(شارلي إيبدو)؛ وأخواتها، أو ما وراء الإساءات.
يقتل في سوريا والعراق وأفريقيا من المسلمين يوميًا أكثر من مائتي إنسان بِسِكوت أو بأسلحة نفس تلك الدول التي شاركت في إدانة الحادثة، فمتى سيصل المسلمون والعرب أن يبينوا للعالم أن قتلاهم ليسو مجرد أرقام، بل أناس كانوا يستحقون العيش بكرامة وسلام أيضًا؟!
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
كيف تجعل الشعوب العربية تثور وتخرج في مظاهرات وتحرق سفارات ومصالح غربية؟ كيف تجعل كل وسائل الإعلام الدولي تصوب كاميراتها على فنان غير موهوب أو مخرج فاشل؟
مع كل إساءة لمقدسات الإسلام في العصر الحديث، والتي بدأت مع رواية (آيات شيطانية) لسلمان رشدي، وآخرها حادثة (شارلي إيبدو) تتوالى ردود الفعل والتحليلات التي يسعى بعضها إلى مسايرة انفعال الجماهير وتهديد الغرب والتحريض على الحرب عليه، ومهاجمة رموزه وساكنيه، وبعضها يقف مع ما يسميه حرية التعبير، والعالم المتحضر، فينطق بلسان المسيئين، ويلبس معاطفهم، ويلقي بالاتهام على كل المسلمين بالرجعية، واعتناق ثقافة وفكر الإرهاب!
لكي نصل إلى حقيقة هذه الأحداث ومن يقف وراءها، ومن يستفيد منها؛ يجب أن نتخلص من نفسية المنفعل الذي يريد أن يُفرغ شحنة غضبه، ويُثبت للجميع حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولمقدسات دينه بأي طريقة كانت، ويجب أن نتخلص من نفسية المنبطح حضاريًا المستعد للتنكر لمقدساته، وكرامته، ليُثبت للغرب أنه ليس بذلك الإرهابي المعادي لحرية التعبير، ونُعمل عقولنا بالتفكير الإيجابي للوصول للأسباب لهذه الظاهرة، وحتى نتمكن من فهمها معالجتها الناجحة.
من كان يعرف قبل سنة ألف وتسعمائة وثماني وثمانين اسم (سلمان رشدي)؟ كاتب غير معروف، ولم يكتب أي مؤلفات مشهورة، يُصبح أشهر من نار على علم، ورمزًا لحرية التعبير في العالم الغربي ضد الإرهاب والرجعية؛ كتب سلمان رواية ضمَّنها كمًَا كبيرًا من الاستهزاء بالمقدسات الإسلامية، ومن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم، ثم خصص فصلًا كاملًا للاستهزاء بزوجة الرسول عائشة رضي الله عنها، ثم يضع فيها شخصية إمام شيعي، أوصافها تتطابق مع مرشد الثورة الإيرانية؛ (الخميني)، أفاض فيها الاستهزاء والتحقير لهذه الشخصيات المقدسة دينيًا وسياسيًا.
لم يتأخر رد الفعل في العالم الإسلامي الذي أُصيب بحالة من الغليان، وخرجت الكثير من المظاهرات المنددة بهذه الرواية، أما إيران فأصدر الخميني فتواه المشهورة بإهدار دم صاحب الرواية، الذي سيتوارى عن الأنظار خلف حراسة مشددة لسنوات لاحقة.
هذه الرواية -التي أجمع النقاد الأدبيون على رداءة مستواها- لم تأت في هذه الظروف السياسية والإقليمية بمحض الصدفة، بل كانت وسط جو مشحون سياسيًا ضد الشعوب الإسلامية، وخاصة نظام الثورة الإسلامية في إيران، التي خرجت لتوها من حرب مع العراق، وحصار دولي.
رواية سلمان رشدي وما تضمنته من إساءات وبذاءات كان من ورائها إدخال الشعوب الاسلامية في ثورات وهيجان، وتصويرها أمام الرأي العام الغربي كشعوب غير متحضرة، عدوة للفكر والثقافة.
في سنة ألفين وخمسة قامت صحيفة دانماركية غير مشهورة بنشر اثنا عشر رسمًا كاريكاتيريًا يستهزئ بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتهم فيها المسلمين -كل المسلمين؛ واحد وستة من عشر مليار مسلم- بالإرهاب، والقتل والتعصب الديني!
رغم الاحتجاجات الكبيرة في العالم العربي والإسلامي؛ وتنديدات الجاليات المسلمة في أوروبا؛ فلم توقف هذه الجرائد إعادة نشر هذه الرسوم، فكان المستفيد الأول من حالة الغضب؛ هي الأحزاب اليمينية الأوروبية، التي تريد جر المسلمين والجاليات الغاضبة إلى مشاهد إحراق الأعلام، وخاصة علم الدانمارك، والسويد والنرويج؛ التي تحمل رسوم الصليب عليها، ثم استثمارها في الدعاية لخطابها المكرور: "الإسلام والأقليات المسلمة خطر على أوروبا المسيحية المتحضرة"، والمستفيد الثاني هو اللوبي الإسرائيلي الذي أراد أن يوصل أن خطر الإرهاب الإسلامي الذي يهدد ويحاصر دولة صغيرة مثل إسرائيل؛ ها هو يهدد ويقاطع دولة صغيرة أخرى هي الدانمارك!
أغلب وسائل الإعلام الغربية الأمريكية والأوروبية مملوكة لأشخاص يجاهرون بانحيازهم لإسرائيل، وهم قادرون على فعل كل شيء لدعمها، وعلى رأس ذلك تسويق الكذب والتحريض والصور النمطية على كل المسلمين والعرب؛ أنهم شعوب متخلفة، رافضة للحضارة، لا تزال في عصر الألفية، تقطع أيادي السارقين، وينتقل الناس بالجمال وسط مدنها وعواصمها، و كمثال على ذلك رجل الأعمال الأمريكي (روبرت مردوخ) صاحب القطب الإعلامي الكبير الذي يملك المئات من الشركات الاعلامية والمحطات الفضائية والصحف في أكثر من خمسين بلدًا حول العالم، والذي لا يُخفي انحيازه المطلق لإسرائيل، وعداءه لكل المسلمين، واتهامهم بالإرهاب.
في أمريكا وأوروبا أصبح انتقاد مقدسات المسلمين وسيلة لكل فنان فاشل، أو مخرج باحث عن الشهرة، أو قس باحث عن دعم مالي لكنيسته.
هذا ما اتضح سنة ألفين وثلاثة عشر في قضية القس الأمريكي (تيري جونز)؛ صاحب الكنيسة الصغيرة، والتي لا يعرفها حتى سكان ولايته فلوريدا، الذي نجح في الترويج لرغبته في إحراق المصحف الكريم أمام الكاميرات، مدعيًا أن القرآن هو المسؤول عن الإرهاب حول العالم، وأن المسلمين غير صالحين للعيش في أمريكا المتحضرة،رغم أن المسلمين هم أكثر الشعوب، والأقليات اضطهادًا و تشريدًا حول العالم، وأن المسلمين في أمريكا من أكثر الأقليات احترامًا لقوانينها وانضباطًا بالأخلاق والقيم، وكان رد مسلمي الولايات المتحدة في محله، وغاية في الذكاء والتحضر، حين قرر مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (CAIR) أن يوزع مليون نسخة مترجمة للقرآن الكريم.
كيف يريد الإنسان الغربي أن يكون جاره المسلم الشرق أوسطي حتى يرضى عنه ويتعايش معه؟ فالملاحظ أن ظاهرة الإسلاموفوبيا ومعاداة الإسلام تزداد كلما تشبث المسلم والعربي في أرضه، أو في المهجر، بتقاليده وهويته، فالغرب يتمنى أن يكون العربي المسلم خاضعا للغرور الرأسمالي والاستبدادي، تاركًا لعاداته ولغته وشخصيته، وحتى أرضه ومقدساته، فكلما اشتدت الظروف الاقتصادية والضغوط على حكومات الدول الأوروبية، وجد السياسيون الفرصة في التنفيس وتحميل المسؤولية إلى الأقليات، وخاصة المسلمين، وسكان الضواحي المهمشة.
جاءت حادثة مقتل صحيفة أسبوعية (شارلي إيبدو) الباريسية، المعروفة بعدائها واستهزائها بمشاعر ومقدسات المسلمين، والاتهام الجاهز لكل العرب، لتعيد الجدل حول حقيقة فكرة الحرية في المجتمعات الغربية، واختلاف المعايير، دعم لجرائم إسرائيل وحمايتها مقابل حماية ودعم كل من يحرض على المسلمين والشعوب العربية، مثل تشريع قوانين محاربة معاداة السامية، وتجريم نقد الهولوكوست، والغريب في الأمر أن نفس الصحيفة (شارلي إيبدو) قامت سنة ألفين وثماني بطرد أحد رسامي الكاريكاتير (موريس سينيت) بعد أن كتب مقالًا ساخرًا؛ يربط فيه بين زواج الرئيس ساركوزي من سيدة يهودية، واحتمال أن يوصله هذا الزواج إلى نجاحات وقبول اجتماعي، وثم تمت ملاحقة هذا الصحفي قضائيًا بتهمة معاداة السامية، بينما الكاريكاتيرات المرسومة ليست مجرد معاداة لدين ما، ولكنها اتهام صريح بالإرهاب لكل المسلمين، ودعوات لتحريض على أقلية تعيش في نفس الدولة.
كشفت حادثة شارلي أن مفهوم الحرية ليس إلا شعارًا (براغماتيًا) تتغنى به هذه الدول، وتوجهه باختلاف صارخ للمعايير لخدمة مصالحها، وإرضاءً لغرورها، وكذلك وَهْم التعددية التي اتضح أنها ليست إلا تعددية تجاه ذلك الانسان الأبيض المسيحي الأصل بمختلف طوائفه، بينما باقي الطوائف والأعراق من سود ومسلمين وأسيويين فهم عُرضة لكل تهميش وتفقير واتهام داخل هذه الدول.
استغلت إسرائيل هذه الحادثة لاكتساب الكثير من النقاط لصالحها، وأولها مشاركة رئيس وزرائها الذي قتل في حربه الأخيرة سبعة عشر صحفيًا وأكثر من ألفي مدني، ليتصدر المسيرة المنددة بالإرهاب، ثم إرجاع حركة المقاومة حماس إلى لائحة الإرهاب الأوروبية التي تم حذفها منها قبيل الحادثة، وأخيرًا عملية الاغتيال التي قامت بها إسرائيل داخل الأراضي السورية لستة من قادة حزب الله بكل أريحية، وسكوت دولي، ردًا لكرامته المهدرة في حرب ألفين وستة مع الحزب، ورفعًا لأسهم قادة إسرائيل قبيل الانتخابات المرتقبة.
كما قسمت حادثة (شارلي إيبدو) الناس إلى فرق منهم من قال: "أنا شارلي"، ووقف مع ضحية الإرهاب وصاحب الإساءة، ومنهم من قال: "أنا كواشي"؛ مساندًا لرد الفعل العنيف ضد المسيء، يبقى على الإنسان المسلم العربي أن يختار أنجح الطرق ليواجه بها موجات قادمة من الإساءات بذكاء وفاعلية، فلا يكون رد فعله انفعاليًا عنيفًا، أو إنبطاحيًا متهمًا لنفسه؛ من أجل أن يرفع الإنسان الغربي تهمة الإرهاب والتطرف عنه، ويعطيه صك المواطن المتحضر، فليس كل إساءة يجب أن يرد عليها بحملات إدانة وتظاهرات حاشدة، ولكن بعض الإساءات يُرد عليها بتجاهلها حتى تموت دون أن يحظى صاحبها بهدفه من الشهرة العالمية، والدعاية المجانية، في حين يجب أن تخوض المنظمات الإسلامية في أوروبا وفي العالم معركتها القانونية لسن القوانين المجرمة لكل إساءة لمقدساتهم أو تحريض عليهم، وأن يستثمروا جهودهم في الميدان الإعلامي؛ حيث تضخ الجهات المعادية للعرب والمسلمين ميزانيات هائلة لمعاداتهم، وتضليل الناخبين، والرأي العام ضد قضاياهم، فحين لا تجد القضايا العادلة للمسلمين والعرب منابر لإيصال صوتهم ومعاناتهم.
كان عدد ضحايا حادثة (شارلي إيبدو) اثنا عشر صحفيًا فرنسيًا، لكن ردة الفعل تجاوزت إلى العالم كله.
يقتل في سوريا والعراق وأفريقيا من المسلمين يوميًا أكثر من مائتي إنسان بِسِكوت أو بأسلحة نفس تلك الدول التي شاركت في إدانة الحادثة، فمتى سيصل المسلمون والعرب أن يبينوا للعالم أن قتلاهم ليسو مجرد أرقام، بل أناس كانوا يستحقون العيش بكرامة وسلام أيضًا؟!
بقلم/ د. عبد الحميد أبوزرة.