محبة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بين العادة والعبادة
لكن الأدهى والأمرّ ما تمّ ابتداعه من أشكال حديثة في عصرنا من خلال ما يسمونه (فنًا إسلاميًا)، يعرض السيرة النبوية من خلال المسلسلات والأفلام الدينية، بأساليب تتنافى وقيمنا الإسلامية، ومن قِبَل أشخاص فقدوا كل (مصداقية).
كثير من العبادات حين تفقد روحها تغدو مجرد عادات استأنست النفس بها وباتت تشعر بالحرج في التخلي عنها، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم غدَا للأسف من هذا القبيل، فكل مسلم يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن قليل من يفِي بحقّ هذا الحب، وما يلزمه من اتباع دون ابتداع.
إن صورة الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال محمد قطب تعاني: "في قلوب مسلمي اليوم عزلة وجدانية عميقة، حيث أضحى حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم قابعًا في نفوسهم، دون أن يكون له ذاك التأثير الذي كان للسلف الصالح، ودون أن يتجسد بكل مقوماته في حياتنا اليومية".
وقد بسط محمد قطب بعض الأسباب التاريخية لهذه العزلة في كتابه القيم (قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم) فقال: "في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكن هناك حديث عن العزلة، لقرب العهد بالرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت ذكراه لا زالت حيّة في نفوسهم، وتعاليمه وأقواله لا زالت دستور حياتهم، فاستمر بذلك إحساس المسلمين بوجود الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم وإنْ غابت عنهم ذاته الشريفة.
ثم جاء عهد عثمان رضي الله عنه فسار على منوال صاحبَيه ما استطاع، لكن سرعان ما أطلت الفتنة مُنذرة بتمزيق واهتزاز في وسط الأمة، فبدأ الناس يشعرون بافتراق الطريق، وأخذت الصورة المتكاملة للرسول صلى الله عليه سلم تنحسر شيئًا فشيئًا إلى داخل النفوس، بعد أن كانت ملْء النفوس، وملْء الحياة في ذات الوقت، وبتوالي الأحداث وتتابع الفتن بدأت تتسع الهوة بين واقع الأمة المشهود، وبين تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدأت معها صورة الرسول صلى الله عليه وسلم تبتعد عن واقع المسلمين، وتنحسر في قلوبهم ووجدانهم بشكل سلبي، وتأبى أن تغير الواقع المريض والشرور المتفاقمة.
إلا أن العزلة التامة والمخيفة تمت وبسطت سمومها منذ أن بعُد الحكم والمجتمع كلاهما عن الإسلام، وصارَا تابعين للغرب، يسيرا وفق ما شاء، فغدَا المجتمع صورة متحللة فاسدة، لا هي إسلامية كما كانت، ولا هي نسيجٌ واحد متميز، وإنما هي مسخ مشوه لا وحدة له ولا كيان.
وهنا ويا للأسف والضياع الجسيم لم يعد الرسول صلى الله عليه وسلم موجودًا في واقع الحياة، لم يعد كيانًا شاخصًا بتعاليمه وتوجيهاته، وانحصر في مشاعر الناس، وغدَا صورة مثالية يطالعها الناس لكن لا ينفعلون بها".
وسط هذه العزلة سعى المسلمون لبعث الحياة في هذا الحب والتعبير عنه بصور شتى مبتدعة بعضها استحسنه العلماء، والبعض الآخر كان أقرب للضلالة منه إلى الهدى، ومن هذه الصور الاحتفال بذكرى ميلاده صلى الله عليه وسلم، والذي أضحى عيدًا سنويًا استحسنه بعض السلف كالإمام (أبو شامة) شيخ الإمام (النووي) الذي قال: "ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء مُشعر بمحبته صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه في قلب فاعل ذلك، وشكر الله على ما منّ به من إيجاد رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين".
لكن كما هو ملاحظ اليوم؛ فحتى هذه البدعة وإن استحسنت من قبل فإنها اليوم تبدو قد أُفرغت من دلالتها، لأن الذكرى أضحت فرصة للاحتفالات غير الشرعية؛ حيث التبذير والإسراف في الحفلات، وبدعٌ في الدين ما أنزل الله بها من سلطان.
من الأمور المبتدعة كذلك في التعبير عن محبته صلى الله عليه وسلم ، ما جرت عليه عادة كثير من الناس في القيام عند ذكره صلى الله عليه وسلم تعظيمًا له، وهذا القيام كما قال برهان الدين الحلبي: "بدعة لا أصل لها، لكنْ هي بدعة حسنة"، وقد وُجد القيام عند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم من الإمام تقي الدين السبكي، وتابعه على ذلك مشايخ الإسلام في عصره، فقد حكى بعضهم أن الإمام السبكي اجتمع عنده كثير من علماء عصره، فأنشد منشد قول الصرصري في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم:
قليلٌ لمدح المصطفى الخط بالذهب ... على ورقٍ من خطِّ أحسن من كتب
وأن تنهض الأشراف عند سماعه ... قياما صفوفا أو جثيًا على الركب
فعند ذلك قام الإمام السبكي وجميع من في المجلس، فحصل أنس كبير بذلك المجلس كما ذكر برهان الدين الحلبي في السيرة الحلبية
وغني عن الذكر فعل الصوفية في هذا الباب وما ابتدعوه من سبل للتعبير عن مقام الحب.
إذ الحب عندهم فناء المحب في المحبوب، ولما ادعوا سَفَهًا الاتحاد بالله والفناء فيه، لم يستعصِ عليهم القول بالاتحاد بالرسول صلى الله عليه سلم والفناء فيه بدعوى محبته، فلا يكفي في نظرهم تقليد الرسول صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأخلاقه، بل تاقت نفوسهم إلى دوام حضوره معهم، لذا يدعي المريدون رؤيته في شتى الصور؛ في النوم واليقظة، ورؤيته في المنام من الأمور العادية في الحياة الصوفية.
ولهم طرق خاصة في التعبير عن المحبة؛ كإقامة حلقات الذكر، وما يصحبها من تعذيب للبدن، أو حبس للنفس، وغير ذلك من الأمور التي تجعل الصوفي يفقد الشعور تدريجيًا، ويقع في حالة تشبه الغيبوبة، وأحيانًا يصاحب حفلات الذكر الموسيقى والغناء، وتتدرج هذه الطرق حتى تصل إلى درجة الفناء، حيث يبطل شعور المتصوف بكل ما حوله، و يخيل إليه أنه قد اتحد بمحبوبه، ولعل المتفحص اللبيب يستطيع أن يجزم بغلو هذه الطائفة، وبُعْدِ طقوسها عن النهج المحمدي القويم.
لكن الأدهى والأمرّ ما تمّ ابتداعه من أشكال حديثة في عصرنا من خلال ما يسمونه (فنًا إسلاميًا)، يعرض السيرة النبوية من خلال المسلسلات والأفلام الدينية، بأساليب تتنافى وقيمنا الإسلامية، ومن قِبَل أشخاص فقدوا كل (مصداقية).
إن ما حدث ويحدث -كما يقول محمد قطب- ليعتبر جرمًا عظيمًا وزيغًا عمَّا أراده الله عز وجل للبشرية، إن الله سبحانه وتعالى لما أوجب محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم أراد بها تلك المحبة الإيجابية المثمرة، التي تخفق بذكر المحبوب، لكن أيضًا ترفض سجنه في قفص وجدانها، بل تسعى جهد ما تستطيع إلى تشخيص صورة الحبيب، ونشر مبادئه وتعاليمه، حتى تصبح صورته ملء النفوس، وملء الحياة في ذات الوقت.
إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فرض وواجب على كل مسلم، بل إن المسلم مطالب بأن يكون الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين، قال عليه الصلاة السلام: «البخاري:15).
» (وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أصناف المحبة؛ وهي ثلاثة كم ذكرها ابن بطال فيما نقله عنه الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: "محبة إجلال وعظمة كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة استحسان واستلذاذ كمحبة سائر الناس".
والمتتبع لكلام السلف يستقر في فؤاده وعقله أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست مجرد مشاعر تتحرك بها نياط الفؤاد، بل هي مقام أعلى وأسمى، ولهذا قيل: "محبة الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقاد نصرته والذبّ عن سنته والانقياد لها وهيبة مخالفته"، وهذا ما فقهه الصحابة الكرام، فسطروا تاريخًا مُبهرًا في علاقتهم بقائدهم وحبيبهم صلى الله عيه وسلم، وتفانوا في الدفاع عنه، واسترخصوا لأجله نفوسهم وأموالهم وأهلهم، وحققوا بذلك المعنى الحقيقي لمحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ألا وهو: اتباعه والانقياد له، والتخلق بأخلاقه، والحفاظ على سنته.
بيد أن الناس يتفاوتون في الإحساس بهذه المحبة، كما ذكر ابن حجر في فتح الباري: "فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرق في الشهوات محجوبًا في الغفلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اشتاق إلى رؤيته، بحيث يؤثرها على أهله وولده وماله ووالده، ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة، لما وقر في قلوبهم من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال بتوالي الغفلات".
واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كما ورد في شرح العقيدة الطحاوية؛ "واجب ديني، إذ اتباعه اتباع لشرع الله، وطاعته طاعة لله عز وجل، ومعصيته معصية لله سبحانه، وكل من أراد أن يحكم في شيء من أمر الدين غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يكون مخالفًا لشرع الله تعالى، لأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كان كافيًا وكاملًا يدخل في كل حق، فالواجب كمال التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، ما دام الخبر صحيحًا موثوقًا به، وأن لا نعارضه بخيال باطل، أو نحمله شبهة، أو شكًّا، أو نقدم عليه آراء الرجال، وأن لا يوقف بعضنا تنفيذ أمره، وتصديق خبره، حتى يعرضه على قول شيخه وإمامه، فإن أذن له نفذه، وقبل خبره وإلا فلا".
وقد ميز العلماء في مسألة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بين أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وصنفوها إلى مجالات ثلاث أذكرها اختصارًا للفائدة:
1/ أعمال مرتبطة ببيان الشريعة كصفة صلاته وصومه وحجه، فهي تعتبر شرعًا ويجب العمل بها، وأدرج العلماء في هذا القسم ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء مما لا يكون بيانًا لمجمل حذف ما ورد في القرآن، وهذا النوع إما أن تعرف صفته الشرعية من الوجوب والندب أو لا تعلم، فإن عُلمت فالأمة مثل الرسول صلى الله عليه وسلم ويجب الاقتداء به، وإن لم تعلم صفته الشرعية فإما أن يظهر فيه قصد التقرب إلى الله عز وجل أوْ لا، فإن ظهر قصد القربة أفاد استحباب الفعل كصلاة ركعتين من غير مواظبة، وإن لم يظهر قصد القربة كالبيع والشراء كان مفيدًا للإباحة على القول الراجح.
2/ أفعال من النبي صلى الله عليه وسلم قامت الأدلة على اختصاصها به كالوصال، والزيادة على أربع زوجات، وفرضية التهجد، فهذه الأفعال ليست أمته مثله ولا يقتدى به فيها.
3/ أعمال يعملها بمقتضى الجِبِلّة البشرية: كالقيام والقعود الأكل، وما كان يتناول من حلال وطرق التناول، وكذلك ما كان يفعله بمقتضى العادات الجارية في بلاد العرب؛ كلبسه ونحو ذلك، فحكم هذا النوع أن الأمة ليست ملزمة فيه بالاقتداء والاتباع، لأنها أفعال صدرت عن الرسول صلى الله عله وسلم باعتباره إنسانًا، لا باعتباره رسولًا يجب اتباعه، ومع ذلك فقد كان أكثر الصحابة يقتفي آثار الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحرص على متابعته في مثل هذه الأفعال، كعبد الله بن عمر رضي الله عنه، ولذا فحكم هذه الأفعال الندب، لأن الأخذ بها أخذ بأفضل الحالات، وأحسن الأساليب، (وهذا ما ورد اختصارًا في كتاب الميسر في أصول الفقه).
جملة القول في هذا المقام أن حب النبي صلى الله عليه وسلم قربة نتقرب بها إلى ربنا، والذوذ عنه في ظل الهجمات الشرسة من أعداء الدين لا ينبغي أن يبقى رد فعل يستفيق كلما جدّ فعل من العدو، بل ينبغي أن نُفَعِّلَ هذا الحب فنحْيي سنة نبينا في كل أمور حياتنا، في سلوكنا ومعاملاتنا، في بيوتنا وشوارعنا وأماكن عملنا، في إعلامنا وكتاباتنا وكل نبض في حياتنا، حينها سيعلم العالم من هو قدوتنا ومن هو معلمنا ومن هو حبيبنا بعد ربنا سبحانه.
ولْتَفرح أيها المحب بهذه البشارة؛ عن أنس رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "متى الساعة يا رسول الله؟" قال: «
ونظم الحافظ ابن حجر معنى الحديث في بيتين فقال:
وقائل هل عمل صالح .. أعددته عند الكرب
فقلت حسبي خدمة المصطفى .. وحبه فالمرء مع من أحبا
ولا أخالك أخي المسلم تأبى دخول الجنة، ومرافقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالْزم طاعته واسمع وصيته؛ « »، قالوا: "ومن يأبى يا رسول الله"، قال: « » (البخاري:7153).
- التصنيف: