الأمم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم

منذ 2015-01-20

وبالجملة: فدين الحنيفية الذي لا دين لله غيره بين هذه الأديان الباطلة التي لا دين في الأرض غيرها أخفى من السهاب تحت السحاب، وقد "نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب".

ولما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم كان أهل الأرض صنفين: أهل الكتاب، وزنادقة لا كتاب لهم.

وكان أهل الكتاب أفضل الصنفين، وهم نوعان: مغضوب عليهم، وضالون.

فالأمة الغضبية هم "اليهود"، أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل، قَتَلة الأنبياء، وأَكَلَة السحت وهو الربا والرشا.

أخبث الأمم طوية، وأرداهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم من النقمة عادتهم البغضاء، ودينهم العداوة والشحناء، بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حُرمة، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفقة، ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصفة، ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة، ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة، بل أخبثهم أعقلهم، وأحذقهم أغشهم، وسليم الناصية وحاشاه أن يوجد بينهم ليس بيهودي على الحقيقة، أضيق الخلق صدوراً، وأظلمهم بيوتاً، وأنتنهم أفنية، وأوحشهم سجية، تحيتهم لعنة ولقاؤهم طيرة، شعارهم الغضب، ودثارهم المقت.

والصنف الثاني: "المثلثة"، أمة الضلال، وعباد الصليب، الذين سبوا الله الخالق مسبّة ما سبّه إياها أحد من البشر، ولم يقروا بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:3-4]، ولم يجعلوه أكبر من كل شيء، بل قالوا فيه ما {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} [مريم:90]. 

فقل ما شئت في طائفة أصل عقيدتها: إن الله ثالث ثلاثة، وإن مريم صاحبته، وإن المسيح ابنه، وأنه نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة، وجرى له ما جرى، إلى أن قتل ومات ودفن، فدينها عبادة الصلبان، ودعاء الصور المنقوشة بالأحمر والأصفر في الحيطان، يقولون في دعائهم: يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا!

فدينهم: شرب الخمور، وأكل الخنزير، وترك الختان، والتعبد بالنجاسات، واستباحة كل خبيث من الفيل إلى البعوضة، والحلال ما حلله القس والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، وهو الذي يغفر لهم الذنوب، وينجيهم من عذاب السعير.

فهذا حال من له كتاب، وأما من لا كتاب له، فهو بين عابد أو ثان، وعابد نيران، وعابد شيطان، وصابئ حيران.
يجمعهم: الشرك، وتكذيب الرسل، وتعطيل الشرائع، وإنكار المعاد، وحشر الأجساد، لا يدينون للخالق بدين، ولا يعبدونه مع العابدين، ولا يوحدونه مع الموحدي.

وأمة "المجوس" منهم، تستفرش الأمهات والبنات والأخوات، دع العمات والخالات، دينهم الزمر، وطعامهم الميتة، وشرابهم الخمر، ومعبودهم النار، ووليهم الشيطان، فهم أخبث بني آدم نحلة، وأرداهم مذهباً، وأسوؤهم اعتقاداً.

وأما "زنادقة الصابئة، وملاحدة الفلاسفة"، فلا يؤمنون بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه، ولا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، وليس للعالم عندهم ربٌّ فعّال بالاختيار لما يريد، قادر على كل شيء، عالم بكل شيء، آمر، ناه، مرسل الرسل، ومنزل الكتب، ومثيب المحسن، ومعاقب المسيء، وليس عند نظارهم إلا تسعة أفلاك وعشرة عقول وأربعة أركان، وسلسلة ترتبت فيها الموجودات، هي بسلسلة المجانين أشبه منها بمجوزات العقول.

وبالجملة: فدين الحنيفية الذي لا دين لله غيره بين هذه الأديان الباطلة التي لا دين في الأرض غيرها أخفى من السهاب تحت السحاب، وقد "نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب".

فأطلع الله شمس الرسالة في حنادس تلك الظلَم سراجاً منيراً، وأنعم بها على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكوراً، وأشرقت الأرض بنورها أكمل الإشراق، وفاض ذلك النور حتى عمَّ النواحي والآفاق، واتسق قمر الهدى أَتَمَّ الاتساق، وقام دين الله الحنيف على ساق.

فلله الحمد الذي أنقذنا بمحمد صلى الله عليه وسلم من تلك الظلمات، وفتح لنا به باب الهدي فلا يغلق إلى يوم الميقات، وأرانا في نوره أهل الضلال، وهم في ضلالهم يتخبطون، وفي سكرتهم يعمهون، وفي جهالتهم يتقلبون، وفي ريبهم يترددون، يؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت، يؤمنون ولكن بربهم يعدلون، ويعلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ويسجدون ولكن للصليب والوثن والشمس يسجدون، ويمكرون وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فاذكروني أذكركم وأشكروا لي ولا تكفرون} [البقرة:151].

الحمد لله الذي أغنانا بشريعته التي تدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة، وتتضمن الأمر بالعدل والإحسان، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي.

فله المنة والفضل على ما أنعم به علينا وآثرنا به على سائر الأمم، وإليه الرغبة أن يوزعنا شكر هذه النعمة، وأن يفتح لنا أبواب التوبة والمغفرة والرحمة.

فأحب الوسائل إلى المحسن: 

التوسل إليه بإحسانه، والاعتراف له بأن الأمر كله محض فضله وامتنانه، فله علينا النعمة السابغة، كما له علينا الحجة البالغة، نبوء له بنعمه علينا، ونبوء بذنوبنا وخطايانا وجهلنا وظلمنا وإسرافنا في أمرنا، فهذه بضاعتنا التي لدينا، لم تبق لنا نعمه وحقوقها وذنوبنا حسنة نرجو بها الفوز بالثواب، والتخلص من أليم العقاب، بل بعض ذلك يستنفد جميع حسناتنا، ويستوعب كل طاعة، هذا لو خلصت من الشوائب، وكانت خالصة لوجهه، واقعة على وفق أمره، وما هو والله إلا التعلق بأذيال عفوه، وحسن الظن به، واللجأ منه إليه، والاستعاذة به منه، والاستكانة والتذلل بين يديه، ومد يد الفاقة والمسكنة إليه، بالسؤال والافتقار إليه في جميع الأحوال.

فمن أصابته نفحة من نفحات رحمته، أو وقعت عليه نظرة من نظرات رأفته، انتعش من بين الأموات، وأناخت بفنائه وفود الخيرات، وترحلت عنه جيوش الهموم والغموم والحسرات.

المصدر: مختارات من كتب ابن القيم (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى)
  • 2
  • 0
  • 10,057

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً