للطغاة وسائل ثابتة
محمد علي يوسف
أما عن الوسيلة فلا تدري، لعلها بأهون الأسباب، ربما بمشهد ينكشف عنه الستار فجأة ليظهر رضيع لا حول له ولا قوة؛ {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}، وفي هذا المشهد قد تكون البداية؛ بداية المنّ.
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
وللطغاة وسائل ثابتة، من خلالها يسيطرون على شعوبهم، وبها يرسخون علوهم، وإن فرعون كنمط واضح نموذجي للشخصية المستبدة الطاغية يعد مثالًا واضحًا لاستعمال تلك الوسائل.
سورة القصص في آية منها تبين جوانب مهمة من مناهج الطغاة في السيطرة على شعوبهم، وتثبيت عروش علوهم في الأرض، وذلك من خلال عرض لمنهج فرعون في ذلك، وهو منهج قائم على:
1. التفريق، وبث الانقسام.
2. استضعاف طائفة منهم، وليس كلهم.
3. القتل والإذلال.
4. الإفساد في الأرض.
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].
ففرعون لم يكن ليعلو في الأرض من دون تلك الخطوات؛ التي تبدأ بقاعدة فَرِّقْ تَسُد، {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}، أحزابًا متناحرة، وفرقًا منقسمة، يبغض بعضها بعضًا، وينشغل بعضها ببعض.
ومن خلال التفرق والتشرذم والتنازع الذي هو أول طريق الفشل، يخلو الجو للطاغية، ويضمن استمرار كونه الأقوى بين تلك الشيع المتحاربة التي يضعف بعضها بعضًا، لذلك فهو حريص على استمرار الانقسام، وترسيخ الكراهية المتبادلة بين أبناء الشعب الواحد، والتي تجعل أولويات العداوة والبغضاء بينهم وبين بعضهم، وليس بينهم وبين من يذلهم ويبطش بهم جميعًا.
والطاغية عادةً لا يستضعف الجميع بشكل ظاهر، بل البعض وليس الكل، إنه يحرص على استضعاف بعض الطوائف التي تشكل خطورة على استبداده، وترفض طغيانه، أو حتى يمكنها أن ترفضه مستقبلًا.
لكنه {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُم}، وفي ذلك التفريق في المعاملة فوائد؛ حيث يزيد ذلك التفريق من ترسيخ كراهية المستضعفين المظلومين للآخرين الذين لم يُستضعفوا، وأيضًا يزيد من حرص المُفضلين الذين لم يُستضعفوا على مزيد من التملق والنفاق، أو الانبطاح والسكوت عن ظلم الطاغية، حتى لا تزول عنهم امتيازاتهم، ويضمهم الطاغية إلى قوافل المستضعفين.
والاستضعاف له أشكال مختلفة، ويحرص المستبد على ترسيخ قاعدة من الخوف لا سقف لها فـ{يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ} إنه بذلك يرسل رسالة ضمنية؛ أنه قادر على الأسوء، وأنه حتى الأطفال والنساء لم ينجوا من قبضته الباطشة، وتنكيله البغيض، فما بالك بغيرهم.
ثم يأتي الإفساد في الأرض؛ {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}، ومن أهم أهداف الإفساد: الإلهاء، وبث روح الغفلة بين الشعوب؛ لكي تنسى ما تلاقيه من الآلام والظلم؛ عن طريق الإغراق في الشهوات، والملذات، وتيسير الملهيات والمفسدات، التي تنشىء جيلًا ضعيفًا غافلًا لا يعنى إلا بشهواته، ولا يعرف شيئًا عن قضايا أُمته.
لكن كل ذلك يطيش بكلمة واحدة: {وَنُرِيْدُ} [القصص:5]، إرادة الله فوق إرادة المستبد وكل مستبد، {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص:5].
وهذه المنة لها خطوات أيضًا، أولها الإمامة، {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5]، أن يوجد في الأمة الأئمة والقادة والقادرين على رفض الظلم والإصلاح في الأرض.
من هنا تأتي الوراثة؛ {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، ثم التمكين وإهلاك الظالمين، {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6].
لكن كل ذلك يبدأ بإرادة المن، وهي مرتبطة بوجود الاستحقاق، أما عن الوسيلة فلا تدري، لعلها بأهون الأسباب، ربما بمشهد ينكشف عنه الستار فجأة ليظهر رضيع لا حول له ولا قوة؛ {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]، وفي هذا المشهد قد تكون البداية؛ بداية المنّ.