المحيا لله، والممات لله.
أن يصبغ المرء توجهه بمرضاة الله؛ أن يكون هدفه إرضاء ربه، فى كل سكناته، وحركاته، ومعاملاته وصمته، وكلماته، هذه هى الحياة لله!
أن يكون المحيا لله، والممات لله، وليس فقط النسك والصلاة.
قد يُفهم أن يكون الممات لله؛ حين الجهاد والتضحية بالنفس فى سبيل الله.
وقد قيل إن هذا ربما يكون أهون على النفس البشرية من منهجة منظومة الحياة لتكون، فى سبيل الله، الموت لحظة إذا تجرأ الإنسان واتخذ فيها قرار الإقدام والبذل لله، فإنه لا يجد من آلامها إلا كَمَسِّ القرصة.
لكن الحياة فى سبيل الله شأن آخر، وعمل شاق، ومكابدة، وجهاد أي جهاد، أن يصبغ المرء توجهه بمرضاة الله، أن يكون هدفه إرضاء ربه فى كل سكناته وحركاته ومعاملاته، وصمته وكلماته، هذه هى الحياة لله، ولقد تحمل من يعيشون لله ما لا يتحمله غيرهم ممن لا يستقر فى قلوبهم هذا المعنى السامى الأصيل.
وهل كان نوح ليطيق سخرية واستضعافًا، ويصبر على لأواء الدعوة وتكاليفها ألف سنة إلا خمسين عامًا، لولا أنه عاش هذه الأعوام الألف مع الله وبالله ولله؟
وهل كان يوسف ليصبر على السجن، بل ويصرح أنه أحب إليه من لذيذ عيش فيه عصيان لمولاه، لولا أنه رجل يحيا بالله ولله ومع الله؟
وهل كان إبراهيم ليواجه قومه، ويصبر على أذاهم وبطشهم، لولا ذلك؟
وهل كان أيوب ليتحمل أعوامًا من الضر والمرض والآلام، لولا أنه عاشها فى أنس بمولاه؟
وغيرهم ممن أدركوا أنه كما أن الأمر كله لله، والفضل كله بيده، فإنما تكون الحياة كلها له ومعه وبه.
إنه المعين الروحي والزاد الإيماني الذي سهل على أمثال هؤلاء ممن عاشوا لله، أن يكون موتهم فى سبيله ولأجله، كخيار أوحد، ودون أدنى تردد.
أن يصبغ المرء توجهه بمرضاة الله؛ أن يكون هدفه إرضاء ربه، فى كل سكناته، وحركاته، ومعاملاته وصمته، وكلماته، هذه هى الحياة لله!
وهذا من الفوارق بين المخلِص -بكسر اللام-، والمخلَص -بفتحها؛ فالمخلِص بالكسر الذى يبتغى وجه الله فى أعماله، وخص البعض تلك الأعمال بحال عبادته؛ لا يريد بها إلا الله، أما المخلَص بالفتح فهو أعلى درجة ومنزلة، حيث أنه هو من استخلصه مولاه استخلاصًا، فصار فى حياته، وسائر حالاته، مع الله، وبالله، ولله، وهذا هو من ينجو من إغواء الشيطان وكيده، كما استثنى هو فقال: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39-40].
أفلا يرعوى أولئك الذين يلبسون علينا ديننا، من الغلاة المتنطعين، ومن المميعين المفرطين، على حد سواء؟ فما هو بدين كهنوت، ولا رهبانية ولا انعزال ولا هروب، وما هو بدين يقبل تقزيمًا أو حصرًا فى بيوت العبادة والشعائر، أو يرضى كتمًا وتغييبًا في الصدور والدخائل، إنما هذا الدين حياة كاملة متكاملة، ومنظومة جامعة شاملة للحياة، فهل يدرك كل منا نفسه، ويلفتها إلي فحوي الدين، وإلي روح الإسلام، وإلي سر الحياة؟!
فتنعم بالحياة لله وبالله ومع الله، لعلها أن ترزق بذلك موتًا فى سبيل الله، فتتم المنظومة، ويتمادي العبد في سرمدي الحياة، هنالك في جنة الله!
- التصنيف: