بين مفهوم الحل، ومفهوم الواجب
محمد علي يوسف
فليس شرطًا دائمًا أن يكون ما يجب عليك عمله يحمل الحل لجميع مشكلاتك أو مشكلات واقعك، على الأقل على المستوى العاجل الآني، ومع ذلك عليك أن تفعله، عليك أن تفعله لأنه هو الصواب
- التصنيفات: الواقع المعاصر - قضايا إسلامية معاصرة -
من أكثر الأشياء التي تحبط أصحاب الهمة العالية والهمّ الصادق؛ ذلك الخلط بين مفهوم الحل ومفهوم الواجب، بمعنى بسيط وبدون تعقيد في المصطلحات تجد صاحب الهمة أو الهم ّ إذا عجز يومًا عن إيجاد حل عاجل وجامع لمعضلات واقعه؛ ظن أنه بذلك قد سقط عنه التكليف، ومن ثم هوى في دركات الإحباط واليأس، ونسي أنه ثمة فارقًا مهم وجذري بين الحل والواجب.
يتضح هذا الفارق حين يجيد المرء توصيف واقعه، ليفاجأ أحيانًا بقسوة وضعه، أو صعوبة ابتلاءاته، فلا يجد حلًّا عاجلًا يستطيع أن يجزم من خلاله بالإجابة الصحيحة؛ التي من خلالها تفك طلاسم تلك المعضلات الآنية، والمعادلات الصفرية التي يعيشها.
لكنه مع ذلك ينبغي أن يدرك حقيقة أنه على الرغم من تلك الصعوبات والمعضلات فإنه لم يزل مكلفًا بواجب مهم؛ واجب الإعذار إلى الله، {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164].
تلك العبارة الجامعة التي قالها الناصحون من أصحاب القرية التي اعتدت في السبت، وعصت الله، فاصطادت في اليوم الذي نهاها الله عن الصيد فيه، إلا أولئك الناصحين، لم يصطادوا معهم، ونصحوا لهم، ونهوهم عن ذلك الفعل، فلما حاول المثبطون تخذيلهم، وإبطاء حركتهم الدعوية، الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر، فكان الرد بتلك العبارة: {مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ} {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، لعلهم، ربما.
فليس شرطًا دائمًا أن يكون ما يجب عليك عمله يحمل الحل لجميع مشكلاتك أو مشكلات واقعك، على الأقل على المستوى العاجل الآني، ومع ذلك عليك أن تفعله، عليك أن تفعله لأنه هو الصواب، وإن لم يكن يحمل كل الحلول، والتكليف ابتداءً ليس بالحل، وإنما بالمحاولة.
لتوضيح الفكرة نضرب مثالًا قرآنيًا آخر؛ (سحرة فرعون)، تلك المجموعة التي آمنت بما أُنزل على نبي الله موسى عليه حين رأوا الآية التي بعثه الله بها، وأدركوا أنها معجزة من إله عظيم، خرّوا له من فورهم ساجدين.
طبعًا هذا السجود والإيمان لم يعجب فرعون، ولم يستسغه، وهو مدعي الألوهية، وزاعم الربوبية، فسألهم في تلك اللحظة عن حقيقة ذلك السجود، وهل هذا يعني اجترائهم على مقامه، وأن أنفسهم سولت لهم أن يؤمنوا بإله غيره قبل أن يأذن لهم.
في تلك اللحظات؛ وبالحسابات المادية العاجلة، ربما يكون الحل المؤدي للنجاة الدنيوية أن ينكروا ذلك، وأن يزعموا ولو تقية أنهم لم يزالوا على دينه، لكن الصواب في تقديرهم ساعة المفاصلة، وأوان الصدع، ولحظة الاعتراف، بإعجاز الآية التي جاءهم بها موسى، لم يكن الإنكار، بل كان الصدق والاستعلان بما هم عليه من الحق، ولقد فعلوا؛ {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
ثم كانت العقوبة، وقُضي عليهم في الحياة الدنيا، وقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبوا في جذوع النخل، بمعيار العاجلة لم يكن ما فعلوه هو الحل، ولم يكن ذهاب سيدنا موسى إلى فرعون حلًا لطغيانه، وادعائه الألوهية، بل لقد استمر على ذلك حتى موته، ومع ذلك فإنهم قالوا وفعلوا ما كان واجبًا عليهم؛ وهو المحاولة حتى وإن كان ثمنها أذى يحيق بهم، أو حتى يكلفهم حياتهم.
ولو أن كل فاضلٍ عبر العصور أحبط ويأس، وركن إلى الكسل حين أُغلقت طرق الحل العاجل في وجهه، أو تعقد واقعه، فلم يشهد فتحًا في حياته، ولم ير نصرًا آنيًا ناتجًا عن سعيه؛ لما أُحق حقٌ، ولا صدع به صادع، ولما أُبطل باطل، ولركن الخلق للشرّ، ولاندثرت المفاهيم، وغابت الأصول.
لكن أفاضل الخلق على مر العصور فهموا حقيقة الأمر، واستعانوا بربهم، ولم يعجزوا، وساروا في طرائق الحل، وسلكوا سبل المحاولة، وإن لم يروا في حياتهم عاجل الثمرة.
وإن من الأنبياء لمن يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان، فقط هم من آمنوا به، بل ومنهم من يأتى ليس معه أحد.
ولا يشترط أن يكون الحل الذي وصلت إليه هو الحل الكامل، والتصور الجامع المانع، لو أنك تواضعت قليلًا ورأيت احتمالية أن تكون جزءًا من الحل، أو تعزيزًا وتعضيدًا لحلول غيرك؛ لكان خيرًا لك، لقد أرسل الله إلى قرية رسولين فلما كذبوهما عزز الله بثالث، {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} [يس:14].
تأمل مرة أخرى اللفظ القرآني {فَعَزَّزْنَا}، عادي جدًا وليس بها أي شيء، ولا ينقص من قدرك، ولا من قدر من تحب أن تكونوا فقط تعزيزات، أن تكون جزءًا من الحل، والحلول قد تتنوع.
وإن الاجتهاد الذي وصلت أنت من خلاله إلى حل، أو وصل من تتبعهم إلى كونه حلًا، لا يشترط أن يكون هو الحل الوحيد، والحق الحصري الذي لا ينبغي لأحد أن يخرج عنه أحد، أو يجرؤ على مخالفته مخلوق.
من الممكن جدًا أن يصل غيرك إلى حلول أفضل، وأن يفهم ما لم تفهمه، وهذا لا يقلل من شأنك، كما لم يقلل من شأن نبي الله داود عليه السلام؛ أن فَهِمَ ولده نبي الله سليمان فهما أصوب من فهمه؛ {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79].
فإن اجتهد إنسان لوضع تصور كامل لحل عاجل جامع فهذا حسن ومطلوب، لكن إن لم يستطع إدراك ذلك التصور الجامع، والحل العاجل، فالصواب ألا يركن لذلك، ويظن أنه ليس مكلفًا بشيء.
عليه أن يفعل ما يجب عليه فعله.
أن يسعى.
وأن يحاول.
فالمحاولة هي التكليف، وإن لم تكن هي دائمًا الحل.