمَالِ، حَتَّى رَأيْنَا أَنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ، المعنى: حتى ظننا أن ليس لأحدٍ من المسلمين الحقُ في أي زيادةٍ لديه في حوزتهِ، من شدةِ ما أوصاهمُ النبي بإخراجِ كلِ ما زادَ عن الحاجةِ.
الحمد للِه الذي أطْعَمَنا وسَقَانا وكَفَانا وآوانا، فَكَمْ مِمَّن لا كافِي لهُ ولا مُؤوى.
نُهَروِلُ فى الشوارعِ لنعودَ أدراجَنا إلى البيتِ، وَنُغْلقُ البابَ خَلفَنا علَى أعجلِ ما يكونُ، ونتَحَقَّقُ كلَّ ساعةٍ من مَتاريس النَّوافذِ.
فكيف بمن لا بَيْت له يَأْوِي إِليهِ، يَتَّقِي فيه سُوءَ هَذه الصَّواريخِ القَارسَة!
كيف يتحمَّلُ الأمرَ يا تُرَى بِلا مَلْجَأٍ؟ بِرَبِّكُم كَيْفَ؟!
أَتَْدرُونَ كَيْف؟!
لا يتحملُ، لقد مات!