الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف - (2) مقدمة علمية هامة
إن فقد العمل واحدة من هذه الاعتبارات: أن يكون مشروعا، وأن يؤديه على النحو الذي أداه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يريد به وجه الله خاصة بحيث لا يلتفت فيه إلى غير الله سبحانه وتعالى فإنه يبطل
إنني أنصح في صدق لمن أراد قراءة هذه الرسالة ليعلم حكم الشرع الإسلامي في ما يسمى بالمولد النبوي الشريف أن يقرأ هذه المقدمة باعتناء عدة مرات حتى يطمئن إلى فهمها، ولو أدى ذلك به إلى تكرار قراءتها عشر مرات، وإن تعذر عليه فهمها فليقرأها على طالب علم حتى يساعده على فهمها فهما جيدا وصحيحا لا خطأ فيه.
فإن فهم هذه المقدمة لا يفيده في فهم قضية المولد المختلف فيها فحسب بل يفيده في كثير من القضايا الدينية التي يتنازع فيها الناس عادة: هل هي بدعة أو سنة وإن كانت بدعة هل هي بدعة ضلالة، أو بدعة حسنة؟
وسأبسِّط للقارئ المسلم العبارة، وَأُقَرِّب إليه الإشارة، وأضرب له المثل وأوضحه، وَأُدْنِي منه المعنى وَأُقَرِّبُهُ، رجاء أن يفهم هذه المقدمة الهامة، والتي هي كالمفتاح، لفهم المغلق من مسائل الخلاف فيما هو دين وسنة يعمل به، أو هو ضلال وبدعة يجب تركه والبعد عنه.
وبسم الله أقول: اعلم أخي المسلم أن الله تبارك اسمه وتعالى جده قد بعث رسوله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه كتابه القرآن الكريم من أجل هداية الناس وإصلاحهم فيكملوا ويسعدوا في دنياهم وأخراهم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا . فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:174-175] [1]، وبهذا عرفنا أن هداية الناس وإصلاحهم ليكملوا في أرواحهم، ويفضلوا في أخلاقهم لا تتم إلا على الوحي الإلهي المتمثل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله عز وجل يوحي بالأمر والرسول يبلغه ويبين كيفية العمل به، والمؤمنون يعملون به[2]، فيكملون عليه ويسعدون به، ولنا أن نحلف بالله العظيم أيها القارئ الكريم: أنه لا سبيل إلى إكمال الناس وإسعادهم بعد هدايتهم وإصلاحهم إلا هذا السبيل وهو العمل بالوحي الإلهي الذي تضمنته السنة والكتاب.
وَسِرُّ هذا أيها القارئ الفطن: أن الله تعالى هو رب العالمين أي خالقهم ومربيهم ومدبر أمورهم ومالكها عليهم فالناس كلهم مفتقرون إليه في خلقهم وإيجادهم، ورزقهم وإمدادهم وتربيتهم وهدايتهم وإصلاحهم ليكملوا ويسعدوا في كلتا حياتيهم.
وقد جعل تعالى سننا للخلق عليها يتم خلقهم وهي التلاقح[3] بين الذكر والأنثى، وجعل كذلك سننا عليها تتم هدايتهم وإصلاحهم، وكما لا يتم الخلق إلا على سنته في الناس لا تتم كذلك الهداية والإصلاح إلا على سنته تعالى في ذلك وهي العمل بما شرع الله في كتابه وعلى لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وتطبيق ذلك على الوجه الذي بينه رسوله صلى الله عليه وسلم ومن هنا كان لا مطمع في هداية أو سعادة أو كمال يأتي من غير طريق شرع الله بحال من الأحوال.
وها أنت تشاهد أهل الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية والمجوسية وغيرها فهل اهتدوا بها أو كملوا أو سعدوا عليها؟ وذلك لأنها ليست من شرع الله، كما أننا نشاهد القوانين التي وضعها الناس لتحقيق العدالة بين الناس وحفظ أرواحهم وأموالهم وصيانة أعراضهم وتكميل أخلاقهم فهل حققت ما أريد منها؟ والجواب لا، إذ الأرض قد خَمَّتْ من الجرائم والموبقات! كما نشاهد أهل البدع في أمة الإسلام وأنهم أفسد الناس عقولا، وأرذلهم أخلاقا، وأحطهم نفوسا، كما نشاهد أيضا أكثر المسلمين لما عدلوا عن شرع الله إلى ما شرع الناس من تلك القوانين التي هي من وضع غير الله تعالى كيف تفرقت كلمتهم، وحقر شأنهم وذلوا وهانوا، وما ذاك إلا لأنهم يعملون بغير الوحي الإلهي. واسمع القرآن الكريم كيف يُنَدِّدُ بكل شرع غير شرع الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:21]، واستمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول « »[5]، « »[6]، ومعنى رد مردود[7] على صاحبه لا يقبل منه ولا يثاب عليه، وعلة ذلك: أن العمل الذي لم يشرعه الله تعالى لا يُؤَثِّر في النفس بالتزكية والتطهير لخلوه من مادة التطهير والتزكية التي يوجدها الله تعالى في الأعمال التي يشرعها ويأذن بفعلها.
وانظر إلى مادة التغذية كيف أوجدها الله تعالى في الحبوب والثمار واللحوم فكان في أكل هذه الأنواع غذاء للجسم ينمو عليها ويحتفظ بقواه، وانظر إلى التراب والخشب والعظام لما أخلاها من مادة التغذية كانت غير مغذية، وبهذا يظهر لك أن العمل بالبدعة كالتغذية بالتراب والحطب والخشب فإذا كان آكل هذه لا يتغذى فكذلك العامل بالبدعة لا تطهر روحه ولا تزكو نفسه.
وبناء على هذا فكل عمل يراد به التقرب إلى الله تعالى للحصول على الكمال والسعادة بعد النجاة من الشقاء والخسران ينبغي أن يكون أولا مما شرع الله تعالى في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يكون ثانيا مؤدىً على نحو ما أداه عليه رسول صلى الله عليه وسلم مراعى فيه كميته أي عدده بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص منه، وكيفيته بحيث لا يقدم فيه بعض أجزائه ولا يؤخر. وزمانه بحيث لا يفعله في غير الوقت المحدد له. ومكانه فلا يؤديه في غير المكان الذي عينه الشارع له. وأن يريد به فاعله طاعة الله تعالى بامتثال أمره. أو التقرّب إليه طَلَبًا لمرضاته والقرب منه، فإن فقد العمل واحدة من هذه الاعتبارات: أن يكون مشروعا، وأن يؤديه على النحو الذي أداه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يريد به وجه الله خاصة بحيث لا يلتفت فيه إلى غير الله سبحانه وتعالى فإنه يبطل، ومتى بطل العمل فإنه لا يؤثر في النفس بالتزكية والتطهير بل قد يؤثر فيها بالتدسيّة والتنجيس واصبر علي أوضح لك هذه الحقيقة بالأمثلة التالية:
1- الصلاة فإنها مشروعة بالكتاب قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، وبالسنة قال رسول صلى الله عليه وسلم: « »[8]. فهل يكفى العبد أن يصليها كيف شاء ومتى شاء، وفي أي زمان أو مكان شاء؟ والجواب لا، بل لا بد من مراعاة باقي الحيثيات من عددها وكيفيتها، وزمانها ومكانها فلو صلى المغرب أربع ركعات بأن زاد فيها ركعة عمدا بطلت، ولو صلى الصبح ركعة واحدة بأن نقص منها ركعة لما صحت. وكذلك لو لم يراع فيها الكيفية بأن قدم بعض الأركان على بعض لم تصح، وكذا الحال في الزمان والمكان فلو صلى المغرب قبل الغروب، أو الظهر قبل الزوال لما صحت، كما لو صلى في مجزرة أو مزبلة لما صحت لعدم مراعاة المكان المشروط لها.
2- الحج فإنه مشروع بالكتاب والسنة قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران : 97]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »[9]، فهل للعبد أن يحج كيف شاء ومتى شاء؟ والجواب لا، بل عليه أن يراعي الحيثيات الأربع وإلا لما صح حجه وهي الكمية فيراعى عدد الأشواط في كل من الطواف والسعي فلو زاد فيها أو نقص منها عمدا فسدت، والكيفية فلو قدم الطواف على الإحرام، أو السعي على الطواف[10] لما صح حجه، والزمان فلو وقف بعرفة في غير تاسع شهر الحجة لما صح حجه، والمكان فلو طاف بغير البيت الحرام أو سعى بين غير الصفا والمروة أو وقف بغير عرفة لما صح حجه.
3- الصيام فإنه عبادة مشروعة عليها أمر الله وأمر رسوله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: « »[11]، فهل للعبد أن يصوم كيف شاء ومتى شاء؟ والجواب لا، بل عليه مراعاة الحيثيات الأربع وهي الكمية فلو صام أقل من تسعة وعشرين أو ثلاثين يوما لما صح صومه كما لو زاد يوما أو أياما لما صح ذلك منه لإخلاله بالكمية وهي العدد، والله تعالى يقول: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة:185]، والكيفية فلو قدم أو أخر بأن صام الليل وأفطر النهار لما صح منه، والزمان فلو صام شعبان أو شوالا بدل رمضان لما صح منه، والمكان وهو المحل القابل للصيام فلو صامت حائض أو نفساء لما صح منها.
وهكذا سائر العبادات لا تصح ولا تقبل من فاعلها إلا إذا راعى فيها كل شروطها وهي:
1- أن تكون مشروعة بالوحي الإلهي لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «
»[12].2- أن يؤديها أداء صحيحا ملاحظا فيه الحيثيات الأربع: الكمية بمعنى العدد والكيفية وهي الصفة التي عليها العبادة، والزمان الذي حدد لها، والمكان الذي عُيِّنَ لها.
3- أن يخلص فيه لله تعالى بحيث لا يشرك فيها أحدا كائنا من كان. ومن هنا كانت أيها الأخ المسلم البدعة باطلة وكانت ضلالة، كانت باطلة لأنها لا تزكي الروح إذ هي من غير شرع الله أي ليس عليها أمره ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وكانت ضلالة لأنها أضلت فاعلها عن الحق فأبعدته عن عمل مشروع يزكي نفسه ويجزيه به ربه ويثيبه عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) آية من خاتمة سورة النساء، وقد اشتملت على ذكر ما قلنا من أن الله تعالى قد أرسل رسوله وأنزل كتابه لهداية الناس وإصلاحهم. فالبرهان في الآية هو النبي عند كثير من أهل التفسير، والنور في الآية هو القرآن الكريم. فافهم.
(2) هذا معنى قول أهل العلم: على الله الوحي وعلى الرسول البلاغ، وعلى المؤمنين الطاعة.
(3) سواء في ذلك الإنسان والحيوان بريا أو بحريا، والنبات على اختلافه وكثرة أنواعه، ولا يستثنى من هذه السنة إلا آدم وحواء وعيسى بن مريم عليهم السلام.
(4) الحديث رواه مسلم.
(5) ((البخاري (الصلح [2550])، (مسلم (الأقضية [1718])، (أبو داود (السنة [4606])، (ابن ماجه (المقدمة [14])، (أحمد [6/146])).
(6) الرد: مصدر أريد به اسم المفعول فرد بمعنى مردود، يعني غير مقبول، وما لم يقبل كيف يثاب عليه؟ وسر ذلك أنه لم يحدث - حسب سنة الله في الخلق - زكاة للنفس ولا طهارة.
(7) رواه مالك وغيره ونصه كاملا: «
».(9) رواه مسلم وغيره في خطبة خطبها رسول الله وقال فيها يا أيها الناس إلخ.....
(10) تقديم السعي على الطواف إذا كان لضرورة لا يضر ولا يبطل الحج به، لإذن الرسول في ذلك بقوله: افعل ولا حرج لمن سأله عن تقديم بعض أفعال الحج عن بعض.
(11) اتفق عليه البخاري ومسلم.
(12) رواه مسلم.