الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف - شبه ضعيفة احتج بها المرخصون في الاحتفال بالمولد (3)

منذ 2015-01-18

تأصلت هذه البدعة في النفوس وأصبحت جزءا من عقيدة كثير من أهل الجهل لم يجد بدا بعض أهل العلم كالسيوطي رحمه الله تعالى من محاولة تبريرها بالبحث عن شبه يمكن أن يستشهد بها على جواز بدعة المولد هذه وذلك إرضاء للعامة والخاصة أيضا من جهة وتبريرا لرضى العلماء بها وسكوتهم عنها لخوفهم من الحاكم والعوام من جهة أخرى.

شبه ضعيفة احتج بها المرخصون في الاحتفال بالمولد (3)

 

اعلم أخي المسلم فتح الله تعالى علي وعليك في العلم والعمل أنه عند ما أحدثت بدعة المولد في مطلع القرن السابع وفشت وانتشرت بين الناس لوجود فراغ روحي وبدني معا، لترك المسلمين الجهاد وانشغالهم بإطفاء نيران الفتن التي أشعل نارها أعداء الإسلام وخصومه من اليهود والنصارى والمجوس، وتأصلت هذه البدعة في النفوس وأصبحت جزءا من عقيدة كثير من أهل الجهل لم يجد بدا بعض أهل العلم كالسيوطي رحمه الله تعالى من محاولة تبريرها بالبحث عن شبه يمكن أن يستشهد بها على جواز بدعة المولد هذه وذلك إرضاء للعامة والخاصة أيضا من جهة وتبريرا لرضى العلماء بها وسكوتهم عنها لخوفهم من الحاكم والعوام من جهة أخرى. وهاك بيان هذه الشبه مع إظهار ضعفها وبطلانها لتزداد بصيرة في هذه القضية التي اضطررنا لبحثها وبيان الحق فيها، والشبه المذكورة تدور على أثر تاريخي، وثلاثة أحاديث نبوية، ومثير هذه الشبه وبطلها هو السيوطي غفر الله تعالى لنا وله وما كان أغناه عن مثل هذا وهو أحد علماء القرن العاشر قرن الفتن والإحن والمحن، والعجيب أنه فرح بهذه الشبه وفاخر بها وقال: إني وجدت للمولد أصلا في الشرع، وخرجته عليه[1]، ولا يستغرب هذا من السيوطي وهو كما قيل فيه حاطب ليل يجمع بين الشيء وضده!!

الشبهة الأولى: في الأثر التاريخ[2] وهو ما روي من أن أبا لهب الخاسر رؤي في المنام، فسئل فقال: إنه يعذب في النار، إلا أنه يخفف عنه كل ليلة اثنين، ويمص من بين أصبعيه ماء بقدر هذا وأشار إلى رأس أصبعه، وأن ذلك كان له بسبب إعتاقه جاريته ثويبة لما بشرته بولادة محمد صلى الله عليه وسلم لأخيه عبد الله بن عبد المطلب، وبإرضاعها له صلى الله عليه وسلم وَرَدُّ هذه الشبهة وإبطالها من أوجه:

1- إن أهل الإسلام مجمعون أن الشرع لا يثبت برؤى الناس المنامية مهما كان ذو الرؤيا في إيمانه وعلمه وتقواه، إلا أن يكون نبي الله فإن رؤيا الأنبياء وحي والوحي حق.

2- إن صاحب هذه الرؤيا هو العباس بن عبد المطلب والذي رواها عنه بالواسطة فالحديث إذا مرسل، والمرسل لا يحتج به ولا تثبت به عقيدة ولا عبادة، مع احتمال أن الرؤيا رآها العباس قبل إسلامه ورؤيا الكافر حال كفره لا يحتج بها إجماعا.

3- أكثر أهل العلم من السلف والخلف على أن الكافر لا يثاب على عمل صالح عمله إذا مات على كفره، وهو الحق لقول الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وقوله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم وقد سألته عائشة رضي الله عنها عن عبد الله بن جدعان الذي كان يذبح كل موسم حج ألف بعير، ويكسو ألف حلة، ودعا إلى حلف الفضول في بيته: هل ينفعه ذلك يا رسول الله؟ فقال: «لا، لأنه لم يقل يوما من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وبهذا يتأكد عدم صحة هذه الرؤيا، ولم تصبح شاهدا ولا شبهة أبدا.

4- إن الفرح الذي فرحه أبو لهب بمولود لأخيه فرح طبيعي لا تعبدي، إذ كل إنسان يفرح بمولود يولد له، أو لأحد إخوته أو أقاربه، والفرح إن لم يكن لله لا يثاب عليه فاعله، وهذا يضعف هذه الرواية ويبطلها، مع أن فرح المؤمن بنبيه معنى قائم بنفسه لا يفارقه أبدا لأنه لازم حبه، فكيف نحدث له ذكرى سنوية نستجلبه بها، اللهم إن هذا معنى باطل، وشبهة ساقطة باطلة لا قيمة لها ولا وزن فكيف يثبت بها إذًا شرع لم يشرعه الله لا عن عجز ولا عن نسيان ولكن رحمة بعباده المؤمنين، فله الحمد وله المنة.

الشبهة الثانية : فيما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عق عن نفسه، بعد شرعه العقيقة لأمته[3]. وبما أن جده عبد المطلب قد عق عنه، والعقيقة لا تعاد، دل هذا على أنه إنما فعل ذلك شكرا لله تعالى على نعمة ولادته، أَوَ يمكن حينئذ أن يتخذ هذا أصلا تخرج عليه بدعة المولد!! هذه الشبهة أضعف من سابقتها، ولا قيمة لها ولا وزن، إذ هي قائمة على مجرد احتمال أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عق شكرا على نعمة إيجاده والاحتمال أضعف من الظن، والظن لا تثبت به الشرائع، والله يقول: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»[4].

وشيء آخر هو هل ثبت أن العقيقة كانت مشروعة لأهل الجاهلية وهم يعملون بها حتى نقول إن عبد المطلب قد عق عن ابن ولده، وهل أعمال أهل الجاهلية يعتد بها في الإسلام، حتى نقول: إذا عق النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه شكرا لا قياما بسنة العقيقة، إذ قد عق عنه؟؟ سبحان الله ما أعجب هذا الاستدلال وما أغربه!! وهل إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح شاة شكرا لله تعالى على نعمة إيجاده وإمداده يلزم من ذلك اتخاذ يوم ولادته صلى الله عليه وسلم عيدا للناس؟ ولم لم يدع إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبين للناس ماذا يجب عليهم فيه من أقوال وأعمال؟ كما بين ذلك في عيدي الفطر والأضحى. أنسي ذلك أم كتمه وهو المأمور بالبلاغ؟ سبحانك اللهم إن رسولك ما نسي ولا كتم ولكن الإنسان كان أكثر شيء جدلا!!

الشبهة الثالثة : فيما صح من أن النبي صلى الله عليه وسلم صام يوم عاشوراء[5]، وأمر بصيامه ولما سئل عن ذلك قال: «إنه يوم صالح أنجى الله تعالى فيه موسى وبني إسرائيل» [6] الحديث.... ووجه الشبهة فيه: أنه لما صام النبي صلى الله عليه وسلم وأمر المؤمنين بالصيام في هذا اليوم شكرا لله تعالى على نجاة موسى وبني إسرائيل، لنا أن نتخذ نحن يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم لا يوم صيام ولكن يوم أكل وشرب وفرح، فما أعجب هذا الفهم المعكوس، والعياذ بالله تعالى، إذ المفروض أننا نصوم كما صام النبي صلى الله عليه وسلم لا أننا نقيم المآدب والأفراح بالطبول والمزامير، فهل الله تعالى يشكر بالطرب والأكل والشرب؟ اللهم لا، لا. ثم هل لنا من حق في أن نشرع لأنفسنا صياما أو غيره، إنما واجبنا الاتباع فقط. وقد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء فكان صيامه سنة وسكت عن يوم ولادته فلم يشرع فيه شيئا فوجب أن نسكت كذلك، ولا نحاول أن نشرع فيه صياما ولا قياما فضلا عن اللهو واللعب.

الشبهة الرابعة: فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم من أنه كان يصوم يوم الاثنين والخميس[7]، وتعليله ذلك بقوله: «أما يوم الاثنين فإنه يوم ولدت فيه وبعثت فيه، وأما يوم الخميس فإنه يوم تعرض فيه الأعمال على الله تعالى فأنا أحب أن يعرض عملي على ربي وأنا صائم»[8].

ووجه الشبهة عندهم والتي خرجوا عليها بدعة المولد هي كونه صلى الله عليه وسلم صام يوم الاثنين وعلله بقوله «إنه يوم ولدت فيه وبعثت فيه»[9] وَرَدُّ هذه الشبهة وإبطالها وإن كانت أضعف من سابقاتها من أوجه:

الأول: إنه إذا كان المراد من إقامة المولد هو شكر الله تعالى على نعمة ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه فإن المعقول والمنقول يحتم أن يكون الشكر من نوع ما شكر الرسول ربه به وهو الصوم، وعليه فلنصم كما صام، وإذا سئلنا قلنا إنه يوم ولد فيه نبينا فنحن نصومه شكرا لله تعالى، غير أن أرباب الموالد لا يصومونه، لأن الصيام فيه مقاومة للنفس بحرمانها من لذة الطعام والشراب، وهم يريدون ذلك، فتعارض الغرضان فآثروا ما يحبون على ما يحب الله وهي زلة عند ذوي البصائر والنهى.

والثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم ولادته وهو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول إن صح أنه كذلك، وإنما صام يوم الاثنين الذي يتكرر مجيئه في كل شهر أربع مرات أو أكثر، وبناء على هذه فتخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول بعمل ما دون يوم الاثنين من كل أسبوع يعتبر استدراكا على الشارع وتصحيحا لعمله وما أقبح هذا إن كان والعياذ بالله تعالى.

والثالث: هل النبي صلى الله عليه وسلم لما صام يوم الاثنين شكرا على نعمة الإيجاد والإمداد وهو تكريمه ببعثته إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا أضاف إلى الصيام احتفالا كاحتفال أرباب الموالد من تجمعات ومدائح وأنغام، وطعام وشراب ؟ والجواب لا، وإنما اكتفى بالصيام فقط إذًا ألا يكفي الأمة ما كفى نبيها، ويسعها ما وسعه ؟ وهل يقدر عاقل أن يقول: لا. وإذًا فلم الافتيات على الشارع والتقدم بالزيادة عليه، والله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر من الآية:7] ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]، ورسوله صلى الله عليه وسلم يقول: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»[10]، ويقول: «إن الله حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء في غير نسيان، ولكن رحمة لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها»[11].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحاوي في الفتاوي للسيوطي.

(2) انظر فتح الباري في هذه المسألة فقد أفاد فيها وأجاد.

(3) لم أعرف هذه الرواية من خرجها ولا من أسندها، والسيوطي ذكرها بصيغة التمريض، ولا أخالها تصح.

(4) حديث صحيح رواه مالك والشيخان.

(5) صيام يوم عاشوراء ثابت في الصحاح والسنن.

(6) (البخاري (المناقب [3727])، (مسلم (الصيام [1130])، (ابن ماجه (الصيام [1734])، (أحمد [1/310])، (الدارمي (الصوم [1759]).

(7) رواه ابن ماجه وغيره وهو صحيح.

(8) الترمذي (الصوم [747]).

(9) مسلم (الصيام [1162]).  

(10) ((مسلم (الجمعة [867])، (النسائي (صلاة العيدين [1578])، (ابن ماجه (المقدمة [45]) ، (أحمد [3/311])، (الدارمي (المقدمة [206])).

(11) أخرجه ابن جرير، ورواه الحاكم وصححه عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.

 

كتاب الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف

تأليـف / فضيلـة الشيـخ أبي بكر جابر الجزائري

المصدر: طريق الاسلام

أبو بكر جابر الجزائري

مدرس بالمسجد النبوي وعضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية سابقا

  • 4
  • 0
  • 14,796
المقال السابق
علل غير كافية في إقامة المولد (2)
المقال التالي
(8) البديل الخير

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً