جماليات البداية والنهاية في القصة القرآنية - (7) قصص البداية والنهاية
هنالك من قصص القرآن ما يقوم أساسًا على التركيز على عنصري البداية والنهاية، فيما تتوارَى عناصر القصة الأخرى، وتأخذ منزلة دون منزلتهما في الأهمية الجمالية، وتغدو القصة تقريبًا في مشهدين اثنين: مشهد بداية القصة، ومشهد نهايتها، وهي ظاهرة بارِزَة في القصص القصيرة في القرآن؛ كقصة: ابني آدم، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، وقارون، وفي قصص الأمثال كقصة الذي مرَّ على قريةٍ وهي خاويةٌ، وقصة الذي آتاه الله الآيات فأتبَعَه الشيطان.
هنالك من قصص القرآن ما يقوم أساسًا على التركيز على عنصري البداية والنهاية، فيما تتوارَى عناصر القصة الأخرى، وتأخذ منزلة دون منزلتهما في الأهمية الجمالية، وتغدو القصة تقريبًا في مشهدين اثنين: مشهد بداية القصة، ومشهد نهايتها، وهي ظاهرة بارِزَة في القصص القصيرة في القرآن؛ كقصة: ابني آدم، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، وقارون، وفي قصص الأمثال كقصة الذي مرَّ على قريةٍ وهي خاويةٌ، وقصة الذي آتاه الله الآيات فأتبَعَه الشيطان.
وفي القرآن الكريم مثالان بارزان لهذه الظاهرة الفنية هما:
قصة صاحب الجنَّتين، وقصة أصحاب الجنة، وفي كلاَ النموذجين يتَّضح تفوُّق عنصري البداية والنهاية على العناصر الأخرى.
1- صاحب الجنتين:
في هذه القصة نرى مشهدًا صامتًا يصوِّر الجنَّتين تصويرًا حسيًّا بديعًا "ولعل أوَّل ما تُبادِرنا به الآيات القرآنية من تفصيلٍ لمظاهر النعيم التي بدأ صاحب الجنتين يتمتَّع بها - تعدُّد مصادر الرزق {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} [الكهف:32]، وتعدَّدت الغلاَّت التي تدرُّ عليه الرزق: "الأعناب، النخل الحافُّ بالجنَّتين، الزرع الموجود بينهما"، ثم يُضِيف القرآن الكريم مُفرَدةً أخرى تُسهِم في رسم هذه الصورة الغنية الضخمة عن حجم الرزق الذي آتاه الله تعالى صاحب الجنَّتين، هذه المفردة هي عبارة عن المحاصيل الوافرة السليمة التي درَّت بها الجنتان: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف:33].
ثم تأتي صورة تفجير النهر لتُضفِي الحركة والحيوية للانطِباع الذي تُثِيره في أذهاننا صورة الجنَّتين كما يرسمها لنا القرآن الكريم: {وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهَرًا} [الكهف:33].
الرزق الوافر، والنعيم الواسع، وضعف النفس المالِكة لهذا الرزق والنعيم، كلُّ ذلك محصِّلته الأكيدة: الغرور، والغفلة عن الله تعالى والاعتماد على الأسباب الظاهرية ونسيان مسبِّب الأسباب.
ها هو ذا صاحِب الجنَّتين ينظر إلى هذه النِّعَم الهائلة الغزيرة بنفسٍ ملؤها الضعف والجفاف الروحي والغفلة عن ذكر الخالق تعالى الذي كان السبب الأول والأخير في تدفُّق تلك النِّعَم" (القصص القرآني: رؤية فنية، 108- 109).
فيغتر بأسباب العيش الرَّغِيد التي تيسَّرت له، ويطمئن إليها ويَثِق كلَّ الثقة بها، ويستبعد أن تزول هذه النعمة العظيمة، ولم يبقَ هذا الغرور في داخل نفسه، بل بدأ يعلن ذلك صراحة: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} [الكهف:35]، ويبالغ في هذا الغرور حتى يقول: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف:36].
وهكذا يستأثِر مشهد البداية بالاهتمام، ويشدُّ الانتباه إلى متابعة حال ذلك الرجل ثم ينشأ بينه وبين أحد أصحابه حوارٌ يحاوِل فيه الصاحب المؤمِن ردع ذلك المتكبِّر عن غروره وكبريائه، ويخوِّفه عاقبة كفره وغروره، لكنه لا يرعوي عن غيِّه، ويصرُّ على ما هو عليه من كفر النعمة.
ويربط أحد الباحثين بين نهاية هذه القصة وبين بداية السورة {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا . وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:7-8]، فالأرض كلها متاع عابِر منتهٍ إلى خراب شامِل؛ ممَّا يجعل الصاحب المؤمن يؤكِّد أنه لا يعترف بكلِّ ما قاله صاحبه، وإنما يعترِف بأن الوحدانية والربوبية هي لله وحده لا شريك له، ويعجب من صاحبه الذي لم يقل حين أعجبَتْه جنَّته: الحمد لله، وما شاء الله لا قوة إلا بالله (الحوار القرآني بين التفسير والتبصير، 292).
ثم تختصر القصة ما حدث بعد ذلك في كلمتين وجيزتين {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف:42]، متى؟ وكيف؟ ليس ذلك مهمًّا، المهم النتيجةُ التي انتَهَى إليها، لنرى بسرعة نهاية القصة وقد جلس على أنقاض الجنَّتين، يقلِّب كفَّيه حسرة وندامة، وقد تحوَّلتَا إلى مجرَّد أطلال خربة، وغدا في صورة مغايرة تمامًا لحاله في بداية القصة، فهناك كان فَخُورًا كَفُورًا، وهنا ضعيف مسكين يستولي عليه الندم والألم، يقول في توجُّع وندم: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:42].
"وهكذا يُحِيط العذاب من كلِّ حدب وصوب بتلك الثمار التي كانت مصدر غرور واستكبار هذا الإنسان الضعيف النفس، ويُشعِر إلحاق ضمير الملكية (الهاء) بـ(الثمر) ونسبة هذا الثمر إلى صاحب الجنتين أن الله تعالى أراد من وراء ذلك رسم صورة ساخرة مستهزئة من هذا الإنسان (القصص القرآني، رؤية فنية: 112).
ومع إيجاز النهاية إلاَّ أنها احتَوَتْ تفصيلات جزئية مثيرة؛ فهنالك أنقاض الجنَّتين وهي خاوية على عروشها، وهنالك حالة ذلك الشخص يقلب كفَّيه على ما أنفق فيها، وهنالك قوله بحزن شديد: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:42]، وهنالك الوحدة المؤلمة حين خذَلَه مَن كان ينتظر منه العون وبقي وحده {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [الكهف:43]، وهنالك الحقيقة الكبرى التي تُعلِن عنها القصة، قانونًا إلهيًّا لا يتخلَّف {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:44]، وهو إعلان مؤثر يُلائِم منطق الأحداث التي انتَهَتْ إلى تقرير تلك الحقيقة واقعًا مُشاهَدًا في حياة ذلك الرجل.
ويذهب الإمام الرازي إلى أن هذه القصة مثَلٌ ضرَبَه الله تعالى: "للكفار حين افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فُقَراء المسلمين، فبيَّن الله تعالى أن ذلك ممَّا لا يُوجِب الافتخار؛ لاحتمال أن يَصِير الفقير غنيًّا والغني فقيرًا، أمَّا الذي يُوجِب حصول المفاخَرَة به فطاعة الله وعبادته، وهي حاصلة لفقراء المؤمنين" (التفسير الكبير للرازي: [7/462]).
ولا شكَّ أن تركيز القصَّة على البداية والنهاية، وعدم توزيع الاهتمام على عناصر قصصيَّة متعدِّدة قد زاد قوَّة التأثير في النفس؛ فأصبحت نموذجًا مؤثِّرًا يقدم الحدث ونتيجته مباشرة.
2- أصحاب الجنة:
وهي مثْل القصة السابقة في بُرُوز عنصري البداية والنهاية، وغلبتهما على الجوِّ العام، وتمدُّدها على مساحة واسعة منها، وإن كانت أقصر من قصة صاحب الجنتين، ويتجلَّى المشهد الأول منها في اتِّفاق أصحاب الجنة على قرار ظالم يمنعون به حق الفقراء والمساكين، ويستبدُّ بهم الطمع حتى يصمِّموا على تنفيذ ذلك القرار، ويقسموا فيما بينهم على احترامه والالتزام به: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ . وَلَا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17- 18].
ويقدرون أمرًا، ويقدر الله عزَّ وجلَّ أمرًا آخَر فينطلقون في الصباح الباكر في هيئة من التوجُّس والحذر والرغبة في الخفاء، وهم يتخافتون ثم يفاجؤون باحتراق تلك الجنة وزوالها تمامًا، حتى لا يكادون يصدقون ما حدث، ويظنون أنهم قد أخطؤوا الطريق إليها، ولكنهم لم يخطئوا الطريق بل ها هي ذي جنتهم وقد أصبحت كالصريم!
والآن قد سقط في أيديهم قال أوسطهم: ألم أقل لكم: لولا تسبحون؟ أي والله! هلاَّ سبحتم الله واتقيتموه؟
قالوا: سبحان ربنا، إنَّا كنا ظالمين، الآن وبعد فوات الأوان!
وكما يتنصَّل كلُّ شريك من التَّبِعة عندما تَسُوء العاقبة، ويتوجَّه باللوم إلى الآخَرين ها هم أولاء يتركون التلاوم ليعترفوا جميعًا بالخطيئة؛ عسى أن يفيدهم الاعتراف الغفران، ويعوِّضهم من الجنَّة الضائعة جنَّة أخرى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ . عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} [القلم:31-32] (التصوير الفني في القرآن: 52).
إن البداية والنهاية في هذه القصة تمثِّلان موضع الإثارة فيها؛ ولذا كان التركيز عليهما، فهما نسيج القصة وبناؤها الذي قامَتْ عليه؛ حيث البداية تمثِّل السبب، والنهاية تمثِّل النتيجة، السبب حرمان أصحاب الجنة حقَّ الفقراء والمساكين الذي أوجبه الله تعالى والنتيجة دمار تلك الجنة وفناؤها.
ويتبع مشهد النهاية تصوير الندم الذي حلَّ بأولئك وكيف أنهم قد وعوا الدرس جيدًا وعلموا خطأهم، واعترفوا به، ورجوا أن يبدلهم الله خيرًا من تلك الجنة، ثم كانت الخاتمة النهائية {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم:33].
إن تلك العقوبة ليست بشيءٍ في ألمها وشدَّتها بالقياس إلى العذاب الأخروي الشديد، نسأل الله العافية.
- التصنيف:
- المصدر: