ولاية المُـتغلب - ولاية المتغلب(4 ) استتبابُ الأمن وسكونُ الدهماء
حين يذكرون أقوال العلماء في أمثال مروان بن الحكم أو غيره ممن تغلَّبوا على البشر، ولكنهم لم يتغلبوا على شريعة الله، ولم يحكموا عليها بالإلغاء والتعطيل، وإنما حكموا بها في الأمة، وإن عصوا في أنفسهم من جهة المعاصي لا من جهة التشريع العام، فإن هؤلاء المفتين يدلسون على الأمة بهذا التنزيل الخارج عن محالِّه. فإذا كانوا لا يشعرون بهذا الفرق الهائل؛ فهم ليسوا أهلا لأنْ يتصدروا للفتوى في قضايا الأمة والعامة، وليلتزموا اختصاصاتهم...
مع بقية الشروط والضوابط، وقد توقفنا فيما سبق على شرط الطاعة.. وهو الطاعة ... طاعة الله في الولاية، والحكم بشريعته في الرعية، وإقامة دينه في الدنيا، وسياستها به.. وإلا فلا.. وألفُ لا. وذكرنا بعض الأدلة ومازال إن شاء الله تعالى ..
اسْتِتْبَاب الأمنِ وسكون الدهماء
والآن مع شرط استتباب الأمن: انشتر في البلاد وشاع بين العباد، واستقرار الأمر: ثبوته وغير ذلك، وكون الدهماء: خضوع الناس وقَبولهم بالأمر الواقع، ووتسليمهم القياد للمتغلب. هذا الشرط الذي يشترطونه لطاعة المتغلب، وتطبيق ذلك على الواقع لتحقيق مناطه، أي: البحث عن علة هذا الحكم هل هي موجودة في هذا التَّغَلُّب (الانقلاب وغيره) أم لا.
يقول الإمام ابن عبد البر رحمه الله: "وقال أهل الفقه: إنما يكون الاختيار في بدء الأمر [أي اختيار الأمة للحاكم]، ولكن الجائر من الأئمة إذا أقام الجِهاد والجُمُعة والأعياد، وسكنت له الدَّهماء، وأنصف بعضَها من بعضٍ في تظالمها، لم تجب منازعته، ولا الخروج عليه، لأن في الخروج عليه استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء، وشنِّ الغارات، والفساد في الأرض، وهذا أعظم من الصبر على جَوْرِه وفسقه، والنظر يشهد أن أعظم المكروهين أولاهما بالتَّرك"[انظر: العواصم والقواصم لابن الوزير، 8/ 18].
فلا بد من قيامه بهذه الواجبات كلها، من إقامة الدين وإقامة العدل وإنصاف الناس وإقامة الجهاد في سبيل الله، ثم أن تسكن له الدَّهماء، أي عامة الناس، فيأمن الناس على دمائهم وأعراضهم وأموالهم، ويُسلِّمون وينقادون بلا اعتراض.. فهل فَعَلَ الانقلابيون عُشْر معشار هذا؟!
ثم تلاحظ أن الإمام يقول ابن عبد البر: "لم تجب منازعته" ولم يقل: (لا تجوز منازعته)، وبينهما بَوْن شاسعٌ وفرقٌ كبير، حيث إن الأصل جواز منازعة الظالم والجائر، لأنه ليس أهلا للولاية، كما في الآية الكريمة:{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124]. وفي "قراءة ابن مسعود: {لا ينال عهدي الظالمون}، بمعنى: أن الظالمين هم الذين لا ينالون عهد الله"[ابن جرير فيجامع البيان: 2/ 24]. وهؤلاء ظالمون إلى آخر نقطة في الظلم.
اللصوصية
الفقهاء الأوَّلون – قبل أن يُعَلْمَنَ الفقه على أيدي علماء السلطان- يسمون المتغلب باللص، فالمتغلب في الأصل تجب منازعته، لأنه لصٌّ مغتصِب لحق غيره ظالمٌ له، مرتكب منكرًا يجب تغييره، وإن حَكَم بشريعة الله بعد ذلك، وإنما آل الحكم إلى سقوط وجوب المنازعة لِما في المنازعة من مفاسدَ عظيمة؛ تربو وتزيد على مصلحة المنازعة، ومفسدة المنازعة تربو على مفسدة الصبر والاحتمال. ولذلك عللها الإمام ابن عبد البَر هنا بقوله: "لأن في الخروج عليه استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء..." فهي ممنوعة لغيرها من المفاسد لا لذاتها. فإذا لم يتحقق الأمن في ولاية المتغلب ولا حُفِظَت الدماء فما وجه الصبر عليه وما فائدة القَبول بولايته؟! ما بالك إذا كان تغلب واستمراره في ولايته المغتصِبة هي مصدر الخوف وإراقة الدماء؟! أما لو كان أميرًا مبايَعًا مختارًا من الأمة عن رضًا، ثم هو قد قام بما يجب عليه فإن منازعته ممنوعة لذاتها، حتى لو قُدِّر أن نَزْعَهُ يكون بكلمة لَيِّنَةٍ لطيفةٍ واحدةٍ لا تَبِعةَ لها من مفسدة، فلا يجوز أن تقال له.
كما أن الإمام ابن عبد البَر هنا يقول: "استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء" فالأمن هنا موجود متوفر، لذلك نحافظ عليه، أما لو كان الأمنُ مفقودًا والدماء تسيل والأموال تهدر والأعراض تنتهك وتُغتصب، كما يفعل هذا المتغلب اللص الغادر فعلامَ الصبر؟! وعلى أي مكتسب نحافظ؟!
لكن دائما نحتفظ بسؤال الواقع: هل هذا الواقع هو المتغلب المقصود عند العلماء القدماء، وبالشروط التي ذكروها؟!
المتغلب الذي يعنيه الفقهاء
إن الحاكم المتغلب الذي تكلم عنه الفقهاء رحمهم الله هو الذي يستقر له الأمر ويستتب في دولته الأمن، ولم يعد له منازع ذو أثر، ثم هو يقوم بشرط الولاية، وهي الحكم بالإسلام والعمل بكتاب الله ويرفع راية الجهاد ويحرر أوطان الإسلام، كما سبق بيانه... فلا هذه ولا تلك تتوفر في السيسي ولا الانقلابيين جميعًا، وعصابات التغلب كلِّها في الأرض جميعِها.. لأنه قام ليحرق الحكم بما أنزل الله ويقطع الطريق إليه، ولم يستقر له الأمر بعدُ، بل مازال في هياج، بل في ازدياد.. فهو يترنح ولم يستقر ونسأل الله تعالى أن يسقط ولا يستمر، وهو يقتل على الهَوية، بل هوية الخلاف.
قال أحمد بن محمد الصاوي المالكي: "إن المتغلب لا تثبت له الإمامة إلا إِنْ دخل عمومُ الناس تحت طاعته، وإلا فالخارج عليه لا يكون باغيًا، كقضية الحسين مع اليزيد."[انظر: حاشية الصاوي على الشرح الصغير، 4/ 427]. فهل دخل عموم الناس في طاعة هذا المتغلب، حتى يوصف الإخوان أو غيرهم من المحتسبين عليهم بالخوارج، ويوصف هو بالولي المتغلب المطاع؟!
فحتى لو استتب له الأمر وهدأت أمواج الشعب المتحركة حوله، فإنه لا شرعية له، وليس هو حاكمًا متغلبًا، بل هو صائل يجب دفعه، ولا يجوز تأخير القيام عليه وعزله، إلا للعجز عن ذلك أو لحدوث مفسدة أكبر، فيجب عندئذ الإعداد لذلك. فلا شرعية له، لا شرعًا ولا واقعًا، لا نصًّا ولا تَفَقُّها سلفيًّا. فالصبر عليه استثناء واضطرار لا أصل واختيار، وبشروط ذكرنا بعضها ويأتي تلخيصها قريبا إن شاء الله تعالى .
تنزيل في غير واقعه.. فَسَلُوا عن كل علم أهلَه
تنزيل النصوص الشرعية والفتاوى الفقهية التي وردت أو قيلت قديمًا هو تنزيل لأقوالهم على غير مناطاتها، وتحميلها ما لم تحتمل، وإدخال قضايا ليست داخلة تحت دلالتها، وبعبارة أخرى: خارج محل الاستدلال، إلا على طريقة أمثال المتهالكين أصحاب دعوة "تجديد أصول الفقه"، حيث يرون أنه يجب أن يُستدل بكل شيء على كل شيء!! ونحن نربأ بمن ينتسب إلى السلف الصالح أن يكون كذلك.
فحين يذكرون أقوال العلماء في أمثال مروان بن الحكم أو غيره ممن تغلبوا على البشر، ولكنهم لم يتغلبوا على شريعة الله، ولم يحكموا عليها بالإلغاء والتعطيل، وإنما حكموا بها في الأمة، ولم يحكموا بالقوانين الوضعية المحادَّة لشريعة الله، وإن عصوا في أنفسهم من جهة المعاصي لا من جهة التشريع العام، فإن هؤلاء المفتين يدلسون على الأمة بهذا التنزيل الخارج عن محالِّه. فإذا كانوا لا يشعرون بهذا الفرق الهائل؛ فهم ليسوا أهلا لأنْ يتصدروا للفتوى في قضايا الأمة والعامة، وليلتزموا اختصاصاتهم، وليس عيبا، فقد كان الإمام مالك رحمه الله يُسأل في القراءة فيقول: اسألوا نافعاً؛ فإنه أعلم بالقراءة. وقال مالك لما سُئلَ عن البسملة: سلوا عن كل علم أهله، ونافع إمام الناس في القراءة.[الذهبي؛ سير أعلام النبلاء:7/ 337].
إن هذا الطاغوت المنقلب على الإسلام وأهله، لا يحكم بما أنزل الله، بل يحارب الحكم بما أنزل الله، والأخبار عنه بذلك متواترة، شهد بها خواصه قبل خصومه، ومنها التعديلات الدستورية، بل العدولات التي عدل بها عن الحق، والتي جرفت كل ما له علاقة بالشريعة وتحكيمها، واتجه إلى إقصاء الإسلاميين أصلاً من الحياة السياسية.. بل من الحياة إن استطاع! –أضف إلى ذلك إذا صدقت الأخبار التي تقول بأنه يهوديٌّ لأمه، فإنها الطامة الكبرى .
فهل هذا هو الحاكم المتغلب الذي ذكره الفقهاء في كتبهم؟! أم أنه التدليس والتدجيل والتدجين؟!
اللهم هل بلَّغت.. اللهم فاشهد
يتبع إن شاء الله تعالى بـمقال: ولاية المتغلب (5): الخليفة الثاني والطالب الحريص!
يمكن مراجعة المقالات السابقة من هذه السلسلة:
ولاية المتغلب (1) من هو المتغلب؟ وما ولايته؟
ولاية المتغلب (2): من هو الحاكم المطاع؟
ولاية المتغلب (3): الدليل الثاني: يقودكم بكتاب الله ويقيم فيكم الدين
تاريخ النشر: 29 ربيع الآخر 1436 (18/2/2015)
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: