علاقة الأمة بتطبيق الشريعة .. قراءة تأصيلية
سلطان بن عبد الرحمن العميري
في حالة الانتفاضة الجماعية المباركة من قبل الأمة ومفكريها وأفرادها على الاستبداد الذي قهر الأمة وعبث بحياتها، تشكلت بعض العبارات والمقالات التي عدت تصاغ على شكل شعارات تختزل تحتها الكثير من المعاني، ومن تلك العبارات التي أضحت من أشهر ما طرح في النوادي الفكرية عبارة " الحرية قبل تطبيق الشريعة " وتظهر تارة بصورة أخرى وهي " سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة".
- التصنيفات: السياسة الشرعية -
أقصد في هذا المقال الوقوف مع الشعار الذي ظهر به أصحاب ظاهرة المقابلة بين سيادة الأمة وتطبيق الشريعة، لنتحقق من صحته ومدى مطابقته للشريعة، أما بعد:
في حالة الانتفاضة الجماعية المباركة من قبل الأمة ومفكريها وأفرادها على الاستبداد الذي قهر الأمة وعبث بحياتها، تشكلت بعض العبارات والمقالات التي عدت تصاغ على شكل شعارات تختزل تحتها الكثير من المعاني.
ومن تلك العبارات التي أضحت من أشهر ما طرح في النوادي الفكرية عبارة " الحرية قبل تطبيق الشريعة " وتظهر تارة بصورة أخرى وهي " سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة".
وقد ثارت حول تلك المقالة حوارات مطولة، واختلفت الآراء في تقييمها، واحتدمت النقاشات في الموقف منها.
ولأجل هذا قامت بعض المحاولات التحسينية وسعت إلى تغيير صياغتها لتبدو مناسبة ولطيفة، ومنها قول بعضهم: "الحرية طريق لتطبيق الشريعة " وقول بعضهم: "سيادة الأمة مقدمة لتطبيق الشريعة " وقول بعضهم: " الحرية /سيادة الأمة شرط لتطبيق الشريعة".
وهذا الحالة الاختلافية العنيفة مؤشر قوي في حد ذاته على أن تلك المقولة ليست سوية ولا منضبطة في نفسها ومدلولها.
ولكن قبل الحكم بالجزم على تلك المقولة. وقبل أن نبادر إلى قبولها أو رفضها دعونا نقوم بمزيد من التحليل والدخول في الأعماق لنتحقق من مدى صحة تلك المقالة ومدى انضباطها في نفسها ومدى انسجامها مع المقتضيات الشرعية.
وإذا رمنا الوصول إلى تلك الغاية علينا أولا أن نلتزم بالعقلانية والموضوعية الصارمة، التي لا تتسامح أبدا في أن يمر من خلالها أي شيء غير متصف بالإتقان والانضباط، وأن نحرص حرصا بالغا على الهدوء في التحليل والاتزان في تحديد المناطات المؤثرة، وأن نكون مستحضرين للنصوص الشرعية التي تمثل بالنسبة لنا نحن المسلمين القاعدة الصلبة التي ننطلق منها في بناء تصوراتها وأفكارنا حتى تكون أحكامنا منضبطة ومستقة مع نفسها ومع أصول شريعتنا.
وإذا رجعنا إلى تلك المقالة وأدخلناها في مختبراتنا التحليلية، فأنا نجد أنها من أولها إلى آخر غارقة في الإجمال والاشتباه والإبهام.
فإنه يستوقفنا في أول مراحل التحليل الإجمال والاشتباه المشهور في لفظة الحرية والسيادة، فهذه المصطلحات تعد من أشهر المصطلحات غموضا وإشكالا في الوسط الفكري، وقد اعترف بذلك عدد من المفكرين العرب وغيرهم.
وإذا تجاوزنا ذلك لشهرته فإن نجد لفظ "القبلية" هو الآخر يحتمل معاني عديدة، فإنه يحتمل القبلية المرجعية ويحتمل القبلية المصدرية ويحتمل القبلية التنفيذية التطبيقية.
والحال يتكرر في لفظ الأمة، فإنه قد يراد به كل الأمة وقد يراد به الأمة في دولة من الدول، وقد يراد به صنف من الأمة كالعلماء أو من عدا الحكام الظلمة.
وكذلك الحال في لفظ تطبيق الشريعة فإنه يدخل تحته أصناف من التطبيق مختلفة في طبيعتها وحكمها وشروطها، وفي نفس الوقت يحتمل أن يكون المراد بالتطبيق الكامل أو الناقص، وتحتمل أن يكون المراد به التطبيق الاختباري أو الإلزامي.
وهذه الإجمالات المتراكمة بعضها فوق بعض يجعل من الصعب جدا إصدار حكم واحد أو موقف منضبط على مثل هذه المقالة.
وسأحاول أن أقوم بقراءة تأصيلية انطلق فيها من أشد الأوصاف تأثيرا وأشدها التصاقا بالنظرة الشرعية في حكم تلك المقابلة، وهو وصف "تطبيق الشريعة"، ولست مهتما هنا بالبحث في قضية كون هذا التركيب"تطبيق الشريعة" تركيب شرعي أو أثري، ولا بالبحث في تاريخ استعماله، وإنما الهدف البحث في المعاني التي يمكن أن تحت لفظ "الشريعة"؛ حتى نتحقق من علاقة الأمة بتطبيق الشريعة، وهل هي قائمة على اختبار الناس لها أم على القدرة والإمكان.
فإن الشريعة كمصطلح شرعي وعلمي يشمل أصنافا كثيرا جدا، ومنها:
النوع الأول: العبادات القلبية، الخشية والخوف والرجاء والمحبة والإنابة والخضوع والتوكل وغيرها، فهذا الصنف من الشريعة واجب على كل العباد، أفرادا وجماعات، ويمكن تطبيقها حتى في حالة الاستبداد، لأنه لا سلطة لأحد عليها إلا لله - تعالى -، ولا يصح إخراجها من الشريعة؛ لأنها جزء من أهم أجزائها.
النوع الثاني: الواجبات العينية، التي تجب على كل مسلم، وهي كالصلاة والصيام والحج، فهذا النوع من الشريعة الأصل فيه الوجوب، ويجب على المسلم أن يقوم بعضها حتى في حالة الاستبداد، فالصلاة واجبة على المسلم حتى ولو كان مسجونا أو على منصوبا منصبة الشنق، فإنه يجب عليه أن يصلي ولو إيمانا.
ولهذا فإن الشريعة أوجبت هذه العبادات على العبيد والرقيق، مع أنهم فقدوا حريتهم وخضعوا نوعا من الخضوع لإنسان آخر، ولم تقل الشريعة إن تحقيق السيادة قبل تطبيق هذا النوع من الشريعة.
النوع الثالث: حفظ نصوص الشريعة وتعلم أحكامها، وهذا النوع من الشريعة من فروض الكفايات، وهو واجب على علماء الأمة وطلاب العلم فيها، ويمكن للأمة أيضا أن تقوم بهذا النوع من الشريعة الواجب عليها حتى مع الاستبداد، فإن العلوم الإسلامية قامت في دولة بني أمية وبني والعباس وخرج علماء كبار في الدولة الأموية في الأندلس وفي الدول الأخرى التي قامت في العالم الإسلامي، وكذلك خرج علماء كبار في عصرنا الحاضر، ولم يكن الاستبداد أو فقدان الأمة لسيادتها حائلا لكل العلماء من الوصول إلى حكم الشريعة أو تعلمها، فإنه لم يزل في الأمة من العلماء من يصدع بالحق ولم يتأثر بالسياسي، ووجود بعض من دخل عليه التأثر لا يؤثر على استقلال الآخرين.
النوع الرابع: تطبيق الحدود والتعزيرات، وهذا النوع من الشريعة ربطه كثير من علماء الإسلام بوجود الحكومة والدولة، ولكن لم لو توجد حكومة ودولة فإنه يجب على الأمة أن تنصب من ينفذ تلك الأحكام نيابة عنها، وإن وجدت حكومة لا تطبق حدود الله، فإنه يجب على الأمة أن تسعى إلى تغيير هذا المنكر وإزالة كل من يقف في طريق تطبيق ذلك الحكم.
النوع الخامس: الدفاع عن الشريعة ضد أعداها المتربصين، وهذه الحالة تعد من الأنواع التطبيقية للشريعة، ويمكن للأمة أن تطبيق هذا الحكم حتى في حالة الاستبداد، فلو افترضنا أن عدوا أغار على بلاد المسلمين ليزيل معالم الإسلام فإنه يجب على الأمة الدفاع حتى ولو كانوا تحت سلطة مستبدة ولو لم ترض تلك السلطة.
النوع السادس: تعيين من يسوس حياة المسلمين وينظم دنياهم ويساعدهم على تطبيق دينهم، وهذا النوع من أنواع الشريعة الواجبة على الأمة، وكذلك يجب عليهم مراقبته ومحاسبته، فكما أنه يجب على الأمة تعيين حاكم ينوب عنها، فكذلك يجب عليها القيام بمراقبته ومحاسبته، فهما واجبات شرعيان لا بد من القيام بهما.
وتطبيق هذا الواجب الرقابي الذي هو نوع من الشريعة - هو في الحقيقة من أقوى الطرق والضمانات التي تحقق للأمة سيادتها وحريتها بحيث لا يستطع من فقد عدله وأمانته من الحكام أن يستأثر بأموال الأمة ولا يعبث بمقدارتها وحياتها.
ولو أردنا أن نأخذ من هذا التقرير عنوانا وشعارا لقلنا: " تطبيق الشريعة قبل سيادة الأمة " أو لقلنا " تطبيق الشريعة مقدمة لسيادة الأمة ".
وهذه بعض أشهر الأصناف التي يحتملها مصطلح "تطبيق الشريعة "هناك أصناف أخرى يمكن أن تدخل تحت تطبيق الشريعة.
ويبدو من التحليل السابق، أن بعض تطبيق الشريعة غير مرتبط بسيادة الفرد ولا الأمة في وجوبه وتطبيقه، وإنما يجب ويطبق حتى مع فقدان السيادة، وبعضها منفصل في تحقيقه عن السيادة، واستطاعت الأمة أن تقوم به حتى مع وجود المستبد، وبعضها يعد مقدمة وشرطا في تحقيق السيادة للأمة أصلا، ويبدو لنا أن الأمة يجب عليها أن تطبيق الشريعة، وتلزم بتنفيذ أحكامها على المتعدين والمتعدين وغير القالبين لحكمها، ما دام الإمكان موجودا، فإذا فقد الإمكان والقدرة، فإن الواجب أن تسعى الأمة إلى تخفيف الانحراف بأس طريق يوصل إلى ذلك ما لم يكن مخالفا لقطعياتها.
وبهذا التفكيك لتلك المقولة يظهر لنا مقدار الإجمال والتعميم الذي وقع فيها، واتضح لنا أنها محملة بتعميم ضخم وإطلاق واسع اختفت معه الحدود الفاصلة المؤثرة في الأحكام، حتى غدا من الصعب أن تشرح ما تتضمنه من معاني إلا في صفات عديدة.
وإذا استحضرنا مع الإجمال في المكونات الأخرى، وهي الحرية والسيادة والقبلية، فإن الخطب يزداد خطورة والموقف يزداد تأزما، لأن بعض المعاني التي تحتملها تلك الألفاظ متنافية مع أصول الشريعة وقطعياتها، ولا يمكن لأي مسلم أن يقبلها.
والعبارات التي من هذا القبيل لا يصح أن يعتمد عليها في بيان التصورات الشرعية الكبيرة، ولا يصح عقلا ولا منهجا ولا شرعا أن تجعل شعارا تختزل تحته المشاريع الإصلاحية.
ومن اعتمدها لتكون له شعارا لمشروعه أو عنوانا لتصوراتها، فهو مظنة لوقوع الخطأ والابتعاد عن إدراك الصواب بشكل واضح، ويحسن بنا في هذا السياق أن نتذكر المدرسة الكلامية، فإنها مشروع ضخم قام على عبارات ومقالات مجملة غير بينت المعالم والحدود، ومن أشهر ما كان شعارا لها مقولة " العقل قبل النقل " أو "العقل مقدم على النقل، وهي تعني فيما تعنيه من المعاني أن "العقل مقدم على تطبيق الشريعة "، وقد تطور هذا الشعار حتى صار من أقوى الأسباب في الابتعاد عن الشريعة وتعظيم نصوصها، ومن أقوى الأسباب التي صرفت الناس عن فهم الصحابة ومنطلقاتهم، وتكونت حوله مفاهيم عديدة غدت هي المتحكمة في بناء التصورات العقدية.
وهذا الحال يدعونا إلى أن نقول إن استعمال هذه المقالة في تصوري الحقائق الشرعية غير صحيح؛ لأنها متضمة لمعاني لا يقبل أن تقبل في شرعنا، وقد اتخذت طريقا ومنفذا لتمرير مضامين معرفية متناقضة مع التصور الإسلامي للحكم السياسي، وهي فضلا عن ذلك مشتملة على تصورات لا تستقيم مع المخزون السياسي لدينا الموروث عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وعن الخلفاء الراشدين.
ويكن أن يعترض على التقرير بالسابق بعدة أسئلة أشهرها اثنان:
السؤال الأول: أن المراد بتطبيق الشريعة ليس كل الشريعة ولا أصل تطبيقها وإنما المراد كمال تطبيق الشريعة، فيكون المراد بتلك المقولة " الحرية: سيادة الأمة قبل كمال تطبيق الشريعة، أو مقدمة لكمال تطبيق الشريعة".
وهذا الاعتراض متفهم، ولكن مع ذلك لا يصح إيراده؛ لأمور: أما الأول: فلأن المقولة مطلقة، وكانت ترد في سياقات كثيرة خالية من هذا القيد تماما، وأما الثاني: فلأن هذا المعنى مع صحته مزاحم باحتمالات ومعاني أخرى كثيرة يبدو بعضها أولى منه وأظهر في الاستعمال وأسرع مبادلة إلى الأذهان، وأما الثالث: فلأن الشريعة في صورتها الكاملة لا تحتاج إلى تحقيق السيادة فقط، وإنما تحتاج إلى أمور أخرى كثيرة، غير السيادة، كنشر العلم والوعي الحقوقي، وتعزيز الهوية ونحوها، أما الرابع: فلأن بعض تطبيقات الشريعة يمكن أن يطبق بصورتها الكاملة حتى مع فقد السيادة الفردية أو الجماعية.
السؤال الثاني: أن المراد بالتطبيق الإلزام والإجبار بالشريعة، ويكون معنى تلك المقولة: "الحرية / سيادة الأمة قبل الإلزام بالشريعة" ولكن هذا الاعتراض لم يسلم من الخلل وعدم الانضباط، أما أولا: فلأنه لا يفهم من لفظة التطبيق بمجردها الإجبار والإفهام، وإنما يفهم منها مطلق الامتثال، فإطلاق لفظ عام وقصد معنى خاص جدا من غير قرينة غير مقبول لا لغة ولا شرعا، أما ثانيا: فلأنه يقتضي أن الأمة لا يلزمها اللزام بالشريعة ولا الإجبار عليها لا في عصرنا الحاضر ولا في عصور خلت؛ لأنها فاقدة لسيادتها وراضخة تحت الاستبداد.
وهذه الأمور كلها تؤكد وجاهة الحكم على تلك المقولة بعدم الانضباط والدقة وبالتالي عدم الصحة.