ظاهرة المقابلة بين تطبيق الشريعة وسيادة الأمة

منذ 2015-01-29

يشكل الاستبداد إشكالية من أضخم الإشكاليات التي واجهت الأمة الإسلامية، ولهذا سعى عدد من المصلحين من أبنائها للخروج من هذه الإشكالية بحل يحقق للأمة سعادتها.

يشكل الاستبداد إشكالية من أضخم الإشكاليات التي واجهت الأمة الإسلامية، ولهذا سعى عدد من المصلحين من أبنائها للخروج من هذه الإشكالية بحل يحقق للأمة سعادتها.

ومن الحلول التي ظهرت في الساحة، وبدت تظهر بين الفينة والأخرى، ما يمكن أن نسميه "ظاهرة المقابلة بين تطبيق الشريعة وسيادة الأمة".

وصورة هذا الحل تقول: إنه لا سبيل إلى الخروج من تسلط الحكام على الأمة وسلبهم لإرادتها وعبثهم بحياتهم إلا بطريق واحد فقط، وهو استعادة سيادة الأمة، فالحل الوحيد هو أن نسعى إلى استعادة هذه السيادة، ولا يصح لنا أن نطالب بتطبيق الشريعة ونحن لم نستعد تلك السيادة المسلوبة، لأن الشريعة نفسها لا تكون ملزمة للناس ما لم يرضوا بها.. فإلزامية تطبيق الشريعة في الواقع لا تكون إلا بعد رضى الناس، وما لم يرضوا بها فإنا لسنا ملزمين بتطبيق الشريعة.

وأخذ أصحاب ذلك الحل يقولون: إذا أردنا أن نزيل الاستبداد والقهر.. علينا أن نرجع الأمة إلى المربع الأول، ونقول لهم: هل ترضون بتطبيق الشريعة أم لا؟ وهل تحبون أن نطبق عليكم الشريعة؟

ولو لم نفعل ذلك فنحن لم نفعل شيئا، بل خالفنا الشريعة نفسها!.

ولست أشك في أن هذه الإشكالية وإشكالية مواجهة الاستبداد المخيم على الأمة منذ زمن بعيد تحتاج إلى بحوث واسعة ومقالات مطولة وجهود مضنية، يتم فيها تناول الموضوع من جهات عديدة؛ ولكني حسبني هنا أن أثير بعض الإشكاليات التي أرى أن من ينادي بذلك الحل وقع فيها.

ويتلخص ما أريد ذكره في قضيتين:

القضية الأولى: في منطلق الإصلاح السياسي والخطوة الأولى فيه: إن أول خطوة في إحياء النظرية الإسلامية السياسية وأول درجة في تقرير سيادة الأمة على تصرفات الحاكم واعتبار رضاهم ومشورتهم.

هو تخليص الأجواء الفكرية من المفاهيم والمصطلحات العلمانية، ونشر المفاهيم والمصطلحات الإسلامية، فواقعنا المعرفي مشبع بتلك المصطلحات التي تنتمي إلى المنظومة العلمانية، وغدت الأذهان لا يتبادر إليها في الغالب إلا المفهوم العلماني.

وليس من المقبول شرعا ولا منهجا أن نعتمد في بناء وتوضيح حقيقة من الحقائق الشرعية على مصطلحات أجنبية عن الفكر الإسلامي، بل لها حمولاتها العلمانية المعروفة والمستقرة في العقل الجمعي لدى كثير من المسلمين.

وحين تستعمل في بيان أفكارك المصطلحات العلمانية، ولا تذكر فرقا بين الاستعمالين.

لا تلوم القراء حين يحكمون عليك بما يعرفونه عن تلك المصطلحات؛ لأن استعمالك ذلك يصبح جزء كبيرا من أجزاء المشكلة.

ولو تأملنا في جهود المصلحين والمجددين نجد أن أكبر وصف يتصفون به هو التعالي على الخضوع للأجواء التي تسبب أصلا في وجود الإشكالية، والذهاب نحو المنبع الصافي الذي لا يحتاج إلى تعديل أو عمليات تجميل.

ولكن البعض ممن يريد الإصلاح السياسي، لم يراع هذه الخطوة المهمة، فأخذ يعتمد في بناء أفكاره على مصطلحات مبهمة وبعضها لها حمولات تطبيقية سيئة، كلفظ الحرية والسيادة والمساواة وغيرها.

وهذه الألفاظ كلها محملة بحمولات علمانية، توجب على المصلح الإسلامي أن يتجنبها، ويحذر من الوقع فيها، فضلا عن ان يبني عليها تصوراته الإسلامية!.

فلو أخذنا مفهوم السيادة مثلا، فإنا نجد معناه يرجع إلى السلطة العليا الآمرة الناهية للدولة، وتكون مرجعية، ومصدر لقراراتها، والسيادة بهذا المفهوم مناقضة لأصل الدين، وأنا أعلم أن البعض قد يستعملها بمعنى المصدرية لا بمعنى المرجعية، ولكن ما الذي يحوجنا إلى مثل هذه الأساليب الطويلة الوعرة والملتبسة.

وكذلك أخذ البعض ينطلق من منظومات وافدة تحتاج إلى أسلمة، وتحوير حتى تتوافق مع الإسلام ومنظومته، والغريب أنه يعترف بها، ويقول: إن الديمقراطية تشكلت في الغرب على حسب مرجعياتهم، ونحن نشكلها في واقعنا الإسلامي على حسب مرجعيتنا.

وهذا في الحقيقة إقرار بأنها في صورتها الحالية الواقعية تحتاج إلى تعديل وتحوير وأسلمة.

والسؤال الآن: لماذا ننطلق في مشروعنا السياسي الإسلام من مثل هذه المنظومات التي تحتاج أن نبحث في صورتها الموافقة للإسلام، ونبتعد عن الانطلاق من المنظومة الإسلامية التي اشتمل عليها المخزون السياسي في الشريعة والتي لا نحتاج معها إلى كل هذا العناء.

في تصوري أن هذا ابتعاد عن الخطوة الأولى المؤثرة في مسيرة الإصلاح ونجاحه.

ولا بد من التأكيد هنا أن البحث ليس في أصل الاستفادة من المنتج الإنساني المشترك ولا في التقليل من شأنه ولا في الدعوة إلى الانغلاق على النفس.

كل هذه المعاني غير مقصوده، إنما المقصود هو البحث في منهجية وكيفية الاستفادة من المشترك الإنساني، وهناك فرف بين البحث في أصل الاستفادة وبين البحث في منهجية الاستفادة.

القضية الثانية: في حل معضلة الاستبداد:

لا يشك مسلم في أن مشكلة الاستبداد تعد من أعظم وأضخم الإشكاليات التي حلت بالأمة الإسلامية. وأنها تسببت في إحداث أضرار كبيرة بالأمة.

وهذا الأمر يستوجب استنهاض الهمم في المبادرة إلى إصلاح هذا الخلل الضخم.

ولكن أمام هذه الإشكالية اختلفت الحلول:

ومن الحلول المطروحة الآن بشكل مكثف. ما أصبح يمثل ظاهرة قبلية سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة.

وقبل تسليط الأضواء على هذا الحل لا بد من شرحه بهدوء وأمانة.

لما رأى البعض استطالة الحاكم على تنفيذ الشريعة وعدم اعتباره لبعض أحكامها، وعبثه بحياة الأمة وأموالها مقدراتها، ووقوفه عثرة في طريق تقدمها، أخذ يقول: إنه لا سبيل إلى الخروج من هذه الإشكالية إلا بطريق واحد فقط وهو استعادة سيادة الأمة، فالحل الوحيد هو أن نسعى إلى استعادة هذه السيادة، ولا يصح لنا أن نطالب بتطبيق الشريعة ونحن لم نستعد تلك السيادة المسلوبة، لأن الشريعة نفسها لا تكون ملزمة للناس ما لم يرضوا بها.. فإلزامية تطبيق الشريعة في الواقع لا تكون إلا بعد رضى الناس، وما لم يرضوا فإنا لسنا ملزمين بتطبيق الشريعة.

وأخذ يقول: إذا أردنا أن نزيل الاستبداد والقهر، علينا أن نرجع الأمة إلى المربع الأول، ونقول لهم هل ترضون بتطبيق الشريعة أم لا؟ وهل تحبون أن نطبق عليكم الشريعة؟ وما لم نفعل ذلك فنحن لم نفعل شيئا.. بل خالفنا الشريعة نفسها!.

وهذا الحل بهذه الصورة، يبدو لي محملا بأخطاء كبيرة جدا، بعضها راجع إلى مخالفة أصول الشريعة الإسلامية نفسها، وبعضها راجع إلى انعدام الثمرة فيها، وبعضها راجع إلى الالتباس المتجذر، وسأقوم بتلخيصها في الأمور التالية:

الخلل الأول: التصوير الخاطئ، وحتى يتبين لنا وجه التصوري الخاطئ، لا بد من التذكير مجددا بصورة الإشكالية الأصلية، وهي باختصار: هناك حكام ظلمة مستبدون سلبوا أمة "مسلمة، لم يقع التحريف في دينها" إرادتها وحريتها وعبثوا بممتلكاتها وتحكموا في حياتهم ومعاشهم وأنزلوا بالأمة سوء العذاب، وهم مع ذلك ينتسبون إلى الإسلام.

هذه هي الإشكالية التي تعيشها الأمة بشكل مختصر، ويتضح أن المعارضة الآن هي بين إرادة الحاكم وإرادة الأمة، وموضوع التعارض ليس هو "أصل" تطبيق الشريعة نفسها؛ لأن الأمة دينها محفوظ وكتابها لم يقع فيه التحريف، وأحكام دينها واضحة، وفيها علماء يصدعون بالحق صباح مساء، فالأمة لم تفقد أصل تطبيقها لدينها أبدا، وإنما موضوعها تصرفات الحكام وعبثه بحياة الناس، ومقدراتهم وأموالهم.

والحل الطبيعي القريب هو أن نقوم باستنهاض همم الأمة الإسلامية بالوقوف ضد عبث الحاكم، ونقوم أيضا بتوعية الناس بحقوقهم، وشرح الحقوق والمساحات التي حددتها الشريعة للحاكم حتى يتعرف الناس على مقدار خروجه عنها، وحتى يمكنهم إلزامه بها ومحاكمته إليه، فالناس إذا عرفوا الحدود والمساحات التي حددتها الشريعة للحاكم سيقومون بمهمة محاكمته إليها تلقائيا.

هذا هو الحل القريب المتبادر إلى الذهن لمن يعيش في بلاد المسلمين، وهو الحل الذي دلت عليه نصوص الشريعة، وهو الحل الذي طبقه الخلفاء الراشدون وأرشدوا الناس إلى تطبيقه، وهو الحل الذي طبقه المسلمون الذين ثاروا على الاستبداد وجور الحاكم، من لدن الصحابة -رضي الله عنهم- في حادثة الحسين إلى من جاء بعدهم.

ولكن أصحاب حل المقابلة بين تطبيق الشريعة وسيادة الأمة، قفزوا على هذا الحل، بل قفزوا على الإشكالية نفسها، وبدءوا يصورونها بصورة أخرى مختلفة تماما، وجاءوا بخلطة مركبة من الأفكار لا يستطيع المرء أن يتصورها بسهولة، أخذوا يقولون: إنا إذا أردنا أن نزيل الاستبداد عن الأمة علينا أولا أن نزيل الإلزام عن الشريعة نفسها، ونجعلها خاضعة لإرادة الشعب؛ لأن الأمة لا يمكن أن تطبق الدين مع الاستبداد، وجعلوا في بعض فقراتهم المقابلة بين تطبيق الشريعة وبين سيادة الأمة، ولهذا عبروا بالقبلية، وقالوا سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة.

فالحل في نظرهم - ليس هو أن نقوم بتوعية الأمة بحقوقها المكفولة لها في الشريعة، ونسعى إلى مراقبة الحاكم، وإنما الحل أن نرجع الأمة إلى مربع آخر ونسألهم هل يرغبون في تطبيق الشريعة أم لا؟ وكل حل لا يرجع إلى هذا المربع فهو حل خاسر وقاصر لديهم.

وهذا منطلق خاطئ في تصوير الإشكالية، فالمشكلة ليست في عدم رضى الأمة بتطبيق الدين، وليست في المقابلة بين تطبيق الشريعة وبين إقرار رقابة الأمة على الحاكم، فإنه لا تعارض بين أن نقول بإلزامية الشريعة وتعاليها عن رغبات الناس وبين أن تكون الأمة هي الحاكمة والمراقبة على الحاكم، بل لا نستطيع أن نقرر سيادة الأمة على الحاكم إلا بالاعتماد على إلزامية الشريعة.

فنحن لا نحتاج عن البحث في القبلية والبعدية إلا في حالة واحدة فقط وهي حالة التعارض.

وهنا أتساءل هل هناك تعارض بين تطبيق الشريعة وبين رقابة الأمة على الحاكم؟!

والشيء الذي يعارض رقابة الأمة وسيادتها هو نفوذ المستبد وليس إلزامية تنفيذ الشريعة.

ويزيد من وضوح وضخامة ذلك التصور الخاطئ، ذلك السؤال الذي بدأ يظهر بشكل مكثف في حواراتنا.. وهو أيهما أحفظ للشريعة وتطبيقها الفرد أو الجماعة؟!

وإيراد هذا السؤال بهذه الصيغة غير دقيق، وإنما يصب في إشكالية التصوير الخاطئ، لماذا؟!

لأنه لا ينازع أحد من المسلمين ولا العقلاء في أن العدد الكبير من حيث الأصل أحفظ للشريعة وتطبيقها من الفرد الواحد، ولم يحصر أحد حفظ الشريعة ومرجعية تطبيقها إلا الشيعة الرافضة، حين أرجعوا ذلك كله إلى الإمام أو من ينوب عنه، ولهذا أنكر عليهم ابن تيمية، وبين بأن حفظ الشريعة وتطبيقها ليس موكولا إلى فرد منها ولا حتى أبا بكر وعمر، بل الأمة كلها مشتركة في حفظ الشريعة بعضهم من جهة الحفظ لنصوصها والتفقه في أحكامها وهم العلماء، وبعضهم من جهة تطبيق حدودها، والدفاع عن حياضها، وهم الحكام الأمناء، وبعضهم من جهة المراقبة لتصرفات الحاكم وأعماله، وهم عموم الأمة، وبعض الشريعة أصلا مرتبط بكل شخص بمفرده من حيث إلزام التنفيذ.

وكذلك لم يرتبط حفظ الدين وتطبيقه بشخص واحد إلا في الحالة الأوربية المنحرفة، ولهذا ثار عليها الناس.

أما المشهد الإسلامي، فإنه لم يشهد ربط حفظ الدين ونقله وفهمه وتطبيقه بشخص واحد إلا ما وجد في الفكر الشيعي فقط.

فإثارة السؤال بتلك المقابلة خاطئ، ولا يصح أن يرد إلا على الفكر الشيعي الإمامي، أو الفكر الأوربي المنحرف، أمام عموم الأمة، فلا يصح أن يرد عليهم السؤال.

أرأيتم وجه التركيب الخاطئ لهذه القضية وإدخال قضايا في بعضها من غير مبرر؟!

الخلل الثاني: الالتباس الغارق، الذي يحاول أن يقرأ ذلك الحل بهدوء ويقوم بتحليل وإعمال الفكر فيه يجد فيه التباسا كبيرا أحدث خللا واضحا في تركيبة الحل وانتهى به إلى التناقض، ووجه ذلك: يظهر في معنى سيادة الأمة: يقوم ذلك الحل على أن تطبيق الشريعة لا يكون إلا بعد رضى الأمة، وأن الأمة ليست ملزمة بتطبيق الشريعة عليها ولا على واقعها إلا إذا رضيت بذلك فإن لم ترض أو سلبت إرادتها فهي غير ملزمة.

وفي إثناء النقاش والمطالبة بالتوضيح: يظهر لك معنى آخر، وهو أن الشريعة لا يمكن أن تطبيق نفسها بنفسها وإنما لا بد لها من أناس يطبقونها، وبالتالي فالأمة هي السيدة على تطبيق الشريعة، وسيادتها مقدمة على تطبيقها.

وهذا التصوير ليس صحيحا، وهو يوقع في الالتباس؛ لأن كون الشريعة لا يمكن أن تطيق نفسها بنفسها أمر بديهي لا يخالف فيه كل عاقل، فالذين يقولون بإلزامية تنفيذ الشريعة يقولون كذلك: إن الشريعة لا تطبق نفسها بنفسها، وإنما لا بد من امتثال الناس لها.

ونحن إذا رجعنا إلى المعاجم والمصطلحات نجد لفظ السيادة يطلق بالمعنى الأول لا بالمعنى الثاني، بل حتى في لغة العرب لا يطلق لفظ السيادة على الاحتياج للتنفيذ.

فقرارات الأب في البيت لا تنفذ نفسها بنفسها، وإنما هي محتاجة إلى من ينفذها من الأولاد وغيرهم.

ولا يقول أحد إن هذا الاحتياج يجعل الأولاد لهم السيادة على قرارات الأب.

وهذا الالتباس يجعل القارئ الذي يريد أن يفهم القول كما هو يجد صعوبة كبيرة؛ لأنه تارة يستعمل معنى صحيحا وتارة يستعمل معنى خاطئا مخالفا لمقتضيات الشريعة نفسها.

وحتى نخرج بصورة واضحة من هذا المأزق الالتباسي أقول: إن قصد بقبلية سيادة الأمة على الشريعة المعنى الثاني، أي أن الشريعة لا يمكن أن تطبيق نفسها بنفسها، وإنما لا بد لها من أناس يطبقونها، فالمعنى صحيح، ولكن استخدام اللفظ خاطئ لغة وشرعا.

وإن قصد بقبلية سيادة الأمة على الشريعة المعنى الأول، وهو أن تطبيق الشريعة لا يكون ملزما إلا بعد رضا الناس ومن لم يرض بالشريعة لا تطبيق عليه.

فهو معنى خاطئ كما يأتي الاستدلال عليه.

وختاما لهذه الفقرة، أقول: إنه لا داعي لإثارة هذه القضية أصلا في حل مشكلة الاستبداد؛ لأن المشكلة ليست في أصل تطبيق الشريعة ولا في حفظها وظهور أحكامها ولا في وجود علماء في الأمة يصدحون بالحق صباح مساء، وإنما في حكام استبدوا بالأمر.

الخلل الثالث: افتقاد الثمرة، ووجه ذلك: أن فكرة الدين الأصلية قائمة أصلا على الخضوع والتسليم بنفوذ الأحكام، فمن العبث أن تأتي إلى أي متدين بدين فتقول له هل ترضى بتطبيق دينك عليك؟! فمن العبث أن تأتي إلى اليهودي الذي يعتقد أن دينه لم يحرف ثم تقول له هل تريد أن نطبق دينك عليه؟! هل تريد أن نجري أحكامه عليك؟! وكذلك الحال في كل دين.

فكيف بالمسلم الذي يفتخر بدينه ويرى أن دينه محفوظ لم يحرف؟!

إن الانطلاق في حل معضلة المستبد من اختبار إرادة الأمة في تطبيق دينها على واقعها تغريد في فضاء آخر مختلف عن فضاء المشكلة.

إن المؤثر الحقيقي الذي ترغب الأمة في إثارة الأسئلة من أجله وتتمنى أن يُفعّل القول فيه هو سؤالها عمن ترضاه في سياسة دينها ودنياها، ومن ثم يكون لها حق المراقبة عليه.

إن الأمة المسلمة لا تريد ممن يريد إصلاح حلها أن يقوم بانتخابات يسألها فيها عن رغبتها في تطبيق الإسلام: "ولا تريد منه أن يكشف قبلية سيادتها على تطبيق دينها".

وإنما تريد منه أن يزيل عنها ذلك المستبد الظالم الذي عبث بحياتها.

إن الذي يأتي إلى الأمة المسلمة ويقول لها لا يمكن أن نزيل الاستبداد عنكم إلا إذا قمنا باختبار إرادتكم وهل ترغون في تطبيق الإسلام: "ونحقق لكم قبيلة سيادتكم على تطبيق الشريعة" سيكون أضحوكة بين الأمة؛ لأنهم سيقولون له بصوت واحد. مشكلتنا ليست في رغبتنا في تطبيق ديننا وإنما في تسلط هذا الظالم علينا..

هذا كله يبين لنا أن طرح الإشكالية في ذلك الحل لا فائدة منه في حال معضلة المستبد، أو على الأقل فيه تطويل غير مفيد ولا مثمر.

ومن جهة أخرى فطرح هذا السؤال على الأمة أو محاولة اختبار رضى الأمة بتطبيق الدين، فضلا عن أنه لا فائدة منه فهو مشتمل على خطأ منهجي، ويتحصل في عدم التفريق بين حال الكافر الأصلي وبين حال المسلم المقر بالإسلام، فإن النصوص الشرعية التي دلت على الاختبار إنما هي في حال الكافر الأصلي لا في حال المسلم، وحين بايع الصحابة أبا بكر وعمر وعثمان وعلي بل ومعاوية، لم يرد أي ذكر لرضى الناس في تطبيق الشريعة أبدا، وحين ثار بعض الصحابة والفقهاء على الاستبداد لم يرد أي ذكر لرضى الناس بتطبيق الدين.

ولم يرد ذلك إلا في حال الكافر الأصلي في دخوله في الإسلام فقط.

الخلل الرابع: المخالفة لقطعيات الأدلة، ووجه ذلك: أن القول بأن معنى سيادة الأمة هو أن الشريعة لا تكون ملزمة بنفسها، وإنما بعد رضى الناس بها، وإذا لم يرضى بها كل الناس أو بعضهم فلسنا ملزمين بتطبيقها عليهم، وأن النظام الإسلامي ليس ملزما بإخضاع الناس لتطبيق الشريعة.

وقبل مناقشة هذه الفكرة لا بد من التأكيد على أن البعض يطلق مثل هذه العبارات ثم في تفسيره لها يذكر معنى آخر وهو أن السيادة تعني أن الشريعة لا تطبق نفسها بنفسها، وهذا معنى آخر مختلف تماما عن المعنى الأول.

وإذا رجعنا إلى المعنى الأول. ورجعنا إلى النصوص الشرعية لنختبر صحته نجد قدرا كبيرا من النصوص مخالف له.

فتلك النصوص تدل على معنى واحد وهو أن الجماعة الإسلامية بحاكمها وأفرادها إذا أمكنهم أن يخضعوا الناس لنفوذ الشريعة الإسلامية فإنه يلزمهم ذلك، وتدل على أن أي جماعة تريد الخروج عن المنظومة الإسلامية فإنه يجب على الجماعة الإسلامية حاكمها وأفرادها إذا كان لديهم قدرة أن يزيلوا ذلك.

فكل الشواهد التي ستذكر تدل على تعليق الحكم بالقدرة من حيث الأصل، ولا تربطها بإرادة ورغبة من خرج عن حكم الشريعة.

"ولا بد من التأكيد هنا على أن المراد إظهار المخالفة في المجتمع لا في وجود أصل المخالفة، بمعنى أن الإنسان إذا خالف الشريعة في السر بأي نوع من أنواع المخالفة فإن الجماعة الإسلامية ليست ملزمة بالبحث عنه ما لم يتعد أثره على المجتمع أو ما لم تكن مخالفته معارضة ظاهرة لنظام الإسلام".

والآن نأتي إلى سوق الشواهد، وهي كثيرة جدا، ولها ارتباطات واسعة وتتطلب توضيحات متعددة، وسيكون ذلك في بحث مستقل -بإذن الله-، ولكن سنعرض لها هنا مختصرة:

الشاهد الأول: هدم مسجد الضرار، فالمنافقون كانوا يمارسون مخالفتهم للدين في السر، فلما أرادوا أن يكوّنوا لهم حزبا ويظهروا فيه العلن والمحاربة المعنوية الحسية. قام النبي عليه صلاة والسلام بهدم هذا المبنى وإزالته من الوجود.

ووجه الشاهد منه: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يعتبر رضى هؤلاء النفر، بل ألزمهم بالخضوع لحكم الشريعة، مع علمهم بعدم رضاهم.

الشاهد الثاني: فعل الصحابة مع المرتدين، فالصحابة حين ارتدت العرب قاموا بمحاربتهم وإخضاعهم لحكم الشريعة، ومن المعلوم أن المرتدين كانوا أصنافا منهم من ارتد عن أصل الدين و ومنه من ارتد عن دفع الزكاة.

والسؤال هنا: كيف نعرف الدافع الحقيقي الذي دفع الصحابة إلى محاربة أولئك النفر؟! وكيف نحدد المناط المؤثر في فعلهم؟!

والجواب هو أن نرجع إلى كلامهم وطريقة نقاشهم وحوارهم، وإذا رجعنا إليه نجد أن المؤثر الحقيقي في تلك المحاربة هو كونهم خالفوا أحكام الشريعة فلم يقبلوا بها، كما قال أبو بكر حين حاوره عمر في وجه محاربتهم: "والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة الصلاة" ولم يقل: لأقتلن من خرج عن الدولة.

فالمناط المؤثر هو كونهم خالفوا الشريعة، وهذا يدل على خطأ من يقول أن المبرر هو خروجهم عن الدولة، فهذا المبرر ليس عليه أي دليل في حوارات الصحابة.

ووجه الشاهد منه: هو ان الصحابة ألزموا المرتدين بالخضوع لحكم الشريعة مع علمهم بعدم رضاهم.

الشاهد الثالث: جهاد الصحابة في فارس والروم، فالصحابة خرجوا لقتال فارس والروم بأعداد كبيرة، ولم يكن بينهم أي خلاف في مشروعية هذا القتال، فهم مجمعون على شرعيته.

والسؤال مرة أخرى، كيف نعرف الدافع الحقيقي الذي دفع الصحابة إلى محاربة تلك الدول؟!! وكيف نحدد المناط المؤثر في فعلهم؟!

والجواب هو: أن نرجع إلى وصايا أبي بكر وعمر لهم وإلى صياغات الكتب التي أرسلوا بها إلى ملوك فارس والروم وإلى حوارات الصحابة مع قادتهم، ويظهر فيها أن الصحابة قصدوا إلى إخضاع الدول لحكم الشريعة.

ووجه الشاهد منها: أن الصحابة أجمعوا على مشروعية ذلك الفعل مع علمهم بعدم رضا عدد كبير من فارس والروم عن هذا الفعل.

ولا بد من التأكيد هنا أن الصحابة لم يكرهوا أفراد تلك الدول بالدخول في الإسلام، بمعنى أنهم لم يجمعوا الناس في صعيد واحد قالوا: من لم يدخل في الإسلام قتلناه، وإنما الذي حصل منهم هو إخضاع جملة المجتمع وحكومته لنفوذ الشريعة، ومن ثم من أراد أن يدخل في الإسلام فمرحبا به، ومن لم يرد لا يجبر على ذلك، ولهذا ظهر في المجتمع أهل الذمة، ولو كانوا يجبرون كل احد على الدخول في الإسلام لما ظهر أولئك النفر.

الشاهد الرابع: موقف الصحابة وعلماء الأمة من أفراد المرتدين، فقد شهد التاريخ الإسلامي منذ زمن الصحابة حالات من الارتداد، وكان موقفهم منهم هو السعي إلى معاقبتهم، وهذا محل إجماع ظاهر جدا في تصرفات الصحابة والعلماء من بعدهم، وأخف حكم ورد عن بعضهم هو أنه يحبس أبدا، وهذه عقوبة تدل على أن الخضوع لحكم الشريعة ليس راجعا إلى مطلق إرادة الشخص وإنما إلى القدرة ولإمكان من حيث الأصل.

ولا بد من التأكيد على أن الشاهد مبني على مطلق العقوبة وليس على قتل المرتد، فمن ينازع في الإجماع على قتله غاية ما يفعل يعتمد على قول من قال يستتاب أبدا.

وهذا لا يدل على نفي مطلق العقوبة عنه.

سلطان بن عبد الرحمن العميري

( جامعة أم القرى - قسم العقيدة )

  • 8
  • 1
  • 6,916

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً