يا خير أمة لا تقبري الأمل
رشيد بن عبد السلام نافع الصنهاجي
إن الذين ينظرون إلى هذه الحياة بنظرات قاتمة؛ هم أولئك الذين إذا نزلت بهم نازلة، أو تكدر لهم عيش، أو حلت بهم بلوى؛ يئسوا من الفرج، وطال عليهم سوء الأمل، وظنوا بربهم ظن السوء، ولكن أهل الإيمان موصولة قلوبهم، نَدِية أرواحهم، لا ييأسون من روح الله، يفيئون إلى ظلال الإيمان، ويأنسون بصلة الكريم المنان، على الرغم مما هم فيه من مضايق الشدة، ومخانق الكروب.
- التصنيفات: التصنيف العام -
لقد مرت محن، ومصائب على المسلمين في الماضي أيام التتار والصلبيين وغيرهم، فكان أجدادنا يواجهون الصعاب، والشدائد بكل إصرار وصمود وثبات وتضحية، وذلك بما أُودع فيهم من عقيدة قوية، وإيمان راسخ، وعمل صالح، كما ابتليت أمتنا الإسلامية -ولا تزال- بنكبات وهزائم متوالية في القرن الماضي، وفي بداية هذا القرن، غير أن ذلك يجب أن لا يفقدنا الثقة بالله عز وجل خالق الكون والإنسان والحياة، وإن النكبات والنكسات التي تنتاب الأمة الواعية لا تضعف من قوتها، ولا تفقدها الثقة بنفسها، ولا تيأس، ولا تقنط، بل إن ذلك يحفزها للرجوع إلى الله عز وجل قولًا وعملَا وأخذًا بالأسباب.
الأمل هو حادي العمل، وعندما يفقد الإنسان الأمل بالكلية يكون أمام نكسة نفسية يصعب أن يتعافى منها.
أعلل النفس بالآمال أرقبها .... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
و لهذا كان أخطر ما تواجهه الأمة هو اليأس؛ الذي يقعدها عن العمل والإنتاج، وينحرف بمسيرتها عن الصراط المستقيم، إلى مفترقات السبل، والأهواء، والمضلات، والضياع.
في تعاقب الشدة والرخاء، والعسر واليسر، كَشْفٌ لمعادن النفوس، وطبائع القلوب؛ ما بين غبش وصفاء، وهلع وصبر، وثقة وقنوط، في تقلبات وتنوع الأحداث يتمحص المؤمنون، وينكشف الزائفون، وتتجلى دخائل النفوس، ومكنونات الصدور، ومن درى حكمة الله في تصريف الأمور، وجريان الأقدار، لن يجد اليأس إلى قلبه سبيلًا، مهما أظلمت المسالك، وقست الحوادث، وتوالت العقبات، وتكاثرت النكبات، فالإنسان إلى ربه راجع، والمؤمن بإيمانه مستمسك، وبأقدار الله مسلم، وعلى سننه جار، وإن شر ما منيت به النفوس يأس يميت القلوب، وقنوط تظلم به الدنيا، وتتحطم معه الآمال، فاليأس قرين الكفر، والقنوط بريد الضلال، {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87]، {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر:56]، ولقد علم أولوا الأبصار والألباب أن الهموم والمحن لا يقصرها شدة الجزع، ولا يزيد في طولها قوة الصبر والجلد.
إن الوقائع ومداولة الأيام محك لا يخطئ، وميزان لا يظلم، وفي تقلب الدهر عجائب، وفي تغير الأحوال مواعظ، القوي لا يستمر أبد الدهر قويًا، والضعيف لا يبقى طول الحياة ضعيفًا، ولكنها سُنة الله أدوار وأطوار، تجري على الأمم والشعوب، وتمر بالأفراد والجماعات، وتنتظم المتقين والفجار وأهل السوء والأخيار.
فهذا آدم عليه السلام تسجد له الملائكة، ثم بعد برهة يخرج من الجنة، وإبراهيم عليه السلام أراد به قومه كيدًا، فكانوا هم الأسفلين، وأضرموا نارًا لحرقه؛ فكانت بردًا وسلامًا على إبراهيم، وهذا الذبيح يضطجع مستسلمًا، ثم يأتيه من عند ربه الفداء، ويبقى له الفضل والثناء، ويعقوب عليه السلام يذهب بصره من ألم الفراق، ثم يعود التواصل والتلاق والنظر، و نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يتقلب في عجائب المد والجزر، والرجاء والأمل، إلى أن يجئ نصر الله والفتح، ويدخل الناس في دين الله أفواجًا، هذا ما كان من أنبياء الله وأوليائه والمصطفين من عباده، فما بالك بمن هو دونهم من سائر أهل الأرض.
إن من تأمل صروف الدنيا ورياح التغيير، وأمواج التقلبات، لا يفجع عند نزول البلاء، ولا يفرح بعاجل الرخاء، وما يكون في الأفراد يكون في الأمم، فكم من أمة ضعيفة؛ نهضت بعد قعود، وتحركت بعد خمود، فكم من قرية بطرت معيشتها فزالت بعد وجود، أذاقها الله لباس الجوع والخوف لما بدلت الشكر بالكفر والجحود، وحين يريد ربنا أمرًا فإنه يأتي إليه كما يشاء فهو العليم القدير، السبب والنتيجة من صنعه، والوسيلة والغاية من خلقه وتدبيره، لا يمتنع عليه سبب، ولن تعجزه غاية، يتحصن المتحصنون فيأتيهم الله من حيث لا يحتسبون، وقديمًا خاطب الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، و خالفت على ما يبدو ظواهر الأسباب ومظاهر السنن؛ {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:2]، لم تكونوا تتوقعون خروجهم، فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم، بحيث لا تظنون خروجهم، وغرتهم المنعة، فنسوا قوة الله التي لا تردها حصون {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر:2]، أتاهم من داخل أنفسهم، من داخل قلوبهم؛ فقذف فيها الرعب، فعلموا أنهم لا يملكون أنفسهم، ولا يحكمون قلوبهم في هذا وأمثاله.
كم تمر على أهل الحق والإيمان من أيام حرج وضيق وساعات شدة وكرب؛ يواجهون فيها أهل الباطل في إصرارهم وجحودهم، تحيط بهم ظروف الباطل في قوته وكثرة أهله، وأهل الحق والإيمان في قلة من العدد والعدة، الباطل ينتفش ويتعاظم، ويبطش ويغدر، وأهل الحق والإيمان ينتظرون وعد الحق، ويطول بهم الانتظار، وتهجس في خواطرهم الهواجس، {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110] ، تلك سنن الله في الدنيا وأهلها، في مدها وجزرها، في أهل الكفر والإيمان، في الدعوات وأصحابها، شدائد وكروب ومضايق وخطوب، ثم يجيء النصر والانفراج، بعد اليأس من ظاهر الأسباب يجيء النصر من عند الله، فينجو من يستحق النجاة، ويحل بأس الله بالمجرمين مدمرًا ماحقًا.
كل هذا البلاء، وكل هذا الصبر، والتصبر حتى لا يكون النصر رخيصًا، وحتى لا تكون دعوة الحق هزوًا وهزلًا، فدعوة الحق لا تكون عبثًا ولهوًا، ولكنها تسير على قواعد ومناهج يكون فبها البلاء والبأساء، ويتخذ فيها الشهداء، ويمحص فيها المخلصون من الأدعياء، فيعجزون عن الحمل، وتثقل عليهم التكاليف، ويطول عليهم الطريق، ومن ثم يتبين الحق من الباطل على محك الشدائد، فيصمد المخلصون، ويتميز الصادقون، ولو تباطأ النصر ما تباطأ، {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].
إن الذين ينظرون إلى هذه الحياة بنظرات قاتمة؛ هم أولئك الذين إذا نزلت بهم نازلة، أو تكدر لهم عيش، أو حلت بهم بلوى؛ يئسوا من الفرج، وطال عليهم سوء الأمل، وظنوا بربهم ظن السوء، ولكن أهل الإيمان موصولة قلوبهم، نَدِية أرواحهم، لا ييأسون من روح الله، يفيئون إلى ظلال الإيمان، ويأنسون بصلة الكريم المنان، على الرغم مما هم فيه من مضايق الشدة، ومخانق الكروب، {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فهذه بشارة لأهل الإيمان بحفظ الله لدينه، وكماله، ورضا رب العالمين عنه، وتمام النعمة له.
والكافرون آيسون من أن ينالوا منه شيئًا، غير أنهم قد يغلبون في موقعة، أو يهزمون في فترة، ولكنهم عاجزون من أن يمسوا هذا الدين، فهو محفوظ لا يناله تحريف، ولا يرقى إليه تبديل، وعلى شدة ما كاد الأعداء، وعِظَم ما أصاب المسلمين من ضعف وبلاء في بعض الأعصار و الأمصار؛ فلن تزال على الحق طائفة منصورة، تحفظ أمر الله، وتنصره، و تسعى لإعلاء كلمته، سدد الله الخطى، وبارك في الأعمال، وحقق الآمال، وطرد عنا اليأس، والقنوط والأوهام.