أوراق الورد

منذ 2015-02-07

الرافعي عند طائفة من قُراء العربية أديبٌ عَسِرُ الهضم... ولكنه عند الكثرة من أهل الأدب، وذوي الذوق البياني الخالص، أديب الأمة العربية المسلمة، يعبّر بلسانها، وينطق عن ذات نفسها...

هذا عنوان كتاب لأديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي رحمه الله. ولا صلة له بموضوع المقالة ألبتة؛ لأن الحديث سيدور عن مؤلف الكتاب لا عن الكتاب، وأحببت أن يتنسّم القارئ معي شذى أسلوب هذا الكاتب العبقري، الذي أعتقد جازمًا -والله تعالى أعلم- أنه من أعظم كتّاب لغتنا الخالدة في تاريخها المُشرق العريق.

والقارئ لأدب الرافعي لا بُدّ وأن يكون ذا خبرةٍ باللغة والأدب، والبيان العالي، وإلا فلا طاقة له به، لا يعرف قيمته، ولا يذوق جماله. إن كتب الرافعي ليست لعامة المثقفين، ولا لأواسطهم، إنما هي لصفوتهم، إنه قمةٌ شامخة لا يصل إليها إلا من اعتاد تسلّق الجبال العوالي، وإن فهمه، والغوص على أعماقه، والتحليق في آفاقه، وإدراك أبعاده وامتداده، هو مجدٌ من المجد الذي قال عنه حكيم الشعراء:

لا تَحْسَبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ *** لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرَا

يقول الأديب الكبير محمد سعيد العريان، التلميذ الوفي للرافعي، في كتابه الممتاز (حياة الرافعي): "الرافعي سوري الأصل، مصري المولد، إسلامي الوطن، فأسرته من طرابلس الشام، يعيش على أرضها إلى اليوم أهلُه وبنو عمه، ولكن مولده بمصر، وعلى ضفاف النيل عاش أبوه وجده، والأكثرون من بني عمه تولته منذ أكثر من قرن، وهو في وطنيته مسلم، لا يعرف له أرضًا من أرض الإسلام ينتسب إليها حين يقول: وطني؛ فالكل عنده وطنُه، ووطنُ كلِّ مسلم.. إنما الوطن فيما كان يراه لنفسه ولكل مسلم هو كل أرض يخفق فيها لواء الإسلام والعربية، وما مصر والعراق والشام والمغرب وغيرها إلا أجزاءٌ صغيرة من هذا الوطن الإسلامي الأكبر، ينتظمها جميعًا، كما تنتظم الدولةُ شتّى أقاليم وعديدًا من البلاد..".

"وأُمّ الرافعي كأبيه، سورية الأصل، وكان أبوها تاجرًا تسير قوافله بالتجارة من مصر والشام، وأصله من حلب، على أنه كان قد اتخذ مصر وطنًا له قبل أن يصل نسبه بأسرة الرافعي".
"في يناير من سنة 1880م ولد مصطفى صادق الرافعي، وفي مايو سنة 1937م انتقل إلى جوار ربّه عن (57) سنة من العمر".

غفر الله له، وأكرم مثواه وجعل في أبناء العربية اليوم أجيالًا ترقى إلى مستوى أدبه، وتتذوقه، وتنسج على منواله.

إنّ مناسبة حديثي عن الرافعي (في عمود صحفي) عنوانه (زناد الفكر) هو أن هذا الأديب العبقري لن ينال من كنوز عبقريته إلا رجلٌ ملكَ أدواتِ التذوق الأدبي، ثم قدح زناد فكره عند قراءته، وإلا فلاحظّ له من تلك الكنوز، وإنها خسارة كبيرةٌ أن يُحرَم منها.

جاء في مقدمة (وحي القلم) وهي للأستاذ محمد سعيد العريان رحمه الله: "الرافعي عند طائفة من قُراء العربية أديبٌ عَسِرُ الهضم، وهو عند كثيرٍ من هذه الطائفة متكلِّفٌ لا يُصدر عن طبع، وعند بعضهم غامضٌ مُعَمَّى لا تخلص به النفس، ولكنه عند الكثرة من أهل الأدب، وذوي الذوق البياني الخالص، أديب الأمة العربية المسلمة، يعبّر بلسانها، وينطق عن ذات نفسها، فما يعيب عليه عائبٌ إلا من نقصٍ في وسائله، أو كُدرةٍ في طبعه، أو لأنّ بينه وبين طبيعة النفس العربية المسلمة التي ينطق الرافعي بلسانها حجابًا يُباعد بينه وبين ما يقرأ روحًا ومعنى".

وسأختار بعض السطور من (وحي القلم) يتحدث فيها الرافعي عن محنة فلسطين! متى والرافعي قد مات عام 1937 للميلاد؟! يقول:

"أيها المسلمون! ليست هذه محنة فلسطين، ولكنها محنة الإسلام؛ يريدون ألا يُثبتَ شخصيته العزيزة الحرّة.
كلّ قرشٍ يُدفع الآن لفلسطين، يذهب إلى هناك ليجاهد هو أيضًا.

أولئك إخواننا المجاهدون؛ ومعنى ذلك أن أخلاقنا هي حلفاؤهم في هذا الجهاد.

أولئك إخواننا المنكوبون؛ ومعنى ذلك أنهم في نكبتهم امتحان لضمائرنا نحن المسلمين جميعًا.

أولئك إخواننا المُضطَهدون؛ ومعنى ذلك أنّ السياسة التي أذلتهم تسألنا نحن: هل عندنا إقرار للذلّ؟.

ماذا تكون نكبة الأخِ إلا أن تكون اسمًا آخرَ لمروءة سائر إخوته أو مَذَلَّتهم؟.

ابتلَوهم باليهود يحملون في دمائهم حقيقتين ثابتتين: من ذلّ الماضي وتشريد الحاضر.

ويحملون في قلوبهم نقمتين طاغيتين: إحداهما من ذهبهم، والأخرى من رذائلهم.

في أنفسهم الحِقد، وفي خيالهم الجنون، وفي عقولهم المكر، وفي أيديهم الذهب الذي أصبح لئيمًا لأنه في أيديهم".

ثم يقول رحمه الله مخاطبًا اليهود:

"أجهلتم الإسلام؟ الإسلام قوةٌ كتلك التي توجِدُ الأنيابَ والمخالب في كلّ قوة تُخرج سلاحها بنفسها، لأنّ مخلوقَها عزيزٌ لم يوجد ليُؤكل، ولم يُخلق ليذلّ. قوةٌ تجعل الصوت نفسه حين يُزمجر كأنه يُعلن الأسدّيةَ العزيزةَ إلى الجهات الأربع. قوة وراءها قلبٌ مشتعل كالبركان، تتحوّل فيه كل قطرة دم إلى حرارة دم.

ولئن كانت الحوافر تُهيّئ مخلوقاتها ليركبها الراكب، إنّ المخالبَ والأنيابَ تهيئ مخلوقاتها لمعنى آخر!!.

أيجوع إخوانكم أيها المسلمون وتشبعون؟ إن هذا الشبع ذنب يعاقب الله عليه.

كان أسلافكم أيها المسلمون يفتحون الممالك، فافتحوا أنتم أيديكم..

كانوا يرمون بأنفسهم في سبيل الله غير مكترثين، فارموا أنتم في سبيل الحق بالدنانير والدراهم.

لو صام العالم لإسلامي كلُّه يومًا واحدًا وبذل نفقاتِ هذا اليوم الواحد لفلسطين، لأغناها.

لو صام المسلمون جميعًا يومًا واحدًا لفلسطين، لقال اليهود اليوم ما قاله آباؤهم من قبل: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ}[المائدة من الآية:22].

أيها المسلمون! هذا موطن يزيد فيه معنى المالِ المبذول فيكون شيئًا سماويًا.

كل قرش يبذله المسلم لفلسطين، يتكلم يوم الحساب يقول: يا رب، أنا إيمان فلان!".

هذه إحدى نفحات الرافعي رحمه الله. كأنها كتبها لتنشر اليوم، وكأنها لم تكتب قبل أكثر من ستين سنة.

أحمد البراء الأميري

دكتوراة في الدراسات الإسلامية من جامعة الإمام محمد بن سعود.

  • 1
  • 0
  • 2,479

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً