لا يسلم من ألسنة الناس أحد

منذ 2015-02-09

العلماء، أقصد علماء الشريعة المطهرة، في الماضي، والحاضر سبَّ بعضهُم بعضًا، وكفّر بعضهُم بعضًا، ونزلوا إلى مستويات لا يليق بالمسلم العادي أن يصل إليها. والتعميم في هذا خطأ، فحالة أغلبهم لم تكن كذلك، ولكنْ وُجدتْ هذه الظاهرة بينهم ولم يتنزّه عنها حتى بعض كبارهم! فما موقفنا نحن من كل ذلك؟

قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يخاطب بعض أصحابه: "اعلموا رحمكم الله تعالى أن الرجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئًا من العلم، وحُرِمَهُ قرناؤه وأشكاله حَسَدوه، فرموه بما ليس فيه، وبئستِ الخصلةُ في أهل العلم" (رواه البيهقي في (المناقب): [2/259]، والذهبي في (سير أعلام النبلاء): [10/58]).

أقول: إذا حصل هذا من (بعض) أهل العلم، فلا يُستغرب حصوله ممّن هو دونهم.

"وقديمًا كان في الناسِ الحسد" كما قال الشاعر.

وأقول أيضًا: تأملتُ حال الناس -ونعوذ بالله من كل حالٍ لا ترضيه- فإذا بهم تطاولوا وتكلموا على كل شيءٍ:
تكلموا عن الله سبحانه، فبعضهم قال: اتخذ ولدًا، وبعضهم قال: يده مغلولة، وهو فقير، وفي عصرنا الحاضر، وجد -ممن زعم الإسلام- مَن كفر كُفرًا منمّقًا مزخرفًا، وهو يهزأ بالله تعالى!.

والأنبياء الكرام: اتهمهم أقوامهم، بالجنون، والسّحر، والسفاهة، وغير ذلك.

والعلماء، أقصد علماء الشريعة المطهرة، في الماضي، والحاضر سبَّ بعضهُم بعضًا، وكفّر بعضهُم بعضًا، ونزلوا إلى مستويات لا يليق بالمسلم العادي أن يصل إليها. والتعميم في هذا خطأ، فحالة أغلبهم لم تكن كذلك، ولكنْ وُجدتْ هذه الظاهرة بينهم ولم يتنزّه عنها حتى بعض كبارهم! فما موقفنا نحن من كل ذلك؟

موقفنا -فيما أعتقد-:

1- أن ننزّه ألسنتنا وأقلامنا أصلًا عن الخوض في هذه المسائل من غير ضرورة ملجئة.

2- وأن نتثبّت غاية التثبت فيما نرويه.

3- وأن نطوي هذه الموضوعات جملة وتفصيلًا إلا إذا دعت لذلك حاجة شرعية، فنتكلم بقدْر تلك الحاجة.

4- وأن نتفطّن لحِيل الشياطين، وتلبيس إبليس، الذي يوحي لبعض الناس أنهم يتكلّمون إرضاءً لله، وهم في الواقع يتكلمون لدافعٍ نفسيٍ خفيّ.

5- وأن نلتمس لهم الأعذار -ما أمكن- ونُحسنَ الظنّ بهم، كما قال الله عزّ وجلّ في قصة الإفك التي اتُّهِمت فيها السيدةُ عائشة، الصديقة بنتُ الصدّيق رضي الله عنهما وأرضاهما: {لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور:12]، روى أبو نعيم في (الحلية: [25/285]): "عن أبي قلابة رحمه الله قوله: إذا بلغك عن أخيك شيءٌ تكرهه فالتمس له العذر جُهْدَك، فإن لم تجد له عذرًا فقل في نفسك: لعلّ لأخي عذرًا لا أعلمه".

قال الشافعي رحمه الله: "ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر الذي فيه صلاحُك فالْزمْه".

قال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام الشافعي رحمهما الله تعالى ما معناه: "ونال بعضُ الناس من (الشافعي) غضًّا من قيمته، فما زاده إلا رفعةً وجلالة، ولاح للمنصفين أنّ كلام أقرانه فيه كان بهوى، وقلَّ من برّز في الإمامة، وردَّ على من خالفه إلا عُودي، نعوذ بالله من الهوى".

وقال الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه (من أخلاقنا الاجتماعية): "والجماهير دائمًا أسرع إلى إساءة الظنّ من إحسانه، فلا تصدق كلَّ ما يُقال وإن سمعته من ألف فمٍ، حتى تسمعه ممن شاهده بعينه، ولا تصدق مَن شاهد الأمر بعينه حتى تتأكد من تثبته فيما يشاهد، ولا تصدق من تثبت فيما يشاهد حتى تتأكد من براءته وخلُوّه عن الغرض والهوى، ولذلك نهانا الله تعالى عن الظن، واعتبره إثمًا لا يغني من الحق شيئًا".

قال الله تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].

قال سيد قطب رحمه الله في (الظلال): "ويخصص الفاسق لأنه مظنَّةُ الكذب، وحتى لا يشيع الشك بين الجماعة المسلمة في كل ما ينقله أفرادها من أنباء، فيقع ما يشبه الشلل في معلوماتها.. ومدلول الآية عام، وهو يتضمّن مبدأ التمحيص والتثبت من خبر الفاسق؛ فأما الصالح فيؤخذ بخبره لأن هذا هو الأصل في الجماعة المؤمنة، وخبر الفاسق استثناء، والأخذ بخبر الصالح جزء من منهج التثبت لأنه أحد مصادره. أما الشك المطلق في جميع المصادر وفي جميع الأخبار فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين الجماعة المؤمنة، ومُعطِّلٌ لسير الحياة وتنظيمها في الجماعة. والإسلام يدع الحياة تسير في مجراها الطبيعي، ويضع الضمانات والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها ابتداء، وهذا نموذج من الإطلاق والاستثناء في مصادر الأخبار".

وربما وقع بعض القراء في حيرةٍ مما سلف، وربما تطاولوا على العلماء الذين يقعون في بعض الأخطاء، وربما.. وربما.. ولعل المُخلِّصَ من هذا ما دار عليه موضوع المقالة السابقة (بين التقدير والتقديس)، أي: بين الاحترام، والمبالغة في الاحترام. ومما يحسن إيراده وإعادته في هذا المقام مما جاء في هذا المقال:

- كل إنسان يخطئ ويصيب، إلا الأنبياء المعصومين عليهم السلام.

- الكبير قد تحدث منه زلة كبيرة أو صغيرة، يعتذر له عنها إن أمكن، ولا تقدح في سائر فضائله، ومَنْ دونه مِن باب أولى.

- قد يتصف المرء بخلق دون خلق، ولا كمال في الرجال، حاشا الأنبياء عليهم صلوات الله.

- قد يتفوق الصغير على الكبير في بعض الصفات، ولا يعني هذا أنه أفضل منه، ولهذا قالوا، المزّية لا تقتضي الأفضلية.

والله تعالى أعلم.

أحمد البراء الأميري

دكتوراة في الدراسات الإسلامية من جامعة الإمام محمد بن سعود.

  • 1
  • 0
  • 6,881

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً