الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف - (6) الموالد عامة وحكم الإسلام عليها
قام الجميع إجلالا وتعظيما ووقفوا دقائق في إجلال وإكبار تخيلا منهم وضع آمنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يؤتى بالمجامر وطيب البخور فيتطيب الكل، ثم تدار كؤوس المشروبات الحلال فيشربون ثم تقدم قصاع الطعام فيأكلون وينصرفون، وهم معتقدون أنهم قد تقربوا إلى الله تعالى بأعظم قربة.
إن كلمة الموالد جمع مولد مدلولها لا يختلف بين إقليم إسلامي وآخر إلا أن كلمة مولد لا تَطَّرِدُ في كل البلاد الإسلامية إذ أهل بلاد المغرب الأقصى (مراكش) يسمونها بالمواسم فيقال: موسم مولاي إدريس مثلا، وأهل المغرب الأوسط (الجزائر) يسمونها بالزرد جمع زردة، فيقال: زردة سيدي أبي الحسن الشاذلي مثلا، وأهل مصر والشرق الأوسط عامة يسمونها الموالد، فيقولون: مولد السيدة زينب، أو مولد السيد البدوي مثلا، وسماها أهل المغرب بالمواسم لأنهم يفعلونها موسميا أي في العام مرة. وسماها أهل الجزائر بالزردة باعتبار ما يقع فيها من ازدراد الأطعمة التي تطبخ على الذبائح التي تذبح للولي، أو عليه بحسب نيات المتقربين، وسماها من سماها بالحضرة إما لحضور روح الولي فيها ولو بالعناية والبركة، أو لحضور المحتفلين لها وقيامهم عليها.
هذا بالنسبة إلى مجرد التسمية أما بالنسبة إلى ما يجري فيها من أعمال فإنها تختلف كيفا وكما بحسب وعي أهل الإقليم، وفقرهم وغناهم والقاسم المشترك بينهم فيها ما يلي:
1- ذبح النذور والقرابين للسيد أو الولي المقام له الموسم أو الزردة أو المولد أو الحضرة.
2- اختلاط الرجال الأجانب والنساء الأجنبيات.
3- الشطح[1].
4- إقامة الأسواق للبيع والشراء وهذا غير مقصود غير أن التجار يستغلون التجمعات الكبرى ويجلبون إليها بضائعهم لعرضها وبيعها وعندما يوجد الطلب والعرض تقوم السوق على ساقها، وناهيك بأسواق منى وعرفات.
5- دعاء الولي أو السيد والاستغاثة به والاستشفاع وطلب المدد وكل ما تعذر الحصول عليه من رغائب وحاجات وهو شرك أكبر والعياذ بالله.
6- قد يحصل شيء من الفجور وشرب الخمور، ولكن لا يطرد هذا لا في كل البلاد ولا في كل الموالد.
7- مساعدة الحكومات على إقامة هذه المواسم بنوع من التسهيلات وقد تسهم بشيء من المال أو اللحم أو الطعام. فقد كانت فرنسا في بلاد المغرب بأقاليمه الثلاثة تساعد حتى بتخفيض تذكرة الإركاب في القطار، وكذلك بلغني أن الحكومات المصرية تفعل، ومن أغرب ما نسمع عن هذا الوفاق أن حكومة اليمن الجنوبي وهي بلشفية خالصة تشجع هذه الموالد ولو بعدم إنكارها[2]، وهي التي أنكرت الإسلام عقائد وعبادات وأحكاما؛ ولهذا دلالة كبرى وهي أن هذه الموالد ما ابتدعت إلا لضرب الإسلام، وتحطيمه والقضاء عليه؛ ومن هنا كان حكم الإسلام على هذه الموالد والمواسم والزرد والحضرات المنع والحرمة فلا يبيح منها مولدا ولا موسما ولا زردة ولا حضرة، وذلك لأنها بدع قامت على أساس تقويض العقيدة الإسلامية، وإفساد حال المسلمين، ويدلك على ذلك مناصرة أهل الباطل لها ووقوفهم إلى جنبها ومعها، ولو كان فيها ما يوقظ الروح الإسلامي، أو يحرك ضمائر المسلمين لما وجدت من حكومات الباطل والشر إلا محاربتها والقضاء عليها.
هذا وهل دعاء غير الله والذبح والنذر لغير الله، غير شرك حرام؟ وهذه الموالد ما قام سوقها إلا على ذلك.
وهل الرقص والمزامير واختلاط النساء بالرجال إلا فسق وحرام؟ وما خلت تلك الموالد والمواسم من شيء من هذا فكيف إذا لا تكون حراما؟!
وهل هذه الموالد عرفها رسول الله وأصحابه والتابعون لهم بإحسان؟ والجواب: لا، لا، وما لم يكن على عهد رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه دينا فهل يكون اليوم دينا؟ وما لم يكن دينا فهو بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
سئل مالك رحمه الله تعالى عما يترخص فيه بعض أهل المدينة من الغناء فقال للسائل: هل الغناء حق؟ قال: لا، قال إذا فماذا بعد الحق إلا الضلال.
فهذه الموالد على اختلافها ما فيها من حق البتة، وما لم يكن حقا فهو باطل، إذ ما بعد الحق إلا الضلال. ومن ثم أصبح المولد النبوي الشريف عبارة عن اجتماعات في المساجد أو في بيوت الموسرين من المسلمين يبتدئ غالبا من هلال ربيع الأول إلى الثاني عشر منه، يتلى فيها جانب من السيرة النبوية كالنسب الشريف وقصة المولد، وبعض الشمائل المحمدية الطاهرة الْخَلْقِيَّة منها وَالْخُلُقِيَّة مع جعل اليوم الثاني عشر من شهر ربيع يوم عيد يوسع فيه على العيال، وتعطل فيه المدارس والكتاتيب، ويلعب فيه الأطفال أنواعا من اللعب، ويلهون ألوانا من اللهو هكذا كنا نعرف المولد ببلاد المغرب، حتى إذا جئنا بلاد المشرق وجدنا المولد فيها عبارة عن اجتماعات في بيوت الأغنياء والموسرين تعقد تحت شعار ذكرى المولد النبوي الشريف وليس خاصا عندهم بشهر ربيع الأول ولا باليوم الثاني عشر منه، بل يقيمونه عند وجود أية مناسبة من موت أو حياة، أو تجدد حال، وكيفيته: أن تذبح الذبائح وتعد الأطعمة ويدعى الأقارب والأصدقاء وقليل من الفقراء، ثم يجلس الكل للاستماع فيتقدم شاب حسن الصوت فينشد الأشعار ويترنم بالمدائح وهم يرددون معه بعض الصلوات[3]، ثم يقرأ قصة المولد حتى إذ بلغ: وولدته آمنة مختونا. قام الجميع إجلالا وتعظيما ووقفوا دقائق في إجلال وإكبار تخيلا منهم وضع آمنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يؤتى بالمجامر وطيب البخور فيتطيب الكل، ثم تدار كؤوس المشروبات الحلال فيشربون ثم تقدم قصاع الطعام فيأكلون وينصرفون، وهم معتقدون أنهم قد تقربوا إلى الله تعالى بأعظم قربة.
ومما يجدر التنبيه إليه هنا أن جُلَّ القصائد والمدائح التي يُتَغَنَّى بها في المولد لا يخلو من ألفاظ الشرك وعبارات الغلو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: « »[4] كما يختم الحفل بدعوات تحمل ألفاظ التوسلات المنكرة، والكلمات الشركية المحرمة لأن جل الحاضرين عوام أو غلاة في حب التوسلات الباطلة التي نهى عنها العلماء كالسؤال بجاه فلان وحق فلان والعياذ بالله تعالى، واللهم صل على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. هذا هو المولد في عرف الناس اليوم ومنذ ابتداعه على عهد الملك المظفر سنة ستمائة وخمسة وعشرين من الهجرة النبوية.
أما حكمه في الشريعة الإسلامية فإنا نترك للقارئ الكريم الإفصاح عنه إذ قد عرف من خلال هذا البحث أن المولد أحدث في القرن السابع فقط، وأن كل ما لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دينا لم يكن لمن بعدهم دينا. والمولد في عرف الناس اليوم لم يكن موجودا على عهد الرسول وأصحابه ولا على عهد أهل القرون المفضلة وإلى مطلع القرن السابع قرن الفتن والمحن، فكيف يكون إذا دينا؟ وإنما هو بدعة ضلالة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم « »[5] وزيادة في إيضاح الحكم نقول: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من محدثات الأمور وأخبرنا أن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة وأن مالكا رحمه الله تعالى قال: لتلميذه الإمام الشافعي[6] رحمه الله تعالى: إن كل ما لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دينا لم يكن اليوم دينا. وقال: من ابتدع في الإسلام بدعة فرآها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد خان الرسالة، وذلك لأن الله تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة من الآية:3]، وأن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال: كل ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو إجماعا فهو بدعة. فهل يكون المولد النبوي بالمعنى العرفي غير بدعة، وهو لم يكن سنة من سنن الرسول ولا من سنن الخلفاء الراشدين، ولا من عمل السلف الصالح، وإنما أحدث في القرون المظلمة من تاريخ الإسلام حيث نجمت الفتن وافترق المسلمون، واضطربت أحوالهم وساء أمرهم ثم إننا لو سلمنا جدلا أن المولد قربة من القرب بمعنى أنه عبادة شرعية يتقرب بها فاعلها إلى الله تعالى لينجيه من عذابه، ويدخله جنته فإنا نقول: من شرع هذه العبادة آلله أم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والجواب لا، وإذًا فكيف توجد عبادة لم يشرعها الله ورسوله وهذا مستحيل.
وشيء آخر أن العبادة لها حيثيات أربع، وهي كميتها وكيفيتها وزمانها ومكانها، فمن يقدر على إيجاد هذه الحيثيات وتحديدها وتعيينها؟ لا أحد، وعليه فلم يكن المولد قربة ولا عبادة بحال من الأحوال، وإذا لم يكن قربة ولا عبادة فماذا عساه أن يكون سوى بدعة؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشطح كالرقص الذي هو لغة الانخفاض والارتفاع، والرقص محرك الراء والقاف مصدر رقص غير أن الشطح لم يذكر له في اللغة فعل فيما علمت من بحثي، وإنما الشطح بكسر الشين والطاء المشددة لفظ يزجر به العريض من أولاد المعز. وهو من أتى عليه سنة.
(2) حدثني بهذا أبناء الجنوب أنفسهم.
(3) نحو صلى عليك الله يا علم الهدى ما حن مشتاق إلى لقاك بإشباع الكاف من لقاك.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) رواه أصحاب السنن وهو صحيح السند.
(6) ويروى أيضا أنه قال لابن الماجشون.
كتاب الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف
تأليـف / فضيلـة الشيـخ أبي بكر جابر الجزائري