ألحان وأشجان

منذ 2015-01-28

الحمد لله الذي امتن على عباده بالأسماع والأبصار، وكرم الإنسان ورفع له المقدار، واصطفى من عباده المتقين الأبرار، فوفقهم للطاعات، وصرفهم عن المنكرات، وأعدّ لهم عقبى الدار.

الحمد لله الذي امتن على عباده بالأسماع والأبصار، وكرم الإنسان ورفع له المقدار، واصطفى من عباده المتقين الأبرار، فوفقهم للطاعات، وصرفهم عن المنكرات، وأعدّ لهم عقبى الدار.

أحمده - سبحانه -، فهو الذي خلق المنطق واللسان، وأمر بالتعبد وذكر الرحمن، ونهى عن الغيبة ومنكر البيان، فسبحانه من إله عظيم، يحصي ويرقب، ويرضى ويغضب، وينصب الميزان يوم تنطق الجوارح، وتبين الفضائح، فإذا هم قد أحصيت أعمالهم، وهتكت أستارهم، وفشت أسرارهم، ونطقت أيديهم وأرجلهم، فأشهد أن لا إله إلا هو الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى الذي لا ينطق عن الهوى.

صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذه رسالة أبعثها إلى أخوة وأخوات من المؤمنين والمؤمنات.

أحب لهم الخير والهدى، وأكره لهم الشر والردى.

إنها صيحة في جموع الغافلين اللاهين السادرين.

إنها أشجان أصرخ بها في آذان سلم الله سمعها، وعقول كمل الله لبها، وأجساد زاد الله حسنها، بل إنها صرخات نذير، ونداءات تحذير، أهتف بها في الجموع، لعل عاصياً يتوب، أو مفتوناً يئوب.

إنها ألحان جرت إلى أشجان، وضحكات انقلبت حسرات، وجلسات غمرت بالويلات.

إنها عبرات أنثرها بين يدي أقوام فتنت قلوبهم بالمعازف والألحان، هاجت لها أحاسيسهم وتعلقت بها نفوسهم.

أبعثها إليهم لأني أعلم أنهم مؤمنون موحدون تشتاق نفوسهم إلى الجنات، ويعظمون رب الأرض والسموات.

هم خلان لنا وأصحاب، بل إخوة وأحباب نرجو أن يجمعنا الله بهم في الجنات.

ولأن كان الشيطان تغلب عليهم تارة فهم أهل أن يغلبوه تارات.

ولكن ماذا أقول، وبماذا أبدأ؟ نعم، ماذا أقول عن الغناء؟

صوتِ العصيان، وعدوِّ القرآن، ومزمارِ الشيطان الذي يزمر به، فيتبعه أولياؤه.

ماذا أقول عن الغناء؟

وهو قرآن الشيطان، والحجاب عن الرحمن.

فلو رأيتهم عند سماع الغناء وقد علت منهم الأصوات، وهاجت منهم الحركات يتمايلون تمايل السكران، ويتكسرون تكسر النسوان.

وكم من قلوب هناك تمزق، وأموالٍ في غير طاعة الله تنفق.

قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لعباً ولهواً.

ماذا أقول عن الغناء؟

وما أدمن عليه عبد إلا استوحش من القرآن والمساجد، وفر عن كل راكع وساجد، وغفل عن ذكر الرب المعبود، واستأنس بأصوات النصارى واليهود، وابتلي بالقلق والوساوس، وأحاط به الضيق والهواجس..

فسل ذا خبرة ينبيك عـنـه *** لتعلم كم خبايا في الزوايـا

وحاذر إن شغفت به سهامـاً *** مريشة بأهداب المــنـايا

إذا ما خالطت قلبا كــئيباً *** تمزق بين أطباق الــرزايا

ويصبح بعد أن قد كان حـراً *** عفيف الفرج عبداً للصبايا

ماذا أقول عن الغناء؟

وقد تغلب على بعض العقول، وطغى وزاد في الضلال وبغى.

بل لو سألت بعض الناس اليوم عن النبي - عليه السلام - عن سنة من سننه، أو هدي من هديه، أو طريقة منامه واستيقاظه وأكله، لقال لك: لا أدري وكيف له أن يدري؟! بل ومن أين يدري وهو يعكف على هذه الأغاني آناء الليل وأطراف النهار؟

فيدري عن المغنية فلانة كيفية أكلها ولون ثوبها، ومقاس حذائها وعدد حفلاتها، وأسماء ملحنيها، ويدري عن المغني فلان عن سيارته وعدد أشرطته، وألحان أغنياته، وكأن أحدهم عالم جليل أو مجاهد نبيل!

وما خلق الله العباد لأجل غناء وفساد، وإنما خلقهم ليعبدوه ويحموا الدين وينصروه، ومن عاش عيش المؤمنين ورفع راية الدين لم يلتفت إلى شيء من ذلك، نعم لم يلتفت إلى رقص راقص، ولم يستفزه عزف عازف، بل أدرك سرّ وجوده في الحياة، فعاش لأجله ومات، وانظر إلى الذين يعيشون للإسلام يحيون من أجله ويموتون من أجله، ويسكبون دماءهم فداء له..

أقوام صالحون فطنا *** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

بذلوا لربهم حياتهم، وأنفقوا له موالهم، وأذلوا بين يديه جباههم، وفارقوا لأجله أوطانهم.

يأخذ ربهم من دمائهم يغسل بها سيئاتهم، ويطيب حسناتهم، وانظر إلى صهيب الرومي - رضي الله عنه - كان عبداً مملوكاً في مكة، فلما جاء الله بالإسلام صدق وأطاع، فاشتد عليه عذاب الكافرين، ثم أذن النبي - عليه الصلاة والسلام - للمؤمنين بالهجرة إلى المدينة فهاجروا، فلما أراد أن يهاجر معهم منعه سادة قريش، وجعلوا عنده بالليل والنهار من يحرسه خوفاً من أن يهرب إلى المدينة، فلما كان في إحدى الليالي خرج من فراشه إلى الخلاء فخرج معه من يرقبه، ثم ما كاد يعود إلى فراشه حتى خرج أخرى إلى الخلاء، فخرج معه الرقيب، ثم عاد إلى فراشه، ثم خرج فخرج معه الرقيب، ثم خرج كأنه يريد الخلاء، فلم يخرج معه أحد وقالوا: قد شغلته اللات والعزى ببطنه الليلة، فتسلل - رضي الله عنه - وخرج من مكة، فلما تأخر عنهم خرجوا يلتمسونه فعلموا بهربه إلى المدينة، فلحقوه على خيلهم حتى أدركوه في بعض الطريق فلما شعر خلفه رقى على ثنية جبل، ثم نثر كنانة سهامه بين يديه، وقال: يا معشر قريش لقد علمتم والله أني أصوبكم رمياً، ووالله لا تصلون إليَّ حتى أقتل بكل سهم بين يدي رجلاً منكم، فقالوا: أتيتنا صعلوكاً فقيراً، ثم تخرج بنفسك ومالك، فقال: أرأيتم إن دللتكم على موضع مالي في مكة هل تأخذونه وتدعوني أذهب؟ قالوا: نعم، فقال: احفروا تحت أسكفة باب كذا فإن بها أواقي من ذهب فخذوه واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين من ثياب، فرجعوا وتركوه، ومضى يطوي قفار الصحراء يحمله الشوق، ويحدوه الأمل في لقاء النبي - عليه السلام - وأصحابه حتى إذا وصل المدينة أقبل إلى المسجد فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد وعليه أثر الطريق ووعثاء السفر، فلما رآه النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: ((ربح البيع يا أبا يحيى، ربح البيع يا أبا يحيى، ربح البيع يا أبا يحيى))، نعم والله ربح البيع.

ولماذا لا يربح البيع وهو الذي هان عليه أن يترك المال الذي جمعه بكد الليل وتعب النهار، ويترك الأرض التي ألفها والبلد التي عرفها والدار التي سكنها في سبيل طلب مرضاة الله.

ولماذا لا يكون جزاؤه كذلك وهو الذي لم يلتفت إلى لهو ومعازف، ولم يدنس دينه ويقارف.

وإنما سمت به نفسه إلى سماع كلام الرحمن، والتقلب في الجنان، قال الله: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، وعند أحمد بسند حسن عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: أن النبي - عليه السلام - خرج مع بعض أصحابه يوماً فلما برزوا من المدينة، فإذا راكب يوضع نحوهم فصوب النبي - عليه السلام - إليه بصره ثم التفت إلى أصحابه فقال: كأن هذا الراكب إياكم يريد؟! فأقبل الرجل على بعيره حتى وقف عليهم ثم أخذ ينظر إليهم، فقال له النبي - عليه السلام -: ((من أين أقبلت))؟ فقال الرجل وهو يئن من شدة الطريق ووعثاء السفر: أقبلت من أهلي وولدى وعشيرتي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((فأين تريد))؟ قال: أريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فقد أصبته))، فابتهج الرجل، وتهلل وجهه وقال: يا رسول الله علمني ما الإيمان؟ قال: ((تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت))، قال: قد أقررت، فما كاد الرجل يتم إقراره بالإسلام حتى تحرك به بعيره، فدخلت يد البعير في جحر جرذان، فهوى البعير على الأرض، وهوى الرجل من فوقه فوقع على هامته فما زال ينتفض حتى مات، فقال النبي - عليه السلام -: ((عليَّ بالرجل))، فوثب إليه عمار بن ياسر، وحذيفة فأقعداه فلم يقعد، وحركاه فلم يتحرك، فقالا: يا رسول الله قُبِض الرجل "مات"، فالتفت إليه النبي - عليه السلام - ثم أعرض عنه فجأة، ثم التفت إلى حذيفة وعمار وقال: ((أما رأيتما إعراضي عن الرجل؟! فإني رأيت ملكين -وفي رواية: رأيت زوجتيه من الحور العين- يدسان في فيه من ثمار الجنة، فعلمت أنه مات جائعاً)).

نعم أقوام عرفوا للخالق حقه فصدقوا في حبه، وتنعموا بقربه، وشكروا له نعمته، كلما زادت نعم الله عليهم ازدادوا لفضله شكرا وله حبا وتعبداً.

أقبل رجل إلى إبراهيم بن أدهم فقال: يا شيخ إن نفسي تدفعني إلى المعاصي فعظني موعظة، فقال له إبراهيم: إذا دعتك نفسك إلى معصية الله فاعصه ولا بأس عليك، ولكن لي إليك خمسة شروط، قال الرجل: هاتها، قال إبراهيم: إذا أردت أن تعصي الله فاختبئ في مكان لا يراك الله فيه، فقال الرجل: سبحان الله كيف أختفي عنه وهو لا تخفى عليه خافية؟ فقال إبراهيم: سبحان الله أما تستحي أن تعصي الله وهو يراك، فسكت الرجل ثم قال: زدني، فقال إبراهيم: إذا أردت أن تعصي الله فلا تعصه فوق أرضه، فقال الرجل: سبحان الله وأين أذهب وكل ما في الكون له؟ فقال إبراهيم: أما تستحي أن تعصي الله وتسكن فوق أرضه؟ قال الرجل: زدني، فقال إبراهيم: إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزقه، فقال الرجل: سبحان الله وكيف أعيش وكل النعم من عنده؟ فقال إبراهيم: أما تستحي أن تعصي الله وهو يطعمك ويسقيك ويحفظ عليك قوتك؟ قال الرجل: زدني، فقال إبراهيم: فإذا عصيت الله ثم جاءتك الملائكة لتسوقك إلى النار فلا تذهب معهم، فقال الرجل: سبحان الله وهل لي قوة عليهم إنما يسوقونني سوقاً؟ فقال إبراهيم: فإذا قرأت ذنوبك في صحيفتك فأنكر أن تكون فعلتها، فقال الرجل: سبحان الله فأين الكرام الكاتبون، والملائكة الحافظون، والشهود الناطقون؟ ثم بكى الرجل ومضى وهو يقول: أين الكرام الكاتبون، والملائكة الحافظون، والشهود الناطقون.

نعم هؤلاء قوم تسامت نفوسهم عن الهوى والألحان، وتعلقوا بنعيم الجنان، فلم يفلح الشيطان في جرهم إلى شهوات أو مجالس منكرات، زمر الشيطان لهم فلم يتبعوه، وصاح بهم فلم يجيبوه فصاروا من عباد الله المخلصين.

واستمع إلى ما حكاه الله عن الشيطان لما عصى أمر بالرحمن، وأبى أن يسجد لآدم - عليه السلام -، فطرده الرب من الجنان، وحكم عليه بالنيران، فحقد الشيطان على آدم وذريته، وقال لرب العالمين: (أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ).

وصوت الشيطان هو الغناء:

يحضر معه الشيطان ويغلب على الإنسان فما بالك إذا اقترن بكلمات رقيقة وألحان صفيقة.

طلب ملك الروم من أحد الخلفاء أن يرسل إليه رسولاً عاقلاً، فأرسل إليه الإمام أبا بكر الباقلاني، فلما أقبل الباقلاني على مجلس الملك أمروه أن يدخل راكعاً، فأبى، فقال الملك أدخلوه من الباب الآخر، وكان باباً صغيراً لابد للداخل منه أن يحني رأسه، فلما أقبل الباقلاني على الباب ولى الباب ظهره ودخل يمشي القهقرى على قفاه، ثم اعتدل ووقف أمام الملك فلما رأى الملكُ فطنته وعقلَه أمر عازفاً عنده أن يضرب بآلة معه، وكان لا يسمعها أحد إلا تمايل لها وطرب واهتز، فلما سمعها الباقلاني ورأى الناس يتمايلون مال على أصبع يده أو رجله واجتهد حتى جرحه ونزف منه الدم، فأشغله ألم الجرح عن السماع خوفاً من تسلط الشيطان.

رأت عائشة - رضي الله عنهما - رجلاً يحرك رأسه طرباً يمنة ويسرة فقالت: "أف، شيطان أخرجوه أخرجوه"، نعم صوت الشيطان الغناء.

ألا ترى أنه يثير الغرائز والآثام، ويدعو إلى الاختلاط وأنواع الحرام، ولعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا؟! وكم من حر أصبح به عبداً للصبيان و الصبايا؟!

وكم من غيور تبدل به اسماً قبيحاً بين البرايا؟! وكم من غني أصبح به فقيراً بعد المطارف والحشايا؟!

وكم من معافى أحل به أنواع البلايا؟!

بالله عليكم هل سمعتم مغنياً غنى يوماً في التحذير من الزنا وشرب المسكرات؟

أو الأمر بغض البصر والعفة عن الشهوات؟

أو حفظ أعراض المسلمين؟!! أو شهود صلاة الجماعة مع المؤمنين؟

كلا ما سمعنا عن شيء من ذلك، بل يبدأ أغنيته بقوله: يا حبيبي يا بعد روحي، ثم يصف الخد، والقد والعينين والوجنتين، وهذا ظاهر من أسماء الأغاني نفسها فأغنية بعنوان: "آه يا زين آخر غرام الهوى ما هو كلام ليلة حبيبي سألت علي بحبها يا أهل الهوى آه يا ويلي"، وما تكاد تسمع فيها إلا الحبَّ والغرام، والعشق والهيام.

مع ما فيه من فتنة الرجال بأصوات النساء، والنساء بأصوات الرجال، وما فيه من تغنج ودلال.

وإنك لتعجب وتعجبين إذا علمت أن قوله - تعالى - للمؤمنات: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) معناه: أن لا تضرب المرأة برجلها الأرض بقوة وهي لابسة خلاخل في قدميها حتى لا يسمع الرجال صوت الخلاخل فيفتنون.

عجباً! إذا كان هذا حراماً فما بالك بمن تغني وتتمايل وترفع صوتها بالضحكات والهمسات؟ كيف بمن تتكسر في صوتها وتتميع في كلامها تتأوه ووتتغنج؛ فتثير الغرائز والشهوات، وتدعو إلى الفواحش والنمكرات.

وهذا كله من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وقد توعد الله من فعل ذلك بقوله: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون).

وهذا الوعيد في الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فقط مجرد محبة لهم عذاب أليم، فكيف بمن يعمل على إشاعتها؟.

لذا قال ابن مسعود: الغناء رقية الزنا، أي أنه طريقُه ووسيلتُه.

عجباً! هذا كان يقوله ابن مسعود لما كان الغناء يقع من الجواري والإماء المملوكات يوم كان الغناء بالدفّ والشعر الفصيح، ليس فيه رقصات ولا لمسات ولا همسات، يقول هو: رقية الزنا، فماذا يقول ابن مسعود لو رأى زماننا هذا، وقد تنوّعت الألحان، وكثر أعوان الشيطان، فأصبحت الأغاني تسمع في السيارات والطائرات والمطارات؟ بل وألعاب الأطفال، وأجهزة الجوال والبر والبحر؟

فالغناء والله هو رقية الزنا وداعية الخنا، ومزمار الفساد وضلال العباد.

ذكر ابن قدامة في التوابين أن رجلاً عابداً مر يوماً ببيتٍ، فسمع جارية تغني من داخل البيت، فوسوس له الشيطان فبطأ خطاه ليسمع، فرآه صاحب الدار، فخرج إليه وقال: هل لك أن تدخل فتسمع؟ فتأبى عليه، فلم يزل به حتى تسمح وقال: أقعدني في موضع لا أراها ولا تراني، فقال صاحب الدار: أجعل بينكما ستراً، فدخل وجلس خلف الستر، فتغنت وتغنجت وتأوهت فأعجبته واشتاق إليها، فقال صاحب الدار: هل أكشف الستر؟ قال: لا، فلم يزل به حتى كشفه فرآها فاجتمعت فتنة السمع والبصر، فلم يزل يسمع غناءها حتى شغفت به وشغف بها وأصبح في كل يوم يستمع إليها، وافتضح أمره وأمرها، فلما تمكن الشيطان منهما قالت له يوماً: أنا والله أحبك قال: وأنا أحبك فدعته إلى الفاحشة وقالت: ما يمنعك؟ فوالله إن الموضع لخال، فانتفض وقال: بلى ولكن لا آمن أن أفاجأ بالقضا ثم بجمر كالغضا، ثم بسياط وزقوم، وتهويل ورجوم، ثم نهض من عندها وعيناه تذرفان فلم يرجع بعد إليها، فانظر كيف كاد أن يهلكه الشيطان بسماع العزف والألحان.

وقال علي بن الحسين: كان لنا جار من المتعبدين قد برز في الاجتهاد، فصلى حتى تورمت قدماه، وبكى حتى مرضت عيناه، فاجتمع إليه أهله وجيرانه، فسألوه أن يتزوج، فخشي أن يتزوج حرة فتشغله عن طاعة ربه، فاشترى جارية يقضي منها وطره، وكانت مغنية وهو لا يعلم فبينا هو ذات يوم في محرابه يصلي رددت الجارية أبياتاً ولحنتها ورفعت صوتها بالغناء، فسمعها وهو في محرابه، فطار صوابه وثقلت عليه صلاته فقطعها، فأقبلت الجارية عليه فقالت: يا مولاي لقد أبليت شبابك، وأتعبت حياتك، ورفضت لذاتك، فلو سمعت غنائي وتمتعت بشبابي، فمال إلى قولها، واشتغل باللذات عما كان فيه من الصلوات، فبلغ ذلك بعض أصحابه العباد فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم من الناصح الشفيق، والطبيب الرفيق إلى من سلب حلاوة القرآن والخشوع والأحزان، بلغني أنك اشتريت جارية بعت بها من الآخرة حظك، فإن كنت بعت الجزيل بالقليل والقرآن بالقيان، فإني محذرك هادمَ اللذات ومنغصَ الشهوات، وميتّمَ الأولاد والبنات، فكأنه قد جاء على غرة فأبكم منك اللسان، وهدَّ منك الأركان، وقرب منك الأكفان، واحتوشك الأهل والجيران، ثم طوى الكتاب وبعثه مع غلام عنده، فدخل عليه الغلام وناوله الكتاب وهو في مجلس سروره وغنائه، فلما قرأ ما فيه انتفض وغص بريقه، ونهض مبادراً من مجلس سروره وكسر آنيته وهجر مغنيته، وتاب من الغناء وتعبد لرب الأرض والسماء، فلما مات رآه صاحبه في المنام فقال: ما فعل الله بك؟ قال: قدمنا على رب كريم أباحنا الجنة، وعوضني ذو العرش جاريةً حوراء تسقيني طوراً وتهنيني، وتقول لي:

اشرب بما قد كنت تأملني *** وقر عينا مع الولدان والعين

يا من تخلى عن الدنيا وأزعجه *** عن الخطايا وعيدٌ في الطواسين

وكم من شاب تعلق قلبه بمغنية فاجرة يهتز فؤاده كلما سمع صوتها أو رأى صورتها، وكم من فتاة عفيفة سمعت مطرباً فاجراً فاشتاقت إلى صوته وصورته، فلا تعجب إذا رأيته أو رأيتها قد يعلقون الصور، ويجمعون الأشرطة والقلب يهوى ويتمنى..

فـ : يا من يرى سقمي يزيـ *** ـد وعلتي أعيت طبيبي

لا تعجبن فهكذا *** يجني الغناء على القلوب

بل قد قرن النبي - عليه السلام - الغناء بالخمر والزنا، فقال فيما رواه البخاري: ((ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحِرَّ والحرير، والخمر والمعازف))، ومعنى يستحلون: أنهم يفعلون هذه المحرمات فعل المستحل لها بحيث يكثرون منها ولا يتحرجون من فعلها، أو يبحثون عمن يفتيهم بحلها، وصح عند الترمذي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نُهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة..)) لهو ولعب ومزامير شيطان، ((...وصوت عند مصيبة)) لطم وجوه وشق جيوب، فسمى الغناء صوتاً أحمق فاجراً؛ لأنه لأهل الحمق والفجور.

وسئل ابن مسعود عن قوله - تعالى -: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، قيل له: ما هو لهو الحديث؟ فقال: والله الذي لا إله إلا هو إنه الغناء، وصدق ابن مسعود - رضي الله عنهما -، وإن لم يقسم، وسئل محمد بن الحنفية - رحمه الله - عن قوله - تعالى -: (والذين لا يشهدون الزور وإذا مرّوا باللغو مرّوا كرامًا) قيل: ما الزور؟ قال: هو الغناء لأنه يميل بك عن ذكر الله، وقال - تعالى - لكفار قريش: (أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون * وأنتم سامدون)، قال ابن عباس: سامدون: مغنون تقول العرب: اسمُد لنا أي غنِّ لنا، ووصف الله - تعالى -أحوال عباد الأصنام عند البيت الحرام، فقال - عز وجل -: (وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ)، والمكاء والتصدية نوع من المعازف وهو التصفيق والتصفير.

ومن عِظَمِ خطر الغناء توعد النبي - عليه السلام - سُمّاع المعازف بالمسخ والقذف فروى الترمذي بسند حسن أنه - صلى الله عليه وسلم -: ((يكون في أمتي خسفٌ وقذفٌ ومسخ)) قيل: يا رسول الله متى؟ قال: ((إذا ظهرت القينات والمعازف، واستحلت الخمر))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ليكونن من أمتي أقوام يشربون الخمر، ويعزف على رءوسهم بالقيان يمسخهم الله - تعالى - قردة وخنازير))، والقِيان جمع قَينة، وهي المرأة المغنية، نعم سيعاقب الله هذه الأمة بما عاقب به الأمم من قبلنا أن يخسف الله بهم الأرض، أو يمسخهم قردةً وخنازير، أو تنزل عليهم حجارةٌ من السماء بسوء أعمالهم، فمتى يكون ذلك؟! يكون إذا ظهرت المعازف وانتشرت وكثرت.

وهاهي آلات المعازف لا تكاد تحصى عدداً، بل هاهي مدارس العزف والموسيقى تنتشر في كثير من بلاد الإسلام، وهاهن المغنيات المائلات المميلات يحركن الشهوات، بل هاهم الأعداء يفتكون بأرواح الثكالى، ويعبثون بأعراض العذارى، وفريق من قومنا في لهوه وطربه لا يجاهد مع مجاهدين، ولا يهتم بأمر المسلمين..

العزف والرقص والمزمار عدتنا *** والخصم عدته علم وآلات

تقود أمتنا في الحرب غانية *** والجيش في الحرب قد ألهته مغناة

كم بددوا المال هدراً في مباذلهم *** وفي ليالي الخنا ضاعت مروءات

نعم هذا شأن الغناء.

ولم يبق إلا تحقق الوعيد بالخسف والمسخ، والقذف بالحجارة والحديد..

كوكب الشرق ضاع قومي لما *** تاه في حبك القطيع وهاما

وإذا الشعر بالكؤوس تغنى *** وغدا الدين في ربانا حطاما

وصفير المزمار صار أذاناً *** في حمى البيت والنديم إماما

وبكشمير أختنا تتهاوى *** والمغني يقلد الأوساما

وفلسطين لا تحب السكارى *** وربى القدس لا تريد النياما

ولو أن الغناء يبعث رجلاً *** هوت الكأس من يديه حطاما

يسكر الناس بالضلال ويغوي *** وتسقّي من راحتيه المداما

ومن تتبع الكتاب والسنة وجد أن للغناء أسماء عدة كلها تدل على ضلاله، فهو اللهو واللغو، والباطل والزور، والمكاء والتصدية، ورقية الزنا وقرآن الشيطان، ومنبت النفاق في القلب، والصوت الأحمق والصوت الفاجر، وصوت الشيطان ومزمور الشيطان، والسمود..

أسماؤه دلت على أوصافه *** تبا لذي الأسماء والأصاف.

وقد تكاثر وتواتر كلام الأئمة الأطهار والعلماء الأبرار في التحذير من الغناء، ففي المسند: أن ابن عمر أنه خرج يوماً في حاجة فمر بطريق فسمع زمارة راعٍ وضع إصبعيه في أذنيه حتى جاوزه، فقل لي - بالله أزمارة راع أولى بالتحريم والترك أم هذا الغناء الذي يتغنج فيه المطرب والمطربة فيفتن القلوب، ويشغل الأرواح عن علام الغيوب، وقال عمر بن عبد العزيز لأبنائه: "أحذركم الغناء، أحذركم الغناء، أحذركم الغناء، فما استمعه عبد إلا أنساه الله القرآن".

وكتب إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغضَ الملاهي التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء.

وجاء رجل إلى بن عباس - رضي الله عنهما - فقال: أرأيت الغناء أحلال هو أم حرام؟ رجل يسأل عن غناء الأعراب الذي ليس فيه معازف، وليس فيه تصوير، ولا فيديو كليب، ولا لباس عارٍ، ولا قصات فاتنة ورقصات ماجنة، غناء الأعراب في البوادي حلال أم حرام يا ابن عباس؟ فقال ابن عباس: أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة فأين يكون الغناء؟ قال الرجل: يكون مع الباطل قال ابن عباس: فماذا بعد الحق إلا الضلال اذهب فقد أفتيت نفسك.

أما أبو بكر - رضي الله عنه - فكان يسمي الغناء مزمار الشيطان، وسأل رجل الإمام مالكاً عن الغناء؟ فقال: "ما يفعله عندنا إلا الفساق"، وسُئل الإمام بن حنبل عن الغناء؟ فقال: "الغناء ينبت النفاق في القلب ولا يعجبني"، والشافعي سماه دياثة، وأبو حنيفة أفتى بالتحريم بل بالغ أصحابه في النهي عن السماع، فقالوا: سماع الأغاني فسق والتلذذ بها كفر.

وقال عمر بن عبد العزيز: الغناء مبدؤه من الشيطان، وعاقبته سخط الرحمن، نعم كيف لا؟ وهو يحرك النفوس إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح.

فهو والخمر رضيعا لبان، وهما في القبائح فرسا رهان، فإذا سمعه أحد قل حياؤه، وفرح به شيطانه، واشتكى إلى الله إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وتراه يميل برأسه ويهز بمنكبه، ويضرب الأرض برجليه ويصفق بيديه، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يصرخ كالمجانين، كما قال أحدهم لصاحبه:

أتذكر ليلة وقد اجتمعنا *** على طيب الغناء إلى الصباح

ودارت بيننا كأس الأغاني *** فأسكرت النفوس بغير راح

فلم تر فيهم إلا سكارى *** سروراً والسرور هناك صاحي

إذا نادى أخو اللذات فيه *** أجاب اللهو: حيَّ على السفاح

ولـم نملك سوى المهجات شيئاً *** أرقناها لألحاظ المـلاح

نعوذ بالله من هذه الأحوال.

وقد قال يزيد بن الوليد: يا بني أمية إياكم والغناء فإنه يذهب الحياء، ويزيد الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لابد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا.

وسمع سليمان بن عبد الملك صوت غناء فغضب وأحضر المغنيين وقال: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة "يعني إن الذكر من الخيل يصهل فتسمعه الأنثى فتستعد للوطء".

وإن الفحل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينبّ فتستحرم له العنز، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق له المرأة، ثم أمر بخصائهم ليحمي منهم النساء.

وقال بعض السلف: الغناء يورث النفاق في قوم، والعناد في قوم، والكذب في قوم، والخبث في قوم، والرقة (أي الميوعة) في قوم.

بل كان العقلاء يترفعون عن الغناء قال معمر بن المثنى: رحل الحطيئة الشاعر مع بناته فجاور قومًا من بني كلب، فخافوا أن يرى منهم شيئاً يكرهه فيهجوهم فأتوه فقالوا:

يا أبا مُليكة إنه قد عظم حقك علينا بتخطيك القذى إلينا فمُرنا بما تحبه فنأتيه، ومرنا بما تكرهه فننهيه،

فقال: "لا تأتوني كثيرًا فتُمِلوني ولا تسمعوني أغاني شبيباتكم فإن الغناء رقية الزنا، وإن ههنا بُنيّات"، وكان مشهوراً عند العرب أن الرجل إذا أراد امرأة على الفاحشة فأبت اجتهد أن يُسمعها صوت الغناء فإن سمعت المرأة صوت الغناء لانت وهانت عليها الفاحشة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإنهم متفقون - أي الأئمة الأربعة - على تحريم المعازف التي هي آلات اللهو كالعود ونحوه".

وقد حكى الإجماع على تحريم المعازف الإمام القرطبي وأبو الطيب الطبري، وابن الصلاح وابن رجب الحنبلي، وابن القيم وابن حجر الهيتمي وغيرهم.

فهل بعد هذه الأقوال من قول في إباحة هذه الآفة هل بعد هذه الأقوال من متفلسف يقول لنا:

الغناء قسمان: قسم فيه فجور وخنا وهو حرام، وقسم يباح إذا لم يكن فيه ذلك!!.

هل يؤخذ بعد ذلك قول أحد؟!! إلا أن يكون الدافع إلى ذلك الهوى والشهوة، وإنا نعوذ بالله من زيغ الهوى وتحكم الشهوة.

والغناء اليوم أعظم وأطم فهو يقترن بالتصوير الفاضح للبغايا والمومسات فما من مطرب إلا ويترنح حوله نفر من الراقصات، وما من مطربة إلا وحولها نفر من الرجال يتراقصون ويتمايلون، فمن يجيز يا أمة الإسلام مثل هذا الاختلاط والسفور، والرقص وتعرية النحور؟!

إضافة إلى شرب الخمور والمسكرات في أغلب الأوقات فلا يحلو الغناء والطرب إلا به، والعري الفاضح والحضور الواضح للراقصات المحترفات والبغايا السافلات، وانتهاء الحفلات غالباً بجريمة الزنا ظلمات بعضها فوق بعض، وإنفاق الأموال الطائلة في هذه المعصية للمطربين والمنظمين والعازفين، وإيجار الصالات وتكاليف الحفلات، وهذا سفه وتبذير والله يقول: (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين)، فهذه حرمات الله - عز وجل - فلا تعتدوها وهذه حدوده فلا تتجاوزوها.

وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون!!.

فهل غناء السابقين أولى بالتحريم أم هذا؟!

ابن عباس يحرم الغناء، ابن مسعود يحذر منه، جابر بن عبد الله يصفه باللهو، مكحول، مجاهد، ابن تيمية، ابن القيم،

والعلماء المعاصرون كلهم يحذرون منه، كلهم يحرمونه فبقول من تقتنع؟ إن لم يقنعك قول هؤلاء؟!

وقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر ومعه حادٍ يحدو للإبل لتسرع الإبل في سيرها

"أي ينشد الأشعار بلحن" اسمه أنجشة، وكان حسن الصوت، فلما حدا ورفع صوته خشي النبي - عليه السلام - أن تسمع النساء في آخر القافلة صوته فالتفت إليه ثم قال له: ((يا أنجشه رويدك رفقاً بالقوارير)) يعني النساء.

قال ابن القيم: والذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارب أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم واشتغلوا بها إلا سلط الله عليهم العدو، وبلوا بالقحط والجدب وولاة السوء.

فدع صاحب المزمار والدف والغنا *** وما اختاره عن طاعة الله مذهبا

ودعه يعش في غيه وضلاله *** على تنتنا يحيا ويبعث أشيبا

وفي تنتنا يوم المعاد تسوقه *** إلى الجنة الحمراء يدعى مقربا

سيعلم يوم العرض أي بضاعة *** أضاع وعند الوزن ما خف أو ربا

ويعلم ما قد كان فيه حياته *** إذا حصلت أعماله كلها هبا

دعاه الهدى والغي من ذا يجيبه *** فقال لداعي الغي: أهلاً ومرحبا

وأعرض عن داعي الهدى قائلاً له: *** هواي إلى صوت المعازف قد صبا

يراع ودف بالغناء وراقص *** وصوت مغن صوته يقنص الظبا

إذا ما تغنى فالظباء تجيبه *** إلى أن تراها حوله تشبه الدبا

فما شئت من صيد بغير تطارد *** ووصل حبيب كان بالهجر عذبا

فيا آمري بالرشد لو كنت حاضراً *** لكان توالي اللهو عندك أقربا

أما كلمات الأغاني ففي كثير منها محادة لله ولرسوله، وشرك الأكبر وأصغر، وتعدٍّ على الرسل الكرام، واعتراض على رب العالمين، واعتداء عليه وعلى ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ، وغير ذلك مما يردد ويسمع ويذاع، فقد لـحَّنوا الكفر الصريح في قصيدة الشاعر النصراني الذي يقول:

جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت

ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت

وسأبقى سائراً فيه إن شئت هذا أو أبيت!!

كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري؟!!

وتقول قائلتهم:

لبست ثوب العيش ولم أستشر "تعني خلقني ربي وما استشارني"!!

كما أنهم يصرحون بعبادة المحبوب، ولأجله يعيشون في الدنيا، بل يقولون إنهم ما خلقوا في هذه الدنيا إلا من أجله قال قائلهم أو قائلتهم:

عشت لك وعلشانك "والله يقول: (قل إن صلاتي ونسكي ومحيياي ومماتي لله رب العالمين).

وتجد منهم من يغني تصريحاً بعبادة المحبوب كقول أحدهم: أعشق حبيبي، وأعبد حبيبي، وآخر يقول: أنا أعبدك، وقول الآخر: قلت المحبة عندي لو تعلمين عبادة!.

وبعضهم ينافي ويضاد ويكذب على الله يقول: الله أمر لعيونك أسهر "سبحان الله! (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون).

أما اعتداؤهم على أنبياء الله ورسله فاسمع إلى قولهم في فراق المحبوب: صبرت صبر أيوب، وأيوب ما صبر صبري، "اعتداء فاحش على نبي الله الكريم الذي ابتلاه مولاه سنوات طويلة، فصبر حتى قال الله عنه: (إنا وجدناه صابراً نِعمَ العبد إنه أواب)".

أما الاعتراض على القضاء والقدر ولوم الرب - عز وجل - فلهم فيها النصيب الأوفر يقول قائلهم:

ليه القسوة؟ ليه الظلم؟ ليه يا رب ليه؟

هكذا يتهم الله - تعالى الله - بالقسوة والظلم وهذا المغني هو الآن تحت أطباق الثرى، الله أعلم ماذا يفعل به؟ نسأل الله حسن الخاتمة، والستر في الدنيا والآخرة.

ومنهم من يصرح بأنه مستعد للذهاب إلى جهنم مع محبوبته: يا تعيش وإياي في الجنة، يا أعيش وإياك في النار، بطلت أصوم وأصلي بدّي أعبد سماك لجهنم ما ني رايح إلا أنا وإياك.

وآخر يقول:

خذي لك الجنة وعطيني النار ما دام هذا كل ما تشتهينه.

بل حتى منزلة الشهداء الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون ادعوا الوصول إليها بالغناء، كما يقول أحدهم:

يا ولدي قد مات شهيداً من مات فداء للمحبوب

بل لهم مخالفات في العقيدة كقولهم:

قالت والخوف بعينيها تتأمل فنجاني المقلوب

قالت يا ولدي لا تحزن فالحب عليك هو المكتوب

اشتمل هذا الكلام على جلوس هذا الفاجر مع امرأة كاهنة مشعوذة تقرأ الفنجان، وتدعي علم الغيب

بل اشتمل على الكذب على الله في أنه كتب الحب على هذا الرجل، وفي أغانيهم الاستعانة بغير الله ونداء الأموات فيقول قائلهم: مدد يا نبي مدد.

أما الحلف بغير الله فهو كثير كقولهم في أغانيهم وحياتك وحياة عينيك والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)).

ويشيع عند المغنين سب الدهر والساعة والزمان والعمر يقولون: الله يلعن اليوم ملعونة الساعة جابني في زمان غدار، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تسبوا الدهر)).

ثم هم يعتدون على ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ كما قال أحدهم: الفرح مسطر غلط مكتوب، "يعني أن الله الذي كتبه في اللوح المحفوظ غلط".

وتأمل قول كوكب الشرق:

ما أضيع اليوم الذي مر بي *** من غير أن "أصلي وأصوم"؟ لا، من غير أن "أتقرب إلى الله"؟ لا.

من غير أن أهوى وأن أعشقَ

تتحسر على اليوم الذي يضيع دون هوى أو عشق.

ومنهم من لم يكفه أن يتغزل بصديقاته الفاجرات بل تربص بالطائفات الغافلات، وهن محرمات فيتغنى بقوله:

قف بالطواف ترى الغزال المحرمَ *** حج الحجيج وعاد يقصد زمزمَ

فانظر كيف يتعرض لوفد الرحمن بالغزل والمجون، وبقية أبيات الأغنية فاضحة فاجعة.

وفي بعض الأغاني استخفاف بالموت والقبر، فهذا مطرب مشهور يقول في أحد أغنياته:

أوصي أهلي وخلاني حين أموت يضعو في قبري ربابة وعود.

بل منهم من يكفر فيستهزأ بالقرآن ويغني بكلام الرحمن، ويضرب عليه بمزمار الشيطان، كقول أحدهم: حبك سقرن وما أدراك ما سقر.

ومنهم من غنى سورة الزلزلة، ومنهم من غنى سورة الكافرون، وكل هذا مسجل في أشرطة.

هذا بعض ما يقال..

لقد اعتدى هؤلاء المغنون على الشريعة، وما أبقوا عزيزاً إلا أذلوه، ولا غالياً إلا لطخوه.

أصلاً لو تأملتم من كتب كلمات هذه الأغاني؟ ابن تيمية؟ ابن القيم؟ ابن باز؟.

كتب كلماتها في الغالب شاعر فاجر، إما عاشق ماجن، أو فاسق خائن أو ضال لا يسجد لله سجدة، أو قد يكتب الكلمات نصراني ويلحنها يهودي، ويعزف لها بوذي، ويغنيها فاجر أو فاجرة.

وإن شئت فانظر إلى أشرطة الغناء، واقرأ أسماء المغنين ستجد من بينهم نصارى سواء من نصارى العرب، أو غيرهم وستجد لا دينيين وستجد فجرة كفرة لا يصلون ولا يعظمون الدين، ولولا الحرج لسميت لكم بعضهم.

أيها الأحبة الفضلاء هذه أحوال الغناء وأهله: طرب ومزمار وفضائح وأسرار، وغفلة بالليل والنهار.

ومما يعين المرء على التوبة من الغناء وطاعة رب الأرض والسماء:

- الرغبةُ في دار الأخرى فيها متع عظيمة، والتفكر في السماع في دار القرار.

فإن من صرف استمتاعه في هذه الدار إلى ما حرم الله عليه منعه من الاستمتاع هناك، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من يلبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة))، فلا يكاد يُجمع للعبد بين لذائذ الدنيا المحرمة، ولذائذ الآخرة الدائمة.

فمن تلذذ في الدنيا بشرب الخمر ولبس الحرير وسماع الغناء خُشي أن يحرم من هذا كله في الآخرة، ومن تعلقت نفسه بالجنة وما أعدَّ الله فيها من المتع هانت عليه متع الدنيا.

قال الله - تعالى -: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون) والحبرة هي اللذة والسماع، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:

في الجنة شجرة على ساق قدر ما يسير الراكب في ظلها مائة عام فيتحدثون في ظلها فيشتهي بعضهم فيذكر لهو الدنيا، فيرسل الله ريحاً من الجنة فيحرك تلك الأغصان بكل لهو كان في الدنيا، وعن محمد ابن المنكدر قال:

إذا كان يومُ القيامة نادى مناد: أين الذين كانوا ينزهون أسماعهم وأنفسهم عن مجالس اللهو ومزامير الشيطان؟ أسكنوهم رياض المسك ثم يقول للملائكة: اسمعوهم تمجيدي وتحميدي..

قال ابن عباس ويرسل ربنا *** ريحاً تهز ذوائب الأغصان

فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ * إنسان كالنغمات بالأوزان

يا لذة الأسماع لا تتعوضي *** بلذاذة الأوتار والعيدان

أو ما سمعت سماعهم فيها غنا *** ء الحور بالأصوات والألحان

واهاً لذياك السماع فإنه *** ملئت به الأذنان بالإحسان

واهاً لذياك السماع وطيبه *** من مثل أقمار على أغصان

واهاً لذياك السماع فكم به *** للقلب من طرب ومن أشجان

واهاً لذياك السماع ولم أقل *** ذياك تصغيراً له بلسان

ما ظن سامعه بصوت أطيب الـ *** أصوات من حور الجنان حسان

نحن النواعم والخوالد خيرا *** ت كاملات الحسن والإحسان

لسنا نموت ولا نخاف ومالنا *** سخط ولا ضغن من الأضغان

طوبى لمن كنا له وكذاك طو *** بى للذي هو حظنا لفظان

وروى ابن أبي الدنيا عن الأوزاعي قال: بلغني أنه ليس من خلق الله أحسن صوتاً من إسرافيل، فيأمره الله - تعالى - فيأخذ في السماع فيمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث فيقول الله - عز وجل -: وعزتي لو يعلم العباد قدر عظمتي ما عبدوا غيري.

وروى حماد بن سلمة عن شهر بن حوشب قال: أن الله جل ثناؤه يقول لملائكته: إن عبادي كانوا يحبون الصوت الحسن في الدنيا فيدعونه من أجلي، فأسمعوا عبادي فيأخذون بأصوات من تسبيح وتكبير لم يسمعوا بمثله قط.

ولهم سماع أعلى من هذا يضحمل دونه كل سماع وذلك حين يسمعون كلام الرب جل جلاله وسلامه عليهم وخطابه ومحاضرته لهم، ويقرأ عليهم كلامه فإذا سمعوه منه كأنهم لم يسمعوه قبل ذلك..

فنزه سماعك إن أردت سماع ذيا *** ك الغنا عن هذه الألحان

لا تؤثر الأدنى على الأعلى *** فتحرم ذا وذا ياذلة الحرمان

إن اختيارك للسماع النازل الـ *** أدنى على الأعلى من النقصان

والله إن سماعهم في القلب والـ *** إيمان مثل السم في الأبدان

والله ما انفك الذي هو دأبه *** أبداً من الإشراك بالرحمن

فالقلب بيت الرب جل جلاله *** حباً وإخلاصاً مع الإحسان

فإذا تعلق بالسماع أصاره *** عبداً لكل فلانة وفلان

حب الكتاب وحب الحان الغنا *** في قلب عبد ليس يجتمعان

ثقل الكتاب عليهم لما رأوا *** تقييده بشرائع الإيمان

واللهو خف عليهم لما رأوا *** ما فيه من طرب ومن ألحان

قوت النفوس وإنما القرآن قو *** ت القلب أنى يستوي القوتان

ولذا تراه حظ ذي النقصان كالـ *** جهال والنسوان والصبيان

وألذهم فيه أقلهم من الـ *** ـعقل الصحيح فسل أخا العرفان

يا لذة الفساق لست كلذة الـ *** أبرار في عقل ولا قرآن

فيا سامع الغناء أيها المؤمن الموحد:

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ).

يا سامع الغناء:

(مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ).

يا سامع الغناء:

(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).

يا سامع الغناء:

(وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ).

يا سامع الغناء:

تصور نفسك وأنت بين زملائك في لهو وطرب وإعراض ولعب، وفجأة إذ خسف الله بكم الأرض أو مسخكم قردة وخنازير كما توعد النبي - عليه السلام - أهل الغناء، فما موقفك؟ وما مصيرك؟ وكيف يكون جوابك أمام الجبار جل جلاله، وأنت على هذه الحال.

يا سامع الغناء:

أرأيت لو سلب الله سمعك، فصرت تقعد بين الناس لا تدري عنهم إذا تكلموا، ولا تفهم مرادهم إذا ضحكوا تتلفت بينهم بعينيك، أو تشير لهم بيديك :(كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى).

يا سامع الغناء:

أين المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون؟ أين الذين يسبحون بحمد ربهم بكرة وأصيلاً؟ أين الذين إذا سمعوا حكم الله أذعنوا وأطاعوا وذلوا وانصاعوا؟ أما تخشى سوء الخاتمة فتلقى الله سامعاً أو مغنياً أو عازفاً؟

ذكر ابن القيم: إن رجلاً من أهل الغناء والمعازف حضرته الوفاة، فلما اشتدّ به نزع روحه، قيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يردد أبياتاً من الغناء، فأعادوا عليه التلقين: قل لا إله إلا الله، فجعل يردد الألحان ويقول: تنتنا تنتنا، حتى خرجت روحه من جسده وهو إنمّا يلحّن ويغني.

أما في عصرنا فيقول أحد العاملين في أمن الطرق: كانت مهنتي الأمن ومراقبة السير، تعودت على مشاهدة الحوادث والمصابين، وذات يوم كنت في دورية أراقب الطريق معي أحد الزملاء، وفجأة سمعنا صوت ارتطام قوي التفتنا، فإذا سيارتان قد ارتطمتا وجهاً لوجه بشكل مروع، أسرعنا لإنقاذ المصابين حادث لا يكاد يوصف، في السيارة الأولى شخصان في حالة خطيرة أخرجناهما من السيارة والدماء تسيل منهما، وهما يصيحان ويتأوهان، وضعناهما على الأرض، أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية وجدناه قد فارق الحياة، عدنا للشخصين فإذا هما في حال الاحتضار هب زميلي يلقنهما الشهادة قولا: لا إله إلا الله لا إله إلا الله، وهما يئنان ويشهقان، وصاحبي يردد: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، وهما لا يستجيبان حتى إذا بدأ بهما النزع واشتد شهيقهما بدءا يرددان كلمات من الأغاني.

لم أستطع تحمل الموقف بدأت أنتفض، وصاحبي يكرر عليهما ويرجوهما: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، وهما على حالهما حتى بدأ صوت الغناء يخف شيئاً فشيئاً، سكت الأول وتبعه الثاني لا حراك فارقا الدنيا، حملناهما إلى السيارة مع الميت الأول، وأخذنا نسير بهؤلاء الموتى الثلاثة، صاحبي مطرق لا يتكلم، وفجأة التفت إليَّ ثم حدثني عن الموت وسوء الخاتمة، وصلنا إلى المستشفى، وأنزلنا الموتى ومضينا إلى سبيلنا.

أصبحت بعدها كلما أردت أن أسمع الأغاني برزت أمامي صورة الرجلين وهما يودعان الدنيا بصوت الشيطان، وبعد ستة أشهر، وقع حادث عجيب شاب يسير بسيارته سيراً عادياً تعطلت سيارته في أحد الأنفاق نزل من سيارته لإصلاح أحدى العجلات، وعندما وقف خلف السيارة لينزل العجلة السليمة جاءت سيارة مسرعة وارتطمت به من الخلف سقط الشاب مصاباً إصابات بالغة، اتصل بعض الناس بنا فتوجهت مع أحد زملائي إلى موقع الحادث سريعاً، شاب في مقتبل العمر ممدد على الأرض عليه مظاهر الصلاح إصاباته بالغة، حملناه معنا في السيارة، كنت أحدث نفسي وأقول سألقنه الشهادة مثل ما فعل زميلي الأول، عندما حملناه سمعناه يهمهم بكلمات تخالطها أنات وآهات لم نفهم منه شيئاً، أسرعنا إلى المستشفى فبدأت كلماته تتضح أنه يقرأ القرآن، وبصوت ندي، التفتنا إليه فإذا هو يرتل في خشوع وسكون، سبحان الله! الدم قد غطى ثيابه وقد تكسرت عظامه، بل هو على ما يبدو على مشارف الموت أسرعنا المسير، استمر يقرأ بصوت جميل يرتل القرآن لم أسمع في حياتي مثل تلك القراءة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

أنصتُّ أنا وزميلي لسماع ذلك الصوت الرخيم، أحسست برعشة في جسدي فجأة سكت ذلك الصوت التفت إلى الخلف فإذا به رافع إصبع السبابة يتشهد، ثم انحنى رأسه أوقفت السيارة قفزت إلى الخلف لمست يده أنفاسه قلبه حركته لا شيء فارق الحياة نظرت إليه طويلاً، التفت إلي صاحبي، وصرخ بي ماذا حدث؟ قلت: مات الشاب مات، وهو يقرأ القرآن مات، انفجر صاحبي باكياً أما أنا فلم أتمالك نفسي أخذت أشهق ودموعي لا تقف.

أصبح منظرنا داخل السيارة مؤثراً واصلنا سيرنا إلى المستشفى، أخبرنا كل من قابلنا عن قصة الرجل أخبرنا أهله وإخوانه.

سألناهم عنه فإذا هو صالح قانت آناء الليل وأطراف النهار.

أما يعتبر بذلك أولئك الذين يسمعون الغناء في سياراتهم وفي أسفارهم، ومن سماعات في آذانهم وهم يقودون الدراجات أو يركبون الطائرات: (أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ)، فيا سامع الغناء أما تعتبر بهذا.

أما عقبة بن عامر - رضي الله عنهما - فيقول: من قرأ كان رديفه ملك، ومن تغنى كان رديفه شيطان.

أين الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ألا تكون منهم؟!!

أين الذين إذا جاءهم أمر الله قالوا: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)؟.

نعم هذه رسالة إلى مستمع الغناء.

ورسالة ثانية أهمس بها في أذن كل مغن فأقول: أنت عبدٌ الله - تعالى - تقف بين يديه خمس مرات في اليوم، وكل ذرة من ذرات جسمك بل وكلُّ نفس من أنفاسك لا يتحرك إلا بإذن خالقك.

فهل سألت نفسك يوماً:

كيف علاقتي معه؟!! هل هو راضٍ عني أم لا؟!!

كيف سيكون اللقاء يوم القيامة؟!!

أنت وحدك الذي تستطيع أن تجيب عن هذه الأسئلة.

والسيئات قسمان: قسم: لازم لفاعله لا يتعدى إلى غيره كشرب الخمر، والنظر المحرم وقسم: يتعدى إلى الغير كالغناء والزنا.

وما تفعله أنت الآن هو من القسم الذي يتعدى إلى الغير، فعليك وزرك ووزر من سمعك أو سمع شريطك إلى يوم القيامة.

وطوبى لمن مات وماتت معه سيئاته وويل لمن مات وعاشت سيئاته بعده خمس سنين وعشر، فهـل تتحمـل هذا؟! والله يقـول: (يَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ)، وقال حبيبك أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: ((من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من آثامهم شيئاً))، وقد جعل الله لك عينين ولساناً وشفتين، فهل يكون جزاؤه منك أن تحاربه بها؟!

بدل أن تسخّر هذا الصوت لقراءة القرآن والتغني به، والبصر للنظر في المصحف، واليدين والرجلين للصلاة سخرتها في إقامة المنكر ودعوة الناس إليه.

وبصراحة مات من مات من المغنين وقد كنت تجتمع بهم في الدنيا، فهل تتمنى أن تجتمع بهم في مكان واحد يوم القيامة؟!!

لا أدري والموت إن لم ينزل بك اليوم نزل بك غداً.

فأين وجهك يوم تبيض وجوه وتسود وجوه؟.

وأين تذهب بوجهك يوم أن يعلم النبي - عليه السلام - أن أمته قد عكفت على الغناء والموسيقى بسببك؟!

أين تذهب بوجهك يوم تعلم أن الناس سهروا إلى الفجر على صوتك وزمرك؟

أين تذهب بوجهك إذا بعثر ما القبور وحصل ما في الصدور؟

أين تذهب بوجهك إذا سال عرقك، وانتفض جسدك وطار فؤادك، ووقفت بين يدي الله، وسئلت عن علمك فإذا هو عشرون أغنية، وثلاثون لحناً وأربعون حفلة، ولا تحفظ من كتاب الله جزءاً.

وإذا أصحابك الذين ترجو نفعهم يوم القيامة ما بين مغن وعازف وسكير وراقص.

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ).

هل سمعت عن زاذان الكندي كان صاحب لهو وطرب فجلس مرة في طريق يغني، ويضرب بالعود وله أصحاب يطربون له ويصفقون، فمر بهم عبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما - فأنكر عليهم فتفرقوا فأمسك ابن مسعود بيد زاذان وهزه وقال: ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة القرآن، ثم مضى فصاح زاذان بأصحابه: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن مسعود، قال: صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟!! قالوا: نعم فبكى زاذان، ثم قام وضرب بالعود على الأرض فكسره، ثم أسرع فأدرك ابن مسعود وجعل يبكي بين يديه، فاعتنقه عبد الله بن مسعود وبكى وقال: كيف لا أحب من قد أحبه الله، ثم لازم زاذان ابن مسعود حتى صار إماماً في القرآن بعد أن كان إماماً في المعازف والألحان..

فاعتزل ذكر الأغاني والغزل *** وقل الفصل وجانب من هزل

إن أهنـى عيشـة قضيتها *** ذهبـت لذاتهـا والإثم حـل

ثم أقول ألا تخاف وأنت تهيج المشاعر والشهوات، وتحرك الغرائز واللذات ألا تخاف أن يبتليك الله في عرضك في ابنتك أو زوجتك، وربما ابتلاك بأختك وقريبتك وأنت رجل مسلم أعلم أنه لا تزال فيك غيرة على محارمك.

ذكر الخطاب في عدالة السماء: إن رجلاً تاجراً بعث أحد أولاده في بضاعة له إلى بلد بعيد، ولما أراد ولده أن يغادر قال له أبوه: يا بني احفظ عرض أختك في سفرك، فعجب الولد: كيف أحفظ عرضها وهي في البيت عندك؟ فقال أبوه: احفظ عرضها وإن كنت بعيداً عنها، فمضى الولد وسافر، ومضت الأيام وكان في قريتهم شيخ كبير فقير يطوف بالبيوت ويبيع الماء، فأتى في أحد الأيام ففتحت الفتاة الباب لهذا السقاء، فدخل كعادته وسكب ما في قربته في آنيتهم والفتاة تنتظر خروجه لتغلق الباب، فلما مر بها خارجاً مال إليها وقبلها قبلة سريعة، ومضى وهو شيخ كبير، ولم يعرف عنه السوء أو الخيانة، ورآه الأب من إحدى النوافذ فسكت، فلما عاد الولد بدأ يحدث أباه بما رأى واشترى، فقال له أبوه: الم أقل لك أن تحفظ عرض أختك، فاصدقني: هل تعرضت لامرأة في سفرك فقال الشاب: نعم أصبت من امرأة قبلة، فقال له أبوه نعم دقّة بدقة، ولو زدت زاد السق..ا

ومن يزن يزن به ولو بجداره *** إن كنت يا هذا لبيباً فافهم

أسأل الله - تعالى - أن يهديك ويحفظك من المنكرات، وأن يجعلك من الدعاة إلى الله آمين.

ورسالة ثالثة أبعثها:

إلى الذين جعلوا من أنفسهم مسوقين لمزامير الشيطان، وإلى أولئك الذين يتعاونون معهم على الإثم والعدوان، فيؤجرون محلاتهم لمن يبيع الغناء أو يوزعون الأشرطة لهم، وإلى أولئك الذين يجعلون الموسيقى في وقت الانتظار وأجهزة السنترال فيسمعون الناس رغماً عنهم.

وإلى أولئك الذي يرفعون أصوات الغناء من السيارات أو من أجهزة التسجيل في الحدائق والمنتزهات

إلى جميع هؤلاء الذين يتعاونون على إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.

أقول لهم: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون) فكم من أعراض بسبب الغناء انتهكت؟!!

وكم من أموال أهدرت؟!! وفضيلة تلاشت؟ وأوقات ذهبت؟؟

هؤلاء كلهم تعود أوزارهم إليكم، ((ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة)) فلماذا تحملون أنفسكم ما لا تطيقون؟!

سبحان الله! هل أغلقت أبواب الرزق في وجوهكم حتى لم تجدوا إلا باب الحرام؟

والله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، و((كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به)).

و((لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا يطلب إلا بطاعته)).

ثم ألم تعلم يا رعاك الله أن الذي يأكل الحرام لا تستجاب له دعوة؟

فهل أنت مستغنٍ عن ربك - عز وجل - ودعائه؟!

قال النبي - عليه السلام - فيما رواه مسلم: ((أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم)، وقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم)، ثم ذكر - صلى الله عليه وسلم - الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك)).

وقال سعد بن أبي وقاص يوماً للنبي - عليه السلام -: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال له: ((يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)).

((ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه))، ذكر ابن رجب في ذيل الطبقات في ترجمة القاضي أبي بكر الأنصاري البزاز أنه قال: كنت مجاوراً مكة حرسها الله فأصابني يوماً جوع شديد، فخرجت أبحث عن طعام فلم أجد، فبنما أنا أسير وجدت كيساً من حرير مشدوداً برباط من حرير فاخر، فأخذته وجئت به إلى بيتي وحللته فوجدت فيه عقداً من لؤلؤ لم أر مثله قط، فربطته وأعدته كما كان ثم خرجت أبحث عن طعام فإذا بشيخ من الحجاج ينادي ويقول: ومن وجد كيساً صفته كذا وكذا وله (500) دينار من الذهب، فقلت في نفسي: أنا محتاج وجائع أفآخذ هذه الدنانير لأنتفع بها وأرد له كيسه، فصحت به: تعالى إليّ، فأقبل إليّ مستبشراً فأخذته إلى بيتي وسألته عن علامة الكيس، وعلامة اللؤلؤ وعدده وصفة ما فيه، فإذا هو كما كان، فأخرجته ودفعته إليه فسلم إليّ (500) دينار الجائزة التي ذكرها، فقلت له: هذا أمانة ويجب عليَّ أن أعيده إليك ولا آخذ له جزاء، فقال: لا بد أن تأخذ وألحّ عليّ كثيراً وأنا أحوج ما أكون إلى المال، فأقسمت أن لا آخذ درهماً واحداً، فمضى الشيخ وتركني وأكمل حجه ورجع إلى بلده، وأما أنا فاشتدت عليَّ الفاقة، حتى خرجت من مكة وركبت البحر في مركب قديم مع جماعة، فأصابنا وسط البحر موج عظيم وأهوال ورياح، وتكسر المركب وغرق الناس وهلكت الأموال، وسلمني الله من بينهم، وتعلقت بخشبة حتى قذفني الموج إلى جزيرة، فنزلت فإذا فيها قوم مسلمون وإذا هم جهلة أميّون لا يقرؤون ولا يكتبون، فذهبت إلى مسجدهم وصليت وقمت أقرأ القرآن، فما إن رآني أهل المسجد حتى اجتمعوا عليَّ فلم يبق في الجزيرة أحداً إلا قال علمني القرآن، فعلمتهم القرآن وحصل إليّ خير كثير من جراء ذلك، ثم رأيت في مسجدهم مصحفاً قديماً ممزقاً فأخذته وأوراقه أقرأ فيه، فقالوا: أتحسن القراءة والكتابة؟ فقلت: نعم، قالوا: علمنا الخط، فقلت: لا بأس فجاؤوا بصبيانهم وشبابهم فكنت أعلمهم، وحصل لي خير كثير، ورغبوا في بقائي معهم، فقالوا لي: عندنا جارية يتيمة ومعها شيء من الدنيا، ونريد أن نزوجها لك، وتبقى معنا في هذه الجزيرة، فتمنعت فألحوا عليّ وألزموني حتى أجبتهم، فجهزوها لي وأقاموا لذلك وليمة، فلما دخلت عليها، فإذا بالعقد الذي رأيته بمكة بعينه معلق في عنقها، فدهشت لذلك وأخذت أحدّ النظر إلى العقد، وغفلت عن الفتاة، فقال لي بعض أهلها: يا شيخ كسرت قلب اليتيمة لم تنظر إليها، وإنما تنظر إلى العقد، فقلت: إن في هذا العقد قصة قالوا: ما هي قصته؟ فأخبرتهم بخبري مع الشيخ الحاج الذي أضاع العقد، ثم أعدته إليه ووصفت لهم ذلك الشيخ، فلما أتممت القصة صاحوا وضجوا بالتهليل والتكبير، فقلت: سبحان الله ما بكم؟ قالوا: إن الشيخ الذي رأيته صاحب العقد بمكة هو أبو هذه الصبية، وكان يذكرك بعد عودته من الحج ويقول: والله ما رأيت مسلماً كهذا الذي رد علي العقد بمكة، اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه ابنتي وتوفي الشيخ وحقق الله دعوته، قال: فدخلت بالفتاة، فبقيت معها مدة من الزمن فكان خير امرأة، ورزقت منها بولدين، ثم توفيت فورثت العقد أنا وولداي، ثم نزل بولدي نازل فماتا فورثت العقد منهم فبعته بمئة ألف دينار، قال ابن رجب: ولا زال هذا القاضي ينفق أموالاً عظيمة، فإذا سئل عنها قال: هذا من بقايا ثمن العقد المبارك، و((من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه)).

ورسالة أخيرة:

إلى فريق من أحبابنا طهروا أسماعهم عن الغناء لكنهم انشغلوا بسماع آخر، وهم المبالغون في استماع الأناشيد الإسلامية، نعم لا أنكر أن النبي - عليه السلام - سمع الأشعار، وربما سمع الحداء في الأسفار، ولكن لو تأملت في الأناشيد الموجودة اليوم لوجدت فيها توسعاً كثيراً، ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:

الأول: أشعار راقية تحث على الجهاد ومعالي الأخلاق ويتغنى بهذه الأشعار رجال ينشدونها بألحان جادة ليس فيها تغنج ولا آهات، فهذه لا بأس بسماعها على أن لا يكثر المرء من ذلك بل لو سمعها أحياناً في سفر ونحوه فلا بأس.

القسم الثاني: أشعار فيها معاني الحب والغرام أو آهاتُ الفراق وإن كانوا يسمونه حباً في الله، وينشدها شباب ينعمون أصواتهم ويكثرون من المؤثرات الصوتية حتى تكون أشبه بالغناء.

إضافة إلى ما يقع فيها من آهات وتأوهات، وصرخات وترديدات، وخلفيات فهذه لا ينبغي سماعها ولا الاشتغال بها، وهي مشغلة لسامعها عن القرآن ومعلقة لقلبه بالغلمان.

النوع الثالث: أناشيد يحرم الاستماع إليها وهي التي تكون بأصوات نساء أو التي يرافقها دف أو طبل، فهذه لا يجوز سماعها، بل هي من المعازف المحرمة، وأنبه هنا إلى مسألة استعمال الدف والطبل في الأعراس، فاستعمال الطبل وهو المختوم من الجهتين أو الزير والتنكة لا يجوز في أي حال من الأحوال لا في العرس ولا غيره لا للنساء ولا للرجال، ويجوز في العرس للنساء استعمال الدف وهو المختوم المغلق من جهة واحدة ومفتوح من الجهة الأخرى فيجوز استعماله للنساء في العرس بشرط أن لا يصاحبه منكرات أخرى كأن تكون الكلمات التي تغنى معه من كلمات الأغاني المثيرة للشهوة أو المحركة للحب والغرام، أو أن يتكشف النساء راقصات أو يختلطن بالرجال.

أسأل الله أن ينفعنا جميعاً بما سمعنا، وأن يعيذنا من منكرات الأسماع والأبصار، آمين هذا والله - تعالى - أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

محمد بن عبد الرحمن العريفي

دكتور وعضو هيئة التدريس بكلية إعداد المعلمين

  • 26
  • 4
  • 38,953

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً