(3) البداية الموسعة والنهاية المفتوحة
عبد الله صالح العريني
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
1- قصة آدم عليه السلام:
تظلُّ الإنسانية في لهفة لمعرفة بداية وجودها، ويذهب الباحثون في أصل الإنسان كلَّ مذهب في تخيُّل صورة الإنسان الأول، وكيفية وجوده، ولكن الأدوات التي يملكونها أضعفُ من أن تُوصل إلى الرأي اليقين، ويظلُّ أولئك يقذفون بالغيب من مكان بعيد (انظر: الموسوعة العربية العالمية: [3/230 - 234]، ط1، الرياض: مؤسسة أعمال الموسوعة، 1416هـ)، فيما يكرم الله تعالى عبادَه المؤمنين بتعريفهم ببداية الخلق في تفصيل وبيان مدهشين يشفيان الغليل، ويحس المؤمن أنه قد أمسك بطرف خيط الموضوع.
فقد سجل القرآن الكريم بداية آدم أبي البشر التي تمثِّل البداية الحقيقية للإنسان: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
إن الآيات السابقة لا توقفنا على بداية آدم عليه السلام فحسب؛ ولكنها تطلعنا على الظروف التي أحاطتْ بها، فتسجل الآياتُ حوارًا في الملأ الأعلى بين الله عزَّ وجلَّ وملائكته، بشأن ذلك المخلوق الجديد الذي سوف يسكن الأرض، وحين يخلق الله تعالى آدمَ، يأمر الملائكة بالسجود فتسجد، ويأبى إبليس أن يسجد؛ استكبارًا وحسدًا: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].
وتتوالى الأحداث في البداية في تتابُعٍ موجز، ودقة متناهية، تشهد بالإعجاز البياني في القرآن.
ويدْعو الله تعالى آدم أن يسكن الجنة، وينهاه عن الأكل من شجرةٍ معينة؛ امتحانًا وابتلاءً له، {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36].
فبداية القصة تتضمَّن التشويق والإثارة من خلال ذلك الخبر الذي أخبر به المولى عزَّ وجلَّ ثم نجد صداه يرفع مستوى ذلك التشويقِ وتلك الإثارة، بسؤال الملائكة، الذي يكشف عن خوفها من الله تعالى وكمال فضله، فكأنها -وهي على ما هي عليه من العبادة- تخشى أن تكون قد قصَّرت في طاعة ربها، "فسؤالها سؤال استكشاف، وليس سؤال استنكار" (انظر: توضيح العلماء لطبيعة هذا السؤال، النبوة والأنبياء: 124، لمحمد علي الصابوني، الرياض: عالم الكتب).
فقد عصَمَهم الله تعالى ممَّا يتلبَّس به الإنسان من المعصية والحسد، وتنتهي القصة بمشهد آدمَ وحواءَ يستغفرانِ ربَّهما، ويعترفان بذنبهما، فقد خُيِّر إبليس فاختار الإنظار على التوبة، فكان جزاؤه اللعن والطرد من رحمة الله، وخُيِّر آدم فاختار التوبة، ووقف مع زوجه موقف المنيب، الراجي لفضل الله وكرمه، الذي يشعر بأنه لا منجا ولا ملجأ من الله إلا إليه {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
وموقف التوبة فيه تزكيةٌ وتطهير، فإن الأعمال بخواتيمها، وكما بدأت القصة بمظهر التكريم المشتمِل على خلق آدم وسجود الملائكة له، فقد انتهتْ بنهاية يؤوب فيها آدم وحواء إلى الله - تعالى - نادمينِ معترفين بخطئهما {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37].
ويفيد تكرار الأمر بالهبوط في قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة:38]، بعد قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36]؛ لئلا يظن أن التوبة ألغت الأمرَ الأول بالهبوط (آدم - عليه السلام - كما تحدث القرآن الكريم، 77).
فنحن من خلال هذه النهاية نرى شريط الأحداث يتوقَّف عند هذا الموقف؛ لأنه الموقف الأهم، وتظل نهاية الشخصيات غير مقصودة؛ لأن عنصر الحدث هو العنصر البارز، فالحياة لم تنتهِ من خلال هذه النهاية؛ ولذا لم يُشِر إلى نهاية الشخصيات، وإنما الذي انتهى فقط هي مرحلة من مراحل تلك الحياة، فالنهاية لتلك، بداية لمرحلة أخرى تستمر لدى آدم وذريته إلى قيام الساعة، إنها نهاية مفتوحة، وكأنما التحدي الذي عاشه آدم عليه السلام سيتكرر بصورة، أو أخرى، لدى كلِّ أبنائه من خلال الالتزام بهدي الله تعالى أو الإعراض عنه {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38].
فأمام آدم وبنيه طريقان لا ثالث لهما: إيمان أو كفر، هدى أو شقاء، فلاح أو خسران (قصص القرآن، محمد جاد المولى، 9)، ويستمرُّ النداء الإلهي الكريم داعيًا إلى اتِّباع هدى الله؛ لأن ذلك وحده هو الذي يعصم الإنسانَ من الضلال والشقاء، ويقيه النارَ، ويُدخِله برحمة الله الجنة، وبذا يظلُّ صدى ذلك النداء باقيًا مدى الدهر.
ويُوازِن الأستاذ سيد قطب بين نهاية قصة آدم كما وردت في القرآن بجعل الهبوط والاستغفار آخِر القصة، وكما وردت في التوراة، فيرى أن ختام القصة في القرآن قد تحقَّق فيه المستوى الإبداعيُّ الرائع، الذي ترك نهاية القصة مفتوحة للخيال؛ لتذهب في تصور آدم وزوجه في الأرض غريبين لم يعرفَا أقطارَها، ولم يتعوَّدا حياتها، وليس لهما من خبرة بالمعاش فيها، إلى آخر ما يتملاه الخيال من مشاهِدَ وفروضٍ (التصوير الفني في القرآن، 176).
إن الامتحان الذي خاضه آدمُ عليه السلام سيخوضه أبناؤه، ويتعرضون لمثل ما تعرَّض له من إغراء الشيطان وفتنته، فالقصة نفسُها تتكرَّر في البشر إلى قيام الساعة، وتغدو المحرَّمات التي حرَّمها الله تعالى على عباده ونهاهم عنها، المعادلَ الموضوعي لتلك الشجرةِ التي نُهِيَ آدم عليه السلام عن الأكل منها، ويتمحض الناس إلى فريقين:
فريق يطيع الله عزَّ وجلَّ ويعصي الشيطان، فيكون جزاؤه الجنة، وفريق يعصي الله عزَّ وجلَّ ويطيع الشيطان، فيكون جزاؤه جهنم والعياذ بالله.
2- قصة عيسى عليه السلام:
ومن قصص القرآن التي تبدأ بداية موسَّعة وتنتهي بنهاية مفتوحة، قصةُ عيسى عليه السلام التي تبدأ بقصة أخرى، هي قصة مريم عليها السلام وأمها امرأة عمران المرأةُ الكريمة في الأسرة الكريمة، التي اصطفاها الله على العالمين؛ فهي بيئة طيبة تمثِّل الطُّهرَ والعفاف والنقاء في أجلِّ صوره ومظاهره.
فتنذر امرأةُ عمرانَ لله تعالى ما في بطنها، وحينما تضع مولودَها تفاجأ بأنها أنثى، ولكنها مع ذلك تظل وفيةً بنذرها، وتنشأ مريم عليها السلام في كفالة زكريا على خير ما تنشأ عليه الفتاةُ المؤمنة الكريمة، ويصطفيها الله عزَّ وجلَّ لتكون أمًّا لعيسى عليه السلام ثم تتتابع التفصيلات الدقيقة لحقيقة ما جرى بعد ذلك حيث يرسل الروح القدس.
وتمضي قصة مريم في أحداث صاعدة، كلُّ حدث أقوى إثارةً من سابقه، بدءًا من رؤيتها الروحَ القدس ونفخه فيها من روح الله، وحتى تضع حملها، فتقول في لهفة: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23]، فكيف ستواجه قومَها؟ وأنَّى لهم أن يصدِّقوا أنها ما زالتْ عفيفة طاهرة، ومعها هذا المولود؟ ثم تنزل عليها السكينةُ والطمأنينة، فتأكل وتشرب، وتقرُّ عينًا، ويذهب روعها، وتعلم أن ما حدث آيَة معجزة فضَّلها بها الله تعالى ولن يخذلها؛ فهي دليل فضلٍ وكرم، ولن يخذلها الله عزَّ وجلَّ.
وتنتقل الدهشة إليهم، فيسألون في تعجب واستنكار: {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:27-28]، إن الهزَّة لتطلق ألسنتهم بالسخرية والتهكُّم على (أخت هارون)، وفي تذكيرها بهذه الأخوَّة ما فيه من مفارقة، فهذه حادثة في هذا البيت لا سابقة لها، ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغيًّا، فأشارت إليه، ويبدو أنها كانت مطمئنَّة لتكرار المعجزة هنا، أمَّا همْ، فما عسى أن نقول في العجب الذي يساورهم، والسخرية التي تجيش بها نفوسهم، وهم يرَوْن عذراء تواجههم بطفل، ثم تتبجح فتشير إليه، ليسألوه عن سرِّها {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم:29] (التصوير الفني في القرآن، 198).
وفي مشهدٍ مثير تكلَّم ذلك الغلام مُبعِدًا كلَّ شائبةِ نقصٍ تلحق بوالدته، ومظهرًا كرامتَها عند ربها {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا . وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا . وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا . وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:30-33].
ويصبح دليل الاتِّهام نفسُه دليلَ البراءة، والتأييد الرباني الذي جعل من تلك البراءة حقيقةً من الحقائق العظمى في تاريخ الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم ولأن المهم في مجال بحثنا هو الحديث عن البداية والنهاية فحسب؛ فإننا سنطوي الذِّكر صفحًا عن تفاصيل حياة المسيح عليه السلام لنقف على آخر مشهد في حياته، وهو مشهد مؤامرة اليهود لقتله وصلبه، أو ما بدَا للمتآمِرين أنهم قد قتلوه عليه السلام في حين أن الذي قُتل هو شبيهه، أما عيسى عليه السلام فقد رفعه الله إليه {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157].
وقد تداخلتْ في نهاية هذه القصةِ الدنيا مع الآخرة على نحو لا نشهده في أيِّ قصة أخرى، فنهايتها الأولى تتضمَّن اختفاء (البطل) بانسحاب مؤقت عن مسرح الأحداث، ويظلُّ غير المؤمنين في حيرة من أمرهم، ويختلفون في موته كشأن اختلافهم في مولده.
هذه هي النهاية الأولى في الدنيا، ولكنها لا تمثِّل خاتمة المطاف؛ بل تنقلنا القصةُ لتصوُّر عيسى عليه السلام يقف يوم القيامة على رؤوس الأشهاد متبرئًا من الذين اتخذوه وأمَّه إلهين من دون الله، وهي خاتمة تسجِّل ضلال الذين عبدوا عيسى عليه السلام وتؤكِّد أنه هو نفسه لا يرضى بذلك، فهو عبد الله ورسوله، فضلاً أن يكون قد أمرهم بذلك؛ إنما كان قوله لهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117].
وبذا يسقط في يد كلِّ الذين أشركوا به، ويعلمون أنهم قد ضلَّ ضلالهم: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ . مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ . إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:116-118].
إنها نهاية تبعث على الرهبة في ذلك اليوم المشهود، وفي خطاب المولى عزَّ وجلَّ لعبدِه عيسى عليه السلام وفي تبرُّؤ الرسول من الذين أشركوا به، مؤكدًا أنه قد بلَّغ الرسالة، وكان شهيدًا عليهم طوال وجوده معهم، ثم يَكِلُ الأمر كلَّه لله عزَّ وجلَّ إن شاء عذَّبهم، وإن شاء غفر لهم، فالكل عبيده سبحانه وتعالى.