وعرفتُ السبب
عبد الله صالح العريني
الدُّموع تطلُّ من محاجر عُيونهم، وأنا لا أستطيعُ أنْ أتحمَّل هذا المنظر، هم يريدون أنْ أشتريَه، وأنا لا أملك النُّقود الكافية، وراتبي المتواضع لا يُحقِّق الحدَّ الأدنى من الحاجات، فكيف لي أنْ أشتري خَروفًا للأضحية وثمنه يُساوي نصفَ راتبي؟! وكم سيكونُ راتب (ساعٍ) في دائرة حكوميَّة؟!
- التصنيفات: قصص مؤثرة -
الدُّموع تطلُّ من محاجر عُيونهم، وأنا لا أستطيعُ أنْ أتحمَّل هذا المنظر، هم يريدون أنْ أشتريَه، وأنا لا أملك النُّقود الكافية، وراتبي المتواضع لا يُحقِّق الحدَّ الأدنى من الحاجات، فكيف لي أنْ أشتري خَروفًا للأضحية وثمنه يُساوي نصفَ راتبي؟! وكم سيكونُ راتب (ساعٍ) في دائرة حكوميَّة؟!
أمُّ العيال سامحها الله تعرفُ الحال، وتعرفُ (البير وغطاه)، ومع ذلك وقفتْ في صفِّهم، هكذا هنَّ النساء! فأصبحتْ تُساعِدهم في إقناعي لأشتري الأضحية، وتترجَّى، وتلحُّ مثلما يترجَّون ويلحُّون، وتزيدُ عليهم أنها تُبينُ لي فضلَ الأضحية، والأجر العظيم في دمها وكلِّ شَعرةٍ من شَعرِها، سبحان الله! وهل أنا بحاجةٍ لِمَن تُخبرني بفَضلِها وأجرِها؟!
آه! لو كنت أمتلكُ المالَ اللازم، لما أحوَجتُهم إلى هذا الترجِّي والاستِعطاف الذي يلينُ القلبَ القاسي.
ملابس العِيد يلبَسُونها، آه! لو عَلِموا كم تعبتُ وتعبتُ من أجل أنْ أشتريَها لهم! وحلوى العيد هي الأخرى اشتريتُها وأنا أترحَّم على كلِّ ريالٍ دفعتُه من أجلها؛ لأنَّها مهما كانت فهي حَلوى، مجرَّد حلوى، وعندنا حاجاتٌ ضروريَّة أهمُّ منها.
طلَبُهم ما زال مستمرًّا، والإلحاحُ ما زال مُتواصلاً، ماذا أفعل يا ربي؟!
وانتقَلَ أولادي وزوجتي إلى مرحلة الصِّياح والبُكاء، فلم أعدْ أحتمل، قلت في نفسي: إلا هذه الدموع، وإلا هذا البكاء؛ فهو نقطة ضعفي، أنا مثل أيِّ أب في هذه الدُّنيا لا يحتمل منظرَ أولاده يبكون!
وواصَلتْ أمُّ العيال إلحاحَها، وكانت تُردِّدُ: "تستطيع أنْ تتدبَّر قيمةَ الخروف لو أردت، والأضحية لا تكون إلا مرَّةً في السَّنة! فتحمل معنا، الله يجزيك عنَّا كلَّ خير".
أحسَستُ أنها تقول: إنَّك بخيل! وللحقِّ فهي لم تقلْ ذلك صَراحةً، لكن مضمون كلامها يدلُّ على هذه التُّهمة التي أنا بريء منها، ولماذا لا تقول: إنَّك بخيل وتخلصنا؟
وتذكَّرتُ المثَل الذي يقول: "المرأة والطفل الصغير يحسَبُون الرجل على كلِّ شيء قدير"! فترحَّمتُ على قائل هذا المثَل، ودعوتُ الله تعالى أنْ يسقِيَ قبرَه شَآبيب رحمتِه.
قلت لزوجتي وأولادي: "لا تظنُّوا بي ظَنَّ السوء، لا تظنُّوا أنِّي لا أشتري لكم الأضحية بخلاً منِّي، لكن صَدِّقوني أنا لا أَجِدُ واللهِ ثمنَها، والله يعلمُ الحال والمُشتَكى!".
لكنَّ كلامي لم يَزِدْهُم إلا تصلُّبًا في الرأي، هكذا هم وأمُّهم إذا وضعوا في رؤوسهم شيئًا، فلن يقبَلُوا بالتخلِّي عنه، وأنا لا أتحمَّلُ منظرَ العيون الباكية، والشَّهقات المتواصلة، والبُكاء المكتوم، هذه الأشياء تجعلُني ضعيفًا، مهزومًا أمامَ جيشِ المشاعرِ الزاحف باتِّجاه شَخصي الضعيف.
ولأنَّ اعتِذاراتي تذهَبُ أدراجَ الرياح، ولأنَّ ما أقول لا يجدُ آذانًا واعية، ولأنَّ أعصابي لا تستطيعُ أنْ تتحمَّل المزيد رأيت أنْ أخرُجَ من منزلي، وهكذا خرجت دون أنْ تكون لي وجهةٌ محدَّدة، كان الخروج بالنسبة لي هدفًا بحدِّ ذاته.
ركبت سيارة النقل المتواضعة، التي اشتريتُها بالتقسيط، ولم أُسدِّد كاملَ قيمتِها حتى الآن.
لا أحدَ يفرجُ كُربتي إلا الله، فهو الذي يملكُ مُساعَدتي في هذه الأزمة، قلت: "يا إلهي، أنت أعلمُ بحالي، وأنا ما حبستُ عنهم شيئًا، وكيف أبخلُ على أولادي في شيءٍ أنا أعلَمُ منهم بفضلِه وضَرورتِه؟! لو وجدت إليه سبيلاً! كيف أرضى أنْ يُحرَم أبنائي من لحم الضَّأن الشهيِّ، وجيراننا عن اليمين والشِّمال يذبَحُون الآن أضاحيهم، ودِماؤها تخرُج من منازلهم؟!".
وسِرتُ قليلاً في الشارع الرئيس بالمدينة المنوَّرة، وفجأةً ومضَتْ فكرة في عقلي؟ لِمَ لا أذهب باتِّجاه المسجد النبوي الشريف، هذه البقعة المضيئة على سطح الأرض، راودَتْنِي فكرة أنْ أدعوَ الله وأُلِحَّ في الدعاء وأنْ أبكي بين يديه، لقد كنتُ عصيَّ الدَّمع أمامَ أبنائي وزوجتي، أتظاهَرُ بالتجلُّد والتماسُك، لكنَّ الأمرَ يختلفُ بين يدي الله، فكلُّ الخلْق بين يديه أضعفُ الضُّعَفاء، وهو وحدَه تعالى يملكُ إعطائي ما أريدُ، وعنده خَزائن السموات والأرض، ويَداه مبسوطتان لا تغيضُهما النَّفقة، وأنا بحاجةٍ إلى خَروف العيد، وأعجبَتْني الفكرة، وانشَرَح صَدري لها، ففاضَتْ بالسَّكينة نفسي، شعرت أنَّني أنا المقصِّر حين لا أضعُ حاجاتي بين يدي أرحَمِ الراحمين، وأكرَمِ الأكرمين.
حين وصَلتُ المنطقة المركزيَّة المحيطة بالحرَم الشريف، أوقفَتُ سيارتي في مواقف المسجد النبوي، وذهبت، فتوضَّأت، أحسَست بنشاطٍ، شعرت بارتعاشٍ لذيذٍ من بُرودة الماء والجوِّ.
وحين انضمَمْتُ إلى جُموع المصلِّين، شعرت بأطياف الملائكة تشهدُ الصلاة معنا، وتستغفر لنا، وتُؤمِّن على دعائنا، صورة زوجتي وأبنائي لم تبرحْ مخيلتي:
ترى؛ أمَا زالوا يُواصلون البكاءَ؟! أمَا زالوا يطمَعُون في أضحية، ينعمون بلحمها وشحمها كما ينعمُ الجيران من حولهم؟!
بدَا لي خروفُ العيد شيئًا كبيرًا، ملأ نفسي، وخَيالي، ومشاعري، وأصبح هو سؤالي، ورجائي، وهو كل دعائي، لم أعدْ أُفكِّر إلا فيه، ولا أسأل إلا عنه، ولا أطلبُ شيئًا غيره.
بعد الصلاة ركبت سيارتي، وخرجتُ من المنطقة المركزيَّة حول الحرَم إلى شارعٍ متفرِّعٍ، ثم إلى شارعٍ رئيسٍ، عند الإشارة كانت بجانبي سيارةٌ صغيرة من النوع الياباني، في مقدمتها السائق وامرأةٌ بجانبِه.
أشارَ لي السائق بيَدِه عرفت من إشارته أنَّه سيقفُ ويريد أنْ أقفَ خلفَه في أوَّل فُرصةٍ، تركتُه يتقدَّمني وأنا خلفَه، ثم حصَل ما توقَّعتُه؛ فقد وقَف غير بعيدٍ، فوقفتُ خلفه، نزَل من سيارته وجاءَ إليَّ وأنا ما زلتُ في سيارتي، فقال دون مقدمات: "أتريد لحمًا؟".
رددت بلهفة: "نعم!".
لم يدعني أكمل حديثي، سارَعَ إلى صندوق سيارته ففتَحَه وقال: "خُذْ".
ونظرتُ فتملَّكتني الدهشة؛ خروف كامل مذبوح وملفوف بقماش أبيض نظيف! لم أُصدِّق ما أرى! لبثتُ برهةً لا أدري أأنا في حلمٍ أم في حقيقة؟ ومددت يدي بارتعاشٍ نحو الخروف، رحتُ أتحسَّسُه بأطراف أصابعي، وأنا لا أكادُ أُصدِّقُ ما أرى، وكأنَّني في حلمٍ، وجدت الخروف سمينًا مكتنزًا شحمًا ولحمًا، ساعدَنِي الرجل على حملِه ووضَعَه في سيارتي، وأنا بين مُصدِّق ومُكذِّب، قلت بتلعثُم: "جزاكَ الله خيرًا، الله يتقبَّل منك، ويرحم موتانا وموتاكم وموتى المسلمين، ويخلفُ عليكَ بالبركة".
ردَّ بعباراتٍ سريعة، لم أسمعْ أيَّ واحدةٍ منها، فقد كنت في عالمٍ آخَر، ثم ركب سيَّارته وهمَّ بالتحرُّك، بل تحرَّكت سيارته بالفعل حركةً بسيطة، سار بضعة أمتار فقط، ثم توقَّف ونزَل من السيارة، وجاء باتِّجاهي، وقال: "تعالَ؛ الوالدة تريد أن تُكلِّمك".
حين اقتربتُ من سيارتهم، وجدتُ امرأةً مُتدثِّرة بعَباءتها، واضحٌ من جلستها وهيئتها أنها امرأةٌ كبيرة في السن، هي إذًا والدته، قالت: "يا ولدي، هل أنت من أهل الزكاة؟"
"نعم يا خالة".
"أكيد؟!"
"أكيد، والله لديَّ (كوم) عيال، لا عائلَ لهم بعد الله إلا أنا، وأنا مثلما ترَيْنَ".
"عندي مبلغٌ من المال هو زكاة، إنْ كنت لست من أهلها، فلا تظلمْ نفسك بأخْذه".
"بل أنا من أهل الزكاة، ثِقِي أنها وقعَتْ موقعَها - إن شاء الله".
"المبلغ عندي في البيت، فامشِ خلفَنا يا ولدي حتى نصلَ البيت وأسلمك إيَّاه".
"حاضر، حاضر، يا خالة. الله يجزيك خيرًا".
وسرتُ بسيارتي خلفَ سيَّارتهم، قلتُ في نفسي: "يا سلام! فُرِجت وكنت أظنُّها لا تُفرَج"، ورحتُ أتخيَّلُ فرحةَ أبنائي بهذا الذي أحضرتُه، سأضعُ بين أيديهم هذا الحروف كاملاً غير منقوصٍ، ثم أترك لأم العيال أنْ تقوم بالباقي، ستُوزِّعه كما تشاءُ، تطبخ منه ما تريد، وتدَّخر منه ما تريد، حسنًا، ستشبعون يا أبنائي لحمًا وشحمًا، لن يكون أبناء الجيران خيرًا منكم، ثم قفزتْ لذهني صُورة النُّقود التي سوف تعطيني المرأةُ الكريمة.
ترى كم ستُعطِيني ألفًا، ألفين، ثلاثة، أربعة؟ وربما أكثر؛ فلا بُدَّ أنَّ زكاتها كبيرة، وإلا لما بحثَتْ عمَّن يستحقُّها، وحلفتني كلَّ تلك الأيمان، سوف أعودُ بخروفٍ يراه أفراد عائلتي، ومبلغٍ كبيرٍ من المال سوف أُخفِيه عن الجميع حتى عن أمِّ العيال، وأجعلُه للضَّروريَّات، وأنفق منه كلَّما ضاقَتْ بي الدنيا.
سِرتُ بسيارتي خلفَ سيارتهم تمامًا وكأنها مُلتصِقة بها! لكنَّني طوال الطريق لم أستطعْ طرْد خيالاتٍ كثيرة من عقلي، تلك الخيالات التي جعلَتْني أسهو وأغفل مرَّات مُتعدِّدة، فأخرُج عن مَساري في الطريق، بل كدت أصطدمُ بسيارةٍ مرَّت بحانبي، وسمعت أكثرَ من شخص يقول لي:
"انتبه يا (هوه)!"
"الشارع ليس لك وحدَك!"
"اذهب واشبَعْ نومًا ثم تعالَ سُقْ سيارتك الـ(...)!"
كنت أنتبهُ من شُرودي ثم أعودُ لأُركِّز على الطريق، خلفَ سيارة الرجل وأمه، وهكذا، إشارة بعد إشارة، وطريقًا بعد طريقٍ، والأحلام تملأ نفسي، لا أكاد أصدِّق؛ كيف سيكونُ شُعوري عندما أتسلَّمُ المبلغ الكبير الذي وعدَتْني به المرأة الكريمة؟!
وأفقتُ من شُرودي فجأةً، في منطقةٍ شديدةِ الازدحام عند إشارات المرور، وصُعِقتُ لأنَّ السيارة التي أمامي ليست هي السيارة التي أريدُ! ضاعَتْ سيارتهم في الزحام، ابتلعَتْها شوارع المدينة المنوَّرة، لا بُدَّ أنَّني اختلفتُ معهم في مكانٍ ما في هذه الطُّرق المزدحمة فغابَتْ عن ناظري، وغابَ معها حلمي الكبير بالمال الوفير.
التفتُّ يمينًا وشمالاً، التفتُّ في الاتِّجاهات كلها، فلم أرَ لسيارة الرجل ووالدته أيَّ أثَر، عدتُ إلى المكان الذي قابَلتُهم فيه أوَّل مرَّة، وسرتُ في كلِّ الطُّرق التي تبعتُهم فيها، ولكن لا فائدة! كأنما الأرض انشقَّت واحتوَتْهم! تمنَّيت لو عرفتُ رقم هاتف الرجل، أو رقم جوَّاله، أو شيئًا يدلُّني على منزله لأذهب إليه، ولكن لا شيء من ذلك أبدًا، فكما ظهَر أمامي فجأةً ها هو ذا يغيبُ عنِّي فجأةً.
وعندما يئستُ من العثور عليهم، عُدت إلى منزلي، ومعي الخروف المذبوح، كنت نصفَ فرحٍ ونصفَ حزين، ربحت خروف الأضحية الذي تمنيت، وخسرتُ مبلغًا كبيرًا كنت على وشْك امتلاكه.
دفعت الخروف الشهيَّ إلى أبنائي وزوجتي، فتعالَتْ صيحات الفرح، وأشرقَتْ وجوههم بالبِشر والسُّرور.
أمَّا أنا، فلم أستطعْ أبدًا أنْ أنسى الفرصة السانحة للحصول على مالٍ وفير، تلك الفرصة التي تحوَّلتْ إلى غصَّة كلَّما ذكرتها.
وفي غمرة فرحي وحُزني وتَساؤلاتي كيف ضاعت عليَّ الفرصة؟
هل يمكن أنْ أرى ذلك الرجل ووالدته مرَّةً أخرى؟
ومضت في خاطري فكرة.
وكأنما وضعتُ يدي على السبب الحقيقي؛ فقد تأكَّدتُ أنَّني لن أجدَهم أبدًا! وأنَّني لن أحصلَ على النُّقود التي وعدَتْني بها المرأة، لم أعدْ أشكُّ في أنَّني عرفت السببَ في فَوات ذلك الخير عليَّ، نعم؛ أنا السبب، وأنا الذي بخلتُ على نفسي يومَ لم أطلبْ ممَّن يملك خزائن السموات والأرض سبحانه، لم أطلبْ من فضله العظيم، لم أطلبْ منه إلا خروفًا، خروفًا فقط، فأعطاني ما طلبتُ!