الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف - (9) غلو في المولد شائن
لا ينكر البدعة ولا ينهى عنها ويحذر منها إلا مؤمن وصالح أيضا، فكيف يُكَفَّرُ أو يُتَّهَمُ بالكفر والعياذ بالله، وكأن هؤلاء الغلاة في شأن هذه البدعة عَمُوا عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال، وإلا رجعت عليه».
غلو في المولد شائن
إن مما يدعو إلى الأسى والأسف معا وجود كثير من أصحاب الموالد والمحبذين لها ومن بينهم طلبة علم قد غلوا في تمجيد هذه البدعة، أكبروا من شأنها وتعظيمها إلى حد أن بعضهم لا يتورع أن ينسب من ينكرها بوصفها بدعة محدثة ضلالة أن ينسبه إلى الكفر والمروق من الدين بقوله: فلان يبغض الرسول صلى الله عليه وسلم أو يكرهه، لأنه لا يحب المولد أو يكره الاحتفال بالمولد، وهو يعلم أن من يكره الرسول صلى الله عليه وسلم أو لا يحبه يكفر بذلك بإجماع المسلمين، ومن هنا كان قَوْلُهُ فلان يكره الرسول صلى الله عليه وسلم تكفيرًا له، وتكفير المسلم لا يحل أبدا. ومع العلم أنه لا ينكر البدعة ولا ينهى عنها ويحذر منها إلا مؤمن وصالح أيضا، فكيف يُكَفَّرُ أو يُتَّهَمُ بالكفر والعياذ بالله، وكأن هؤلاء الغلاة في شأن هذه البدعة عَمُوا عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتفق على صحته البخاري ومسلم: « »[1] وصموا عن قوله، صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر المتفق عليه أيضا: « »[2]، أي رجع عليه ما قاله من الكفر أو اللعن. إن هذا السلوك لشيء يدعو إلى العجب والاستغراب حقا!! إن من حق المسلم على المسلم أن يأمره بالمعروف إذا تركه، وينهاه عن المنكر إذا ارتكبه، فإذا قام المسلم بحق أخيه فأمره أو نهاه يجاريه أخوه المأمور أو المنهي بأسوأ جزاء وأقبحه بنسبته إلى الكفر والعياذ بالله تعالى. وهذا في الحقيقة عائد إلى سوء أحوال المسلمين، وفساد قلوبهم وأخلاقهم بسبب بعدهم عن التربية الإسلامية، التي هي قوام حياة المسلمين، وسبب سعادتهم وكمالهم. إذ قد انعدمت هذه التربية منذ قرون عدة وانعدم بينهم من يقوم بها فيهم مع شديد الأسف، وهذه الأمة المحمدية حاجتها إلى التربية الروحية والخلقية أمس حاجاتها إليها، إذ ما كملت في الصدر الأول ولا سعدت إلا عليها قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]، فتزكية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه هي تربية نفوسهم على الكمالات، وأخلاقهم على الفضائل بما يغذوهم به يوميا من أنواع المعارف ويروضهم عليه من أنواع المعارف والآداب حتى كملوا وطهروا. وقام بعده حواريوه وأصحابه بتربية المسلمين في كل الأمصار والبلاد التي انتشروا فيها، وخلفهم بعد وفاتهم تلامذتهم من التابعين، وتابعي التابعين مع من بعدهم، وسارت أمة الإسلام كاملة طاهرة خيرة إلى أن انعدمت فيها هذه التربية وانعدم رجالها. فسادتها الفوضى والانقسام، وتقاسمتها الأهواء والشهوات، وتولى في يوم من الأيام تربيتها رجال ليسوا أهلا لذلك فزادوا في سوء حالها واضطراب أمرها فكانوا كما قيل: "ضغثا على إبالة"، وأخيرا ما علي إلا أن أنصح لأخي المسلم الذي أصر على هذه البدعة وعز عليه أن يتركها لاقتناعه بجوازها أو فائدتها ونفعها، أو لطول ما اعتاد فعلها وألف إقامتها أنصح له أن يعذر أخاه المسلم إذا نهاه عنها أو أنكرها عليه ؟ لأنه مأمور بذلك من قبل المحتفل به صلى الله عليه وسلم إذ قال: « »[4]، وبقوله: « »[5]. إن المفروض في المسلم إذا أمره أخوه بمعروف أو نهاه عن منكر أو نصح له بفعل خير وترك شر أن يستجيب له، أو يرد عليه ردا جميلا كأن يقول جزاك الله خيرا لقد أديت واجبك معي. وأنا مبتلى عسى الله أن يعفو عني. أو يقول هذه بدعة غير أني رأيت بعض أهل العلم أقرها أو عمل بها أو أجازها، فاتبعتهم وإني أرجو أن لا يؤاخذنا الله! هكذا ينبغي أن يكون المسلمون، لا أن يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا اتباعا للهوى وتعصبا للآراء، وغلوا في الدين غير الحق والعياذ بالله تعالى من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (البخاري (الأدب [5752])).
(2) (مسلم (الإيمان [61])، أحمد [5/166])).
(3) الآية من سورة الجمعة. ونظيرها من آل عمران ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) الآية.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه أحمد والترمذي وحسنه أوله: «والذي نفسي بيده لتأمرن» إلخ..
كتاب الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف
تأليـف / فضيلـة الشيـخ أبي بكر جابر الجزائري
- التصنيف:
- المصدر: