المراهقة .. يقظة التصورات والرغبات

منذ 2015-01-20

كما إن المراهقة مرحلة الحساسية الزائدة، ونقص الثقة في النفس، نتيجة لشعور المراهق بالاستقلال، ولكنه في الوقت ذاته لا يستطيع الاستقلال فعليًا، هذا فضلاً عن نقص الكفاءة، فهو يرى نفسه راشد، ولكن تصرفاته مازالت متشبثة بطفولته.

ليس صبي الأمس، ولا رجل الغد.. هو حالة خاصة، ومرحلة بين الطفولة والرشد، وفيض غزير من العاطفة والحماس، بل وعدم الثبوت الانفعالي، والتأرجح بين المشاعر المتناقضة (حب وكره، فرح وحزن، حماسة وفتور..)، ومحاولات مندفعة لإثبات الذات والانطلاق، ومشاعر ثورية جياشة في طريقها للتشكل، ورغبة جامحة في التعلق بالمجهول والأوهام والخيارات الشبيهة بالأساطير والأفكار الجميلة بشكل يصعب معه قبول الواقع، حيث يرى (ماندوس) العالم النفسيّ الشهير أنّ الحديث العهد بالبلوغ يطالب أن تنسجم البيئة معه، لا أن ينسجم هو معها، وتحيّره المقررات والضوابط الاجتماعية، وقد يتمرّد عليها، وقد يخضع لها، ونادراً ما ينسجم معها! كما يقول عالم النفس (موريس دبس):«إنّ أفراد هذه الفئة (15-17سنوات) يهزّهم نداءُ القداسة والشهامة بشدّة، ويتمنّون لو يكون باستطاعتهم إعادة تشكيل العالم من جديد، ومحو الظلم والسوء منه، وتشييد العدالة فيه، وهذا هو سرّ الكثير من الاعتراضات والانتقادات التي يقومون بها إثر ملاحظاتهم لحالات التجاوز في البيت أو المجتمع».

كما إن المراهقة مرحلة الحساسية الزائدة، ونقص الثقة في النفس، نتيجة لشعور المراهق بالاستقلال، ولكنه في الوقت ذاته لا يستطيع الاستقلال فعليًا، هذا فضلاً عن نقص الكفاءة، فهو يرى نفسه راشد، ولكن تصرفاته مازالت متشبثة بطفولته.

إنها -وبصراحة أكثر- «معضلات المراهقة» التي تتطلب من الآباء والأمهات وسائر طوائف المربين التعامل معها بقدر كبير من التفهم لطبيعتها، وحرفية عالية في تجاوز توتراتها، مع صبر منقطع النظير كي تمر العاصفة بسلام.

فنون إرشادية

من الضروري تفهم حاجات المراهق الجسمية والنفسية والاجتماعية والعاطفية والاقتصادية، فحاجات المراهق تكاد تنحصر في: الحاجة إلى الحب والأمان. الحاجة إلى الاحترام، الحاجة لإثبات الذات. الحاجة للمكانة الاجتماعية، الحاجة للتوجيه الإيجابي.. وهذا يتطلب عموماً- الاهتمام بتلبية هذه الاحتياجات «احتواء المراهق»، وتفادي النقد المفرط، وعدم إحراجه أمام الآخرين وجرح مشاعره، وتجنب تعريضه للعقاب الجسدي قدر الإمكان، وتمكينه من التغلب على مخاوفه وخجله، والكشف عن قدراته وهواياته وميوله وتوجيهها توجيها فعالاً لمساعدته في إثبات ذاته، وغرس الاتجاهات الإيجابية والمفاهيم المجردة كالخير والعدل والصدق وسائر الفضائل.

تفهم المراهق لطبيعة المرحلة التي يمر بها تجعله يريح ويرتاح في نفس الوقت، فمن المهم لفت نظره إلى أنه انتقل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة التكليف، وأنه صار رجلا مسئولا عن تصرفاته، وفي الوقت الذي زادت فيه حقوقه زادت أيضا مسئولياته، وأنه لم يعد طفلاً يلعب ويلهو، بل أصبح له دورا إيجابيا في الحياة.

لابد لنا كآباء ومعلمين توضيح الفرق بين «الحدود» و «القيود» فبينهما شعرة دقيقة قد لا يتفطن لها المراهق، فالحدود (الدين، والقيم، والمبادئ.. ) سياج أمان نابع من حبنا له وحرصنا عليه، فالحرية المطلقة التي لا تحدها حدود ضربا من الجنون والتهور.. إن منشأ معاناة المراهق في الأسرة والمجتمع عندما يرى الحدود قيودا، والرقابة الواعية سجنا كئيبا، ويترجم التوجيهات على أنها ديكتاتوريات تجهض ذاته وتحد قدراته.

المناقشات «الشورى الأسرية» هي الدواء السحري الكفيل بعلاج معاناة المراهقة في رحلة إثبات الذات.. إنها جو رائع للتدريب على طرح الآراء ومناقشاتها دون نقد جارح أو لوم فاضح أو توبيخ صارخ، والوصول لحل يرضى كافة الأطراف في غياب مفردات التجريحات والتهديدات، خاصة وأن المراهق عندما يضع بنفسه حلا للمشكلة يكون أكثر الناس التزاماً به. كما أنه يتعلق بمن يسايره في تفكيره، ويحاكيه في طموحه، ويتفاعل مع أطروحاته ومشاعره. 

الحوار مع المراهق لابد أن يعاد صياغته ليوافق تقديرا لشخصيته، ووضع اعتباراً له.. فلابد أن لا يستأثر طرف بالكلام دون الآخر، لكن يوضح كلا منهما وجهة نظره وأسبابه.. ولابد أن نبتعد كآباء ومربين عن الأسئلة المباشرة التي تكون إجاباتها «نعم» أو «لا»، أو الأسئلة غير الواضحة، أو أن نجيب على تساؤلاته بتساؤلات أخرى، وأن نفسح له مجالاً للتعبير عن المبررات التي دفعته لتصرف معين، ولا نستخدم ألفاظاً قد تكون جارحة دون قصد، أو الدعاء عليه، أو توجيه الاتهامات له بصورة مباشرة، مثل: «كان هذا خطأ» أو «ألم أنبهك لهذا الأمر من قبل».. وأخطر من هذا، وصمه بلقب مشين يشتهر به بين أخواته وأقرانه وتتوارثه الأجيال، فيظل جرحا نفسيا غائرا لا يندمل مع الأيام، وتلك الفاجعة التي لا تمحوها فيوضات الحنان.

من الأهمية بمكان التوقف الفوري عن «برمجة حياة المراهق» تحت دعاوى طول خبراتنا، وأسبقية عمرنا، وحبنا الأبوي الدفين تجاهه.. وغيرها من المبررات التي تجعلنا نقتحم حياته بصورة تزعجه، حتى ولو كانت صوابا في نظرنا، فالمراهق يستهويه التشجيع والثقة في قدراته، والاعتماد عليه في المواقف المختلفة، لأنه في تلك الحالة يستشعر وجوده وأهميته ويتعلم وتزداد حصيلة تجاربه حتى ولو أخطأ.

حذار من حصار المراهق ومراقبته في كل صغيرة وكبيرة.. إن التدقيق لا يكون إلا في الأمور الهامة فقط، وهذا ويعنى إهمال الأمور الصغيرة أو التافهة (طريقة اللبس، تسريحة الشعر، نوعية الأطعمة المفضلة.. ) ما دامت لا تتجاوز الحدود المسموح بها شرعا وعرفا، لأنه إذا دقق الآباء على كافة الأمور سيولد ذلك شعور بالتمرد عند الأبناء.

القدوة الحسنة خير ترياق لتجاوز صعوبات فترة المراهقة.. إنها تؤمن للمراهق مصدر توجيهي وتعليمي عن بعد، ولا تقتحم حياته وسلوكياته بصورة مباشرة، وبالتالي يستفيد دون ضغط من أحد، وبطريقة تؤمن له استقلاليته التي يريدها.. كن لولدك المثل الأعلى، واصطحبه في مجالسك الخاصة مع الكبار ليعيش أجواء الرجولة ويتعلم منها فنون الحوار، وأشركه في حل المشكلات التي تتعرض لها الأسرة، واصطحبه معك إلى المسجد وفي صلات الرحم وسائر أعمال البر، فهذا من شأنه أن يجعله يمتزج بالجو الإيماني والإيجابي بصورة واقعية بعيدة كل البعد عن أحاديث الإرشادات والوعظ المباشرة التي لا تروق له، لأنها تجعله في ثوب المتلقي، وتحد من كبريائه وشخصيته التي يعتز بها.

من أهم ما يميز مرحلة المراهقة نضوج العقل وقدرته على التفكير، وبالطبع القضايا الدينية تستحوذ على قدر كبير من تفكير الشبل الذي شب عن الطوق، خاصة أنه قد تلقى المفاهيم والعادات الدينية ومارس العبادات في مرحلتي الطفولة والصبا بطريقة الإيحاء والتقليد، أما الآن فهو يريد أن يضيف إليهما إيماناً يستعين بالعقل في فهم قضايا الدين، ولذلك ينبغي أن لا نمل من المناقشات الدينية المنطقية التي تستهوي المراهق في محاولة لاكتشاف العلة من الأحكام والوقوف على محاسن الشريعة والاقتناع بعظمة هذا الدين، كما ينبغي أن نشبع نهمه لهذا النوع من المعارف بكل الوسائل المتاحة من حضور الندوات الدينية والكتب المتخصصة والبرامج وغير هذا من الوسائل المختلفة.

التحصين الواجب إعطاؤه للأبناء لابد أن يتزامن فيه «التحصين الفكري» مع «التحصين الإيماني» وتنمية الوازع الديني والانضباط الداخلي؛ فالمراهق قد يخاف من سلطة الأب وقوانين المجتمع التي من الممكن بسهولة التحايل عليها، أما مركب الأمان فهو الحياء المحمود واستشعار رقابة الله - جل وعلا - عليه.. إنه من الضرورة بمكان تعظيم قدر الله - تعالى -في نفس الابن لينعكس ذلك على سلوكه وتعاملاته، خاصة في مجتمعاتنا المعاصرة المكتظة بالفتن.. ومع التحصين الإيماني يكون التحصين الفكري بإثراء الحوار مع الأبناء حول القيم وأثرها في صلاح أحوالهم، وانتقاد كل ما من شأنه أن يغرس أفكار خاطئة في عقولهم وعدم تركها تمر مرور الكرام.. ولا يفوتنا التنويه بأهمية انفتاح الأب والأم على أبنائهما والتصابي لهما؛ ليكون من السهل على الأولاد عرض ما يتعرضون له من مشكلات في حياتهم على أبويهم ومعرفة الصواب والخطأ فيه.. من وسائل التحصين كذلك توفير البدائل الإعلامية الهادفة التي تبث الفكر الصحيح، وهذه البدائل -بفضل الله تعالى- متوفرة هذه الأيام أكثر من ذي قبل من مجلات وفضائيات ومواد سمعية ومرئية وألعاب كمبيوتر.

النشاطات الترويحية من أهم الأمور التي تمتص ثورة الطاقة لدي المراهق، وتنظم فوران الهرمونات الجسمية، فضلا عن تحقيق رغباته الذاتية في الانطلاق، وتدعيم حلقة التواصل الاجتماعي مع شباب من نفس المرحلة العمرية خارج حدود ونطاق الأسرة، لذلك من الأهمية بمكان اشتراك المراهق في الأنشطة الرياضية والكشفية والدينية ومشروعات الخدمة العامة، واكتشاف مواهبه الخاصة، ومحاولة استثمارها ونموها في الأنشطة المناسبة.

عندما يجد المراهق سلوكياته دائما مرفوضة في رؤية الآباء، بينما هي مقبولة من وجهة نظر الرفقاء، فهذا يجعله يميل إلي رفاقه من أجل اكتساب الاعتراف بذاته في إطار جماعتهم، وهنا مكن خطر ومزلق صعب، حيث يستمد الرأي من أقران ضعيفي الخبرة يوافقونه في التسرع والتهور.. إن أغلب مشاكل المراهقة تكون نتيجة إحاطة المراهق بسياج من التوجيهات والأوامر لا تنسجم مع طبيعته الاستقلالية ورفضه الوصاية من أي أحد، ولذلك تبقى الآذان المصغية له في هذا السن الحرج هي الحل الناجع، وبناء جسور الصداقة وتبادل الخواطر لنقل الخبرات كصديق لا كولي أمر وسيد مطاع. ولا أدل على ذلك من أن كل الدراسات الاجتماعية رصدت تلاشي مشاكل المراهقة في الأسر المتماسكة بدرجة كبيرة جدا بالمقارنة بالأسر المفككة. ولا ننسى أيضا أهمية مد جسور التواصل والتعاون مع أهل الخبرة والصلاح في المحيط الأسري وخارجه (العم، الخال، إمام المسجد.. وسائر عقلاء العائلة)، والذي من شأنه أن يمثل سياجا وقائيا يحول دون انفلات المراهق إلى عوالم مجهولة.

أصدقاء المراهق يشغلون حيزا لا يستهان به في حياته، وخطوة من خطوات بناء الاستقلالية في شخصيته والانطلاق خارج الحدود الأسرية، ولخطورة الصداقة إيجابا أو سلبا فلابد من التحري عن أصدقاء ابنك، ليس بالتجسس بل بترك مساحة له للحديث عنهم، ورواية المواقف معهم، وأحياناً مصادقة أصدقائه والجلوس والتنزه معهم، مع التركيز على لفت انتباهه لأهمية الصداقة في التأثير على سلوكيات الفرد منا، والشروط والتوجيهات الإسلامية الواجب توافرها فيمن نصادق.

العقاب لابد أن يكون إيجابيا وليس سلبيا، فالعقاب الإيجابي هو الذي يحمل بين طياته الفهم الآلي لكلمة السماح، وليس الإحساس بالذنب حتى بعد وقوع العقاب عليه. وصحيح أن الأبناء هم من يدفعون آبائهم إلى ممارسة العقاب عليهم، علاوة على أنه ظاهرة صحية، إلا أنه يتم وسط غضب كبير وقوة أكبر، فلابد أن يشتمل معنى العقاب على الحب، كما لا يتم إلا بعد توجيه التحذير.. يقول أحد التربويين: أُقَدِّر أن تصرفات المراهقين أحياناً تشكل تحدياً كبيراً لقوتنا في ضبط انفعالاتنا، لكن هذا التحدي هو الحد الفاصل بين الأب القوي القادر على ضبط نفسه والتحلي بالرفق والحلم، وبين الأب الضعيف العاجز عن السيطرة على انفعالاته وأن يملك غضبه فضلاً عن السيطرة على أبنائه وأن يملك قلوبهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب)) [متفق عليه].

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 5
  • 0
  • 6,038

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً