ولادة فجر...
كان كلّما سمع خطواتٍ تقتربُ في الممرِّ الطَّويلِ إلَّا وقف منتظرًا أملاً قد يلوح من بعيد، وتتسارع دقّاتُ قلبه تُهديه زفراتِ الفرح المتقطّعةِ وتؤجِّجُ أحلامه وآماله وتُؤرجحها ذات اليمين وذات الشّمال
خيّمَ اللّيلُ على ردهاتِ السّجنِ فزاد المكانَ وَحشةً ووِحدةً تجْثُمُ على الأرواحِ تكاد تزهقها...
لاحتِ الأنوارُ خافتةً؛ بل شاحبةً في لونِ الموتِ...
وازْداد الصّمتُ الرّهيبُ يضغطُ بقبضته على النُّفوس الحزينة يُنهي ما بقي داخلها من أملٍ لا يقطعه غيرُ أصواتِ أقدام السّجّانين المارّين بالعنابر الممتدّةِ على جانبيْ الرّدهةِ.
كانت تلك اللّيلةُ أثقلَ ليلةٍ تمرُّ بالعمِّ مصباح ذاك الرّجلُ الذي أمسكه البوليسُ السّياسيُّ بتهمة التَّعدِّي على سمعة الحاكم والنَّيل من قدْر الدّولةِ...
خرج ذات يوم لابتياع بعض الأغراضِ من السُّوق المجاورة لمنزله، فشدَّ انتباهه صوتٌ أجشٌّ ارتفع من النّاحية الأخرى من السّوق...
اشرأبّت عنقه كغيره من النّاس تستطلع الأمر ولا يعرف إلى حدود اللّحظة كيف أخذته رجلاه إلى مكان الخصومةِ:
- لماذا تبخسني الثّمن أيّها المطّفّف...؟
- اخرسْ أيّها الأرعن...
إن لم يعجبك الثّمن فامضِ في حال سبيلك إلى غيري...
- لكنّي لا أجد هذه البضاعة إلاّ عندك، وأنا في حاجةٍ أكيدة لها..
- لن أبيعك إلا بالثمن الذي يُرضيني...
تطوّرَ النّقاشُ إلى مشادةٍ كلاميّةٍ حادةٍ امتدت معها الأيادي لتأخُذ بالنّواصي والأقدام، وارتفعتِ الأصواتُ بالشّتم والسبّاب، وكأنّ الدّنيا قامت ولم تقعد.
لم يصبر صاحبنا ووجد نفسه تدخل محاولاً إيقاف الشجار بعد أن تسمر الجميعُ لمشاهدة ما يجري...
- كفا عن مثل هذه التّصرّفات المشينةِ..
- دعنا وشأننا...
من طلب منك التدخلَ؟
- لكن الظلمَ حرمه الله حتى على نفسه...
- حرّم الله جلدك...
هل تراني أظلمه لما أمتنع عن بيع سلعتي لأمثاله؟
- نعم...
فهو في حاجة لها ولا يجدها إلا عندك؛ لكنك تصرُّ على ظلمه عندما تحاول ابتزاز حاجته إليها...
- اغرب عن وجهي وإلا كان مصيرك من اللكمات ما حصَّل غريمي..
لا أستغرب الظلمَ من أمثالك فالظاهر أنك تأبى النصحَ...
صحيح أن هذه البلادَ صارت أمًا للظلم حتى كأني أرى الظلمَ رجُلاً يمشي بين أسواقها مترجلاً...
لم يكن مصباح يعلم بأنه مراقبٌ وهو السياسي القديمُ، ولا أنّ ما حدثَ بين الرجلين كان مفتعلاً...
بل لم يكن يعلم أنّ كلّ ذلك كان معَدًّا مسبقًا وأن الفخَّ كان منصوبًا له بكلِّ دقةٍ...
وما كاد يُنهي كلامه حتّى تحرّكت نحوه كتلتا لحمٍ تنتهي برؤوس ضخمةٍ أمسكتا بتلابيبه وكلّمه أحدهما بصوتٍ أجشٍّ:
- أيُّ بلادٍ تقصدُ..؟ يعني حكامها ظُلَّام يا بنَ....
- لا أقصد شيئًا فقد تكلمتُ في عموم الأمور..
سننظر في أمرك وكيف ستُطلق ساقيك أمام ما ينتظرك أيّها المتبجِّح بما لا تعي... ساد صمتُ رهيبٌ وهو يمتطي عربةَ الشرطة المقِلةِ له بعد أن ألقوا به إلى جوفها، ثُمَّ وجد نفسه يُقادُ إلى مكان سبقته إليه روائحه العفنةِ؛ وهو مغمض العينين يتعثّر في مشيته...
زجوا به إلى داخل غياهبِ السّجن المظلمةِ، ونسوه أو تناسوه لأيّام دون سؤالٍ ولا اتّهام ممّا زاد من تسارعِ الأفكارِ السّوداء المتزاحمة داخل فكره المشوَّشِ... داخل عقله السّجين.
وذات يوم بينما كان مُنزوٍ في ركنٍ من غرفته النّتنةِ يستمتع بضوء الشّمس الذي كان يتسلّل هو الآخر خلسةً من نافذةٍ في أعلى السّقفِ دخل عليه رجلٌ ضخمٌ، وقاده إلى زنزانةٍ أكثر ضيقٍ وأشدّ ظُلمة.
- إلى أين تأخذونني...؟
- اصمت.
- متى سيستدعيني حاكم التّحقيق؟
- ههه...
وهل لمثلك سيُضيع حاكم التّحقيق وقته؟ قضيّتك جاهزة وقد استوفت أركانها.
- لكنّي لا أعرف تهمتي حتّى... أريد محاميًا... أريد محاكمةً عادلةً...
- ولك القدرة على التكلُّم من جديد بعد أن وقعتَ متلبّساً؟
- أنتم تصرّون على الظّلم وتغضبون لمّا تُرمون به...
ركله بقدمه ودفعه بعنف شديدٍ حتّى أوقعه أرضًا يلثم صفحةَ الأديمِ مُهاناً ذليلاً، ثمَّ جذبه بحركةٍ أعنفَ من طرف قميصه وساقه أمامه كما تُساقُ البهيمةُ إلى الزّريبةِ.
قبع المسكينُ يراجع سجل ذاك اليوم المشؤوم علَّه يظفر بإجابة تشفي غليله حول أسباب اعتقاله المفاجِئ؛ لكنّه لم يصل إلى إجابةٍ شافية تُخرجه ممَّا هو فيه من حيرةٍ.
نام الجميع تلك الليلةِ لكن النومَ لم يعرف إلى جفنه طريقًا... كانت الغرفة ضيّقة تكاد تضغطُ أضلاعه الوهنةَ تفوح منها رائحة العفنِ... غطَّت أعشاشُ العناكبِ أركانها القريبةِ من الرّأسِ وزيَّنت جدرانها طحالبُ الرُّطوبةِ القاتلةِ...
كانت الصَّراصرُ تقرع الغرفة جيئةً وذهابًا لا تأبى لوجوده؛ إذ تجد في المكان ملاذًا لحياتها الصّاخبةِ في أواخر الليلِ؛ فتجوب شوارعها وأزقتها بكلِّ حرِّية واطمئنانٍ.
حاول حبس أنفاسه حتَّى لا تتسرَّب الرّطوبة الخانقةُ إلى جوارحه المنهارةِ وصار كالشَّمعة يذوي بعد أن كاد يتسرّب اليأس المَقيتُ إلى قلبه.
بكى في داخله من القهر والظلمِ...
بكى من جبروتِ المستبدِّ صديق الظَّلامِ...
لم يكن من اليسير مسح دموعٍ اختزلها القلبُ في تنهيداتٍ طويلة العُمقِ...
بكى نفسًا محطمةً بالكاد يمكن جمعُ أشلائها المبعثرةِ...
تململَ في ضيق الغرفة بضيق نفسه يرنو إلى فضاءٍ أرحبُ قد يُهديه إليه الزّمن القادمُ...
امتعض في داخله من قلةِ صبره، وسرعان ما جرى يشحنها بما قد يُسكِّن ألمها في غربته الروحيَّة، ويُهدهدها براحةِ كفِّه يُزيحُ عنها الوجعَ بما تيسَّر من الذِّكر.
كان كلّما سمع خطواتٍ تقتربُ في الممرِّ الطَّويلِ إلَّا وقف منتظرًا أملاً قد يلوح من بعيد، وتتسارع دقّاتُ قلبه تُهديه زفراتِ الفرح المتقطّعةِ وتؤجِّجُ أحلامه وآماله وتُؤرجحها ذات اليمين وذات الشّمال؛ لكن يضيع كلُّ شيءٍ كلَّما تلاشى وقع الأقدام وابتعد وتعود نفسه المكدودةُ في صمتِ اللّيل الرّهيب إلى ركنها وتسكن تنتظر صباحًا قد يستعير من مصباحه أملاً فيه الأمن والأمان المرتقبُ...
نجيبة بوغندة
مجلة البيان- العدد 300- شعبان 1433 هـ- يوليو 2012 م
- التصنيف: