حبل في المسجد

منذ 2015-01-29

اختلف السلف في التعلق بالحبل في النافلة عند الفتور والكسل

الحمد لله الذي ظهر لعباده بنعوت جلاله، ولأوليائه بكمال صفاته، ولأحبابه بعظيم فعاله، لا إله إلا هو، لا رب غيره، ولا شريك معه، ولا خالق سواه، خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقدارًا، وضرب لهم آجالاً، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، لا يعزب عن علمه شيء، ولا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وهو سريع الحساب، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على خير البرية، وأزكى البشرية، ومعلم الإنسانية، وماحي الأمية، وهادم الشرك والوثنية محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد:

 

فقد كان صلى الله عليه وسلم يعطي كلاً ما ينفعه، وينصح كلاً بما يلزمه، ويكلف كلاً بما يطيقه؛ مراعيًا في كل ذلك ما بين أصحابه من فروق فردية، وفروق في الطاقة، واختلاف في المقام فيقول لأحدهم: «لا تغضب» (1)، ويقول لآخر: «قل آمنت بالله ثم استقم» (2)، ويقول لثالث: «أفلح إن صدق» عندما عرض عليه فرائض الإسلام الخمس فقال الرجل: "والله لا أزيد على هذا ولا أنقص"(3)، ويقول لرابع: «يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل» (4).

وعندما سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور» (5)، وعندما سئل صلى الله عليه وسلم نفس السؤال ولكن في مقام آخر، وعلى لسان صحابي آخر كما روي البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: «الصلاة على وقتها»، قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»!

 

هكذا كان المعلم الحكيم يجيب عن السؤال الواحد بأكثر من إجابة كلها صحيحة، ولكنه يجيب كل سائل بما يتفق مع حالته وطاقته، ويعطي كل سائل ما يلزمه ويناسبه، وينصح كل من يطلبه النصيحة بما يراه صلى الله عليه وسلم يعالج مشكلته؛ أو يسد نقصًا؛ أو يصلح خلقًا، مراعيًا في كل ذلك ما بين أصحابه من تفاوت في الطاقة، واختلاف في المقام، وتباين في الأعمار والميول، فجاءت جميع إجاباته، وكل نصائحه وإرشاداته؛ علاجًا تربويًا جمًا، وبلسمًا رفيقًا نافعًا لكل الأعمار والطبقات والنوعيات على الرغم مما بينهم من فروق واختلافات.

 

همة تناطح الثريا:

يا ترى أي همة هذه، وأي عزيمة تلك، بأي سوق تباع، ومن أي تاجر تشترى، ومن الذي يملكها! إنها أم المؤمنين وزوج الحبيب صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها، المرأة العابدة لربها؛ الصائمة لشهرها؛ المتصدقة بمالها.

لها همة لو أن للشمس عشرها *** لما غربت حتى يجيء لها الغرب

 

قامت تصلي لله حتى فترت قدماها وساقاها، وكَلَّ بدنها من طول قيامها لربها؛ لكن مع فتور جسمها لم تفتر همتها، ولم تنثن عزيمتها، بل قامت بربط حبل ممدود بين ساريتين؛ لتتعلق به إذا فترت فيكون أنشط لها، وأذهب لفتورها؛ حتى لا تنقطع من الاتصال مع ربها (فأين نساؤنا من هذه المرأة؟ بل أين رجالنا من عبادتها؟ وقد قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا(6)، وطول يدها هو كثرة إنفاقها وتصدقها).

 

ولو أنَّ النساءَ كمن ذكرنا *** لفُضلَت النساءُ على الرجالِ

 

فقال: «حلُّوه» ليبين لنا أن الإسلام؛ دين يسر لا عسر، ورحمة لا عذاب، وتوازن لا اضطراب، وأنه لا يكلف المرء فوق طاقته {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} (7)، ولهذا قال لعائشة عندما دخل عليها وعندها امرأة فقال: «من هذه؟» فقالت: فلانة تذكر من صلاتها فقال: «عليكم من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا» (8).

قال الإمام النووي رحمه الله شارحًا لحديث عائشة رضي الله عنها: "وفيه الحث على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق، والأمر بالإقبال عليه بنشاط حتى يذهب الفتور"، وقال ابن القيم رحمه الله: "تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم؛ رجي له أن يعود خيرًا مما كان"، ولذلك ورد عن علي رضي الله عنه أنه قال: "إن النفس لها إقبال وإدبار، فإذا أقبلت فخذها بالعزيمة، وإذا أدبرت فأقصرها على الفرائض والواجبات".

 

حكم التعلق بالحبل:

اختلف السلف في التعلق بالحبل في النافلة عند الفتور والكسل فذكر: ابن أبى شيبة عن أبى حازم أن مولاته كانت في أصحاب الصفة قالت: وكانت لنا حبال نتعلق بها إذا فترنا ونعسنا في الصلاة، فأتانا أبو بكر فقال: "اقطعوا هذه الحبال، وأفضوا إلى الأرض"، وقال: حذيفة في التعلق بالحبل في الصلاة: "إنما يفعل ذلك اليهود"، ورخص في ذلك آخرون قال عراك بن مالك رضي الله عنه: "أدركت الناس في رمضان تربط لهم الحبال يستمسكون بها؛ من طول القيام"(9)، فهذا هو حكم السلف في هذه المسألة وما أمكن جمعه فيها.

اللهم وفقنا لكل خير، وادفع عنا كل شر. والحمد لله رب العالمين.

 

-------------------------------

(1) رواه البخاري برقم (6116).

(2) رواه احمد برقم ( 14991).

(3) رواه مسلم برقم (11).

(3) رواه البخاري برقم (1152).

(3) رواه البخاري برقم (1519)، ومسلم برقم (83).

(6) رواه البخاري برقم (3624)، ومسلم برقم (2452).

(7) البقرة: من الآية 286.

(8) رواه البخاري برقم (1151)، ومسلم برقم (782).

(9) شرح ابن بطال (ج 5/ ص 157).

  • 0
  • 0
  • 2,798

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً