التوبة شعار الصالحين
إن دأب الصالحين والأولياء والمقرَّبين من عباد الله أن قلوبهم أصبحت يقِظَةً وَجِلَةً بتوفيق الله، قد شعشع الإيمان في صدورهم، ودومًا يستشعرون الخوف من الله ويستحضرون خشيته ومراقبته، وأنهم إلى ربهم صائرون وإليه سوف يحشرون، قد استحضرت قلوبهم ذكر الله وأمور الآخرة، واستجابوا لأمر ربهم تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البَقَرَة: 203].
- التصنيفات: التوبة -
إن دأب الصالحين والأولياء والمقرَّبين من عباد الله أن قلوبهم أصبحت يقِظَةً وَجِلَةً بتوفيق الله، قد شعشع الإيمان في صدورهم، ودومًا يستشعرون الخوف من الله ويستحضرون خشيته ومراقبته، وأنهم إلى ربهم صائرون وإليه سوف يحشرون، قد استحضرت قلوبهم ذكر الله وأمور الآخرة، واستجابوا لأمر ربهم تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البَقَرَة: 203].
فدوماً ترى المؤمنين من عباد الرحمن يلومون أنفسهم ويحاسبونها، ثم يرجعون إلى ربهم بقلوب منكسرة خاشعة، قد امتلأت رهبة وخشية.
قال الله عز وجل: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 32-33]. أي: رجَّاع إلى الله في جميع الأوقات، بذكره والاستعانة به، وحبه وخوفه ورجائه.
إنه قلبٌ أناب إلى الله وأقبل على كتابه فزاده الله هداية ونورًا وعلمًا وبصيرةً، ويسَّر الله له الوصول إليه، فإن الله {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرّعد:27].
والإنابة والأَوبَة صفة الأنبياء والمرسلين، كحال نبي الله أيوب عليه السلام، قال سبحانه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44].
والإنابة تعني الرجوع إلى الله وانصراف دواعي القلب إليه، وتتضمن محبة الله وخشيته، والخضوع له والإعراض عمّا سواه.
وقد امتدح الله تبارك وتعالى خليله إبراهيم عليه السلام، فقال عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هُود:75].
أي سريع الفيئة إلى الله وإلى مرضاته، رجَّاع إلى الحق وإلى الفضيلة حيثما كان وفي كل حين، ومتضرع إلى الله في جميع الأوقات. ولك أن تتخيل الخليل عليه السلام حتى وهو يؤدي طاعة ربه فإنه أيضاً يتوب إلى الله مخافة التقصير، لعلمه بأن الله هو التواب الرحيم، جاء ذلك في قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البَقَرَة:128].
وهذا موسى عليه السلام تشرفت نفسه، واشتاقت إلى رؤية الله، وهو الأمر الذي لا يكون، ولا يطيقه بشر في هذه الأرض، حتى الجبل الأصم الغليظ لم يثبت، وانهال كالرمل مدكوكاً قد ساخت نتوءاته رهبة من الله، حينها خرَّ موسى من الصعقة، وبعد الإفاقة ما كان منه إلا أن استغفر، وثاب إلى نفسه منزِّهاً ومعظِّماً لربه عما لا يليق، ولِمَا صدر منه من السؤال الذي دافعه الحب والمودة لربه، معلنًا ذلك بالتوبة، وأنه عليه السلام في طليعة المؤمنين بتعظيم ربهم وإجلاله، تجلى ذلك جليًّا في قوله جل جلاله: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعرَاف:143].
نعم هذا هو طريق المتقين، وزاد المؤمنين المخلصين، فإنهم يلازمون التوبة في كل حين، وعلى أي حال حتى أصبحت لهم شعاراً ودثاراً.
إنه أدب جميل، وخوف عظيم، يوم يطلب المتَّقون التوبة من ربهم حتى وهم متلبِّسون بالطاعة، منفذون لأوامره.
وهو دليل على خشية الله وتعظيمه، وطهارة القلب من الإعجاب، والخوف من التقصير الذي يُعَدُّ عند هؤلاء من الذنوب التي تهبط بالنفس وتبعدها عن الله.
فليست التوبة محصورة في حق العصاة، بل حتى المؤمن والتائب لابد لهما من تجديد الإيمان، والتوبة في كل وقت وحال، وفي جميع مراحل العمر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن التوبة: "هي مقام يستصحبه العبد من أول ما يدخل إلى آخر عمره ولا بد منه لجميع الخلق، فجميع الخلق عليهم أن يتوبوا وأن يستديموا التوبة".
إنها النفوس العظيمة. فعند التقصير تتوب، وإذا خشيت التقصير أيضًا سألت الله التوبة والغفران، وهذا ما أكَّده العلامة ابن القيِّم رحمه الله حيث قال: "التوبة من أفضل مقامات السالكين، لأنها أول المنازل، وأوسطها وآخرها، فلا يفارقها العبد أبداً، ولا يزال فيها إلى الممات".
يعيش العبد مع التقوى، وإذا ألَمَّت به وساوس الشيطان، تذكر فعاد إلى الرحمن.
حيث يتذكر عقاب الله وجزاءه، ووعده ووعيده، فيتوب ويُنِيب، ويستعيذ بالله، ويرجع إليه من قريب.
يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعرَاف:201].
قال مجاهد رحمه الله: "هو الرجل يَهِمُّ بالذنب فيذكر الله فيدعه".
وقال مقاتل رحمه الله: "إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر، وعرف أنه معصية، فأبصر فنزع عن مخالفة الله".
وإن كانت الوقاية والسلامة من الذنوب والآثام خير من طلب التوبة، لأن العبد ربما لا يوفق للتوبة، أو ربما لا تقبل منه، كما أن السلامة من الذنب أيسر من التوبة والندامة، قال الحسن البصري رحمه الله: "يا ابن آدم ترك الخطيئة أيسر من التوبة". قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3].
إن الله هو التواب الرحيم، لكثرة قبوله توبة العباد حالاً بعد حال، وإن تكررت الذنوب، فهو التواب الذي ييسر لعباده وسائل التوبة، ثم يتوب عليهم.
وهو الرحيم الذي يرحم عباده مهما أساءوا، فيقبل توبتهم، ويبدل سيئاتهم حسنات قال تبارك وتعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البَقَرَة:37].
وهذا مما يزيد العبد المؤمن رغبةً ورجاءً، حين يعلم بأن التواب وصف لازم للرب سبحانه، فلا ييأس من رحمته أحد. قال سبحانه: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يُوسُف:87].
قال ابن القيم رحمه الله:
وكذلكَ التوَّابُ منْ أوصافِهِ *** والتَّوْبُ في أوصافِهِ نَوْعَانِ
إِذْنٌ بتوبـةِ عبـدِهِ وَقَبُولُهَـا *** بـعـدَ المَـتَـابِ بِـمِنَّـةِ المنَّـانِ
فهو العفو الغفور الغفار الذي لم يزل ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفاً، فكل أحد من عباده مضطر إلى عفوه ومغفرته، كما أن الكل مفتقر ومضطر إلى كرمه ورحمته. قال سبحانه: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النُّور:22].
فهو الغفور الذي يستر الذنب على العبد، يفعل ذلك مرة بعد مرة إلى ما لا يُحصى، سِتِّير يحب الستر لعباده المؤمنين، ستر عوراتهم، وستر ذنوبهم، وأمرهم أن يستروا عوراتهم، وأن لا يجاهروا بمعاصيهم في الدنيا، ثمَّ هو يسترها عليهم في الآخرة.
يقول ابن القيم رحمه الله:
وهو الحَيِيُّ فليسَ يَفضَحُ عبدَه *** عند التَّجاهُرِ منهُ بالعصيانِ
لـكـنَّــه يُـلــقِـي عـليــه سـِــترَه *** فَهُوَ السِّتِّير وصاحِبُ الغُفرَانِ
وهذا جدير بأن يدفع المسلم إلى الإسراع بالتوبة، ثم الاستبشار بأن الله يقبل التوبة، ويعفو عن السيئات، ويمحو أثرها. كما ذكر الله جل شأنه فقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشّورى: 25].
والله يفرح بتوبة العبد، وهذا من رحمته بعباده، وعظيم لطفه بهم، فضلاً عن قبول التوبة والأمر بها، وقد جاء ما يؤكد ذلك في سنة الهدى والرحمة، ليكون دليلاً شاهداً على أن هذا الدين - بحمد الله - كله خير وفضل ورحمة للعباد، كما جاء في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبيَاء:107].
فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (رواه مسلم).إنه رجل كان بأرض فلاة ليس حوله أحد، لا ماء، ولا طعام، ولا أناس، وكان معه راحلته، وعليها طعامه وشرابه، فضلَّت عنه، فذهب يطلبها فلم يجدها فذهب إلى شجرة ونام تحتها ينتظر الموت، قد أيس من حياته فبينما هو كذلك إذ بناقته عنده قد تعلق خطامها بالشجرة التي هو نائم تحتها.
فبأي شيء يُقَدَّر هذا الفرح؟
هذا الفرح لا يمكن أن يتصوره أحد إلا من وقع في مثل هذه الحال، لأنه فرح عظيم، فرح بالحياة بعد الممات. ولهذا أخذ بخطام ناقته وقال: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" مع أنه أراد أن يثني على الله فيقول: "اللهم أنت ربي وأنا عبدك".
ولكنه من شدة الفرح أخطأ فقلب القضية. وفي هذا دليل على أن الله عز وجل أفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه من هذا الرجل براحلته، وأنه عز وجل يحب ذلك محبة عظيمة ليس لأجل حاجته إلى أعمالنا وتوباتنا. إن الله غني عنا ولكن لمحبته سبحانه للكرم فإنه يحب أن يعفو. وأن يغفر أحب إليه من أن ينتقم ويؤاخذ. فيفرح بتوبة عبده فرحاً يليق بجلاله وعظمته لا يشبهه فرح المخلوقين.
والمقصود أن هذا الفرح من الله بتوبة عبده لم يأت نظيره في غيرها من الطاعات دليل على عظم قدر التوبة، وفضلها عند الله.
ولولا أن التوبة اسم جامع لشرائع الإسلام، وحقائق الإيمان، وأن أمرها عظيم، لم يكن الرب تبارك و تعالى يفرح بتوبة عبده ذلك الفرح العظيم.
فهو سبحانه يحب من العباد أن يتوبوا ويريدها منهم كما في قوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النِّسَاء:27].
وفي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنهما: «البخاري).
» (رواهولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قـرنـــتــــه *** بعفوك ربي كان عفوك أعظما