موجة الشك واليقين المعرفي
لن يعدم الباحث أن يجد نصوصاً هنا وهناك في الوسط الإسلامي ممَّن تأثر بموجة الشك هذه، سواء أكان الشك مطلقاً أم منهجيّاً، وتلك النصوص المتكاثرة كثرةً ملحوظة في جملة من الدراسات لا تدلُّ إن دلت إلا على رشح الشك بما فيه من نسبيّة مطلقة كرَّس لها كتَّابها كل السبل في بث هذه السموم في الأوساط الثقافيّة تحت ظل العلمانيّة في الخطاب العربي.
من يتتبع موجة الشك عبر عصورها الغابرة؛ يجد أنّ مزاعمها التشكيكية يجمعها أمرٌ كليٌّ يكْمن في جعل الإنسان نفسه مركزاً للمعرفة يُتحاكم إليه.
وقد صيغت هذه الفكرة في عبارة كبيرهم[1] الذي تزعم موجة الشك في هذه الحقبة، حيث يقول: "الإنسان مقياس كل شيء، فهو مقياس أنّ الأشياء الموجودة موجودة، وأن الأشياء غير الموجودة غير موجودة" [2].
وفي معنى ملازمة الشك لتلك النوعيّة من التفلسف، يقول زكي نجيب محمود: "بملاحظة تاريخ الفلسفة يتبيّن لنا أنّ نوع الفلسفة الذي يعتمد التفكير الذاتي، أعني: تفكير الإنسان في نفسه وعقله فقط يعقبه دائماً الشك؛ ذلك لأنّ المعرفة هي علاقة بين العقل والشيء الخارجي، فإذا اقتصر الباحث على النظر إلى عقله ونفسه مهملاً ما في الخارج؛ أدّاه ذلك إلى إنكار ما في الخارج من حقائق"[3].
لن يعدم الباحث أن يجد نصوصاً هنا وهناك في الوسط الإسلامي ممَّن تأثر بموجة الشك هذه، سواء أكان الشك مطلقاً أم منهجيّاً، وتلك النصوص المتكاثرة كثرةً ملحوظة في جملة من الدراسات لا تدلُّ إن دلت إلا على رشح الشك بما فيه من نسبيّة مطلقة كرَّس لها كتَّابها كل السبل في بث هذه السموم في الأوساط الثقافيّة تحت ظل العلمانيّة في الخطاب العربي.
وهم يهدفون من هذا التكريس إلى زعزعة الثوابت والتشكيك فيها، ومسخ قداستها؛ بل تفريغها والاستبدال بها ما يلائم أهدافهم الاستعماريّة، وضرب الأمة في فلذات أكبادها.
ولا يخفى على أولي الألباب مقدار خطر الريبة على عقل المسلم في هذا الوسط الثقافي الذي أصبح من الميسور لدى شبابه أن يتناولوا هذه الفلسفات الشكيّة بعقليّة فارغة من التأصيل وجامحة إلى التغيير؛ فيحصل الزيغ والضلال عن الصراط المستقيم إثر تدفق هذه الفلسفات الشكيّة المنحرفة؛ ولذلك وجب التصدي لهذه الحملة الشكيّة باليقين المعرفي عند علمٍ من أعلام الأمة ورجالاتها، له صولة وجولة مع أولئك الذين نظّروا للشك بأنواعه في سابق الدهر، فجاء على جذوره فاجتثها اجتثاث العالم البصير، فلم يدع لا للمتقدمين منهم ولا للمتأخرين من حجة يحتجون بها، وتركهم أصفاراً لا قيمة لهم.
اليقين المعرفي في المنهج الحزمي
إنّ من ينطلق في المعرفة من اليقين أولى بالاتباع ممَّن يجعل الشك طريقاً لليقين ثم يبرهن على المعرفة بعد ذلك. وممّن جعل اليقين أساساً في المعرفة ولبّاً لها؛ ابن حزم الظاهري؛ ذلك أنّ اليقين عنده مصطلح معياري تخضع له سائر المعارف أصولاً وفروعاً، فهو فيصل التفرقة بين المعرفة المقبولة والمرفوضة، فما لم يؤسس من المعارف على اليقين؛ فلا وزن له ولا اعتداد به ولا وجه له، وما بُني من المعارف على اليقين؛ فهو البرهان والحجة والدليل والحقيقة، وعليه يدور الحكم القطعيّ وجوداً وعدماً. هكذا يكون اليقين حاكماً على قواعد ابن حزم ورُؤاه، من حيث التأسيس لسلَّم الوصول إلى المعرفة.
وفي المعنى السابق نفسه يقول أبو محمد: "ولكن الله تعالى لم يجعل لغير اليقين حكماً" (الإحكام [6/188])،
وقال: "وصح أن لا حكم إلا لليقين وحده" (الإحكام [6/189]).
ولعل من المناسب قبل الحديث عن مصادر المعرفة اليقينية عند ابن حزم أن تسبق بمفهوم اليقين في اللغة والاصطلاح ومدى علاقتهما في المعنى.
مفهوم اليقين في اللغة
أصل مادة (ي ق ن) في المعجم اللُّغوي[4]، تفيء -عند التحقيق- إلى معنى: استقرار العلم وثباته، وزوال الشك وإزاحته.
ويقنَ الأمرَ أي: عَلِمَهُ وتَحَقَّقَهُ (القاموس المحيط [1/1601]، تاج العروس [36/300]).
مفهوم اليقين في الاصطلاح
يأتي مفهوم اليقين في الدرس الاصطلاحي على عدّة معاني، من أهمها تعرّيفات الجرجاني، والتي هي بمنزلة الخلاصة لمن تقدمه في هذا الفن، لهذا المفهوم، وفيه يقول:
- "اعتقاد الشيء بأنّه كذا مع اعتقاد أنّه لا يمكن إلا كذا مطابقاً للواقع غير ممكن الزوال" (التعريفات ص [332]).
- "طمأنينة القلب على حقيقة الشيء" (التعريفات ص [332]).
- "تحقيق التصديق بالغيب بإزالة كل شك وريب" (التعريفات ص [332]).
- "العلم الحاصل بعد الشك" (التعريفات ص [332]).
وعرّفه الراغب بقوله: "سكون الفهم مع ثبات الحكم" ( المفردات ص [892]).
والملاحظ أنّ سكون الفهم عند الراغب هو معنى: طمأنينة القلب عند الجرجاني؛ وهو ما يعرف باليقين الذاتي. ومطابقة الواقع عند الجرجاني هو معنى ثبات الحكم عند الراغب؛ وهو ما يعرف باليقين الموضوعي.
وأورد التهانوي تعريفاً للتيّقن واليقين يفيد: "عدم احتمال النقيض، أي: عدم احتماله لا في نفس الأمر ولا عند العالِم، لا في الحال ولا في المآل، وحاصله: الجزم المطابق الثابت" ( الأصول والفروع، تحقيق: التركماني، دار ابن حزم، ط [1]، [1432]، ص [69]).
والملاحظ أنّ التعريفات جميعها تشير إلى موطن اليقين المرتبط بذاتيّة الإنسان تجاه الواقع الخارجي، ومدى التطابق بين الجانبين: النظري الاعتقادي، والعملي الواقعي؛ بمعنى: حصول العلم الضروري المفيد للتطابق بين الاعتقاد والحقيقة الخارجيّة للشيء المُعتقد، وأنّ اليقين بالشيء في الواقع الخارجي وفي ذات العارف يكون في حقيقته على الجزم والثبات.
ويقول ابن تيمية في معنى مصطلح اليقين: "واليقين: استقرار الإيمان في القلب علماً وعملاً" (جامع المسائل [3/260]).
ومن خلال العرض السابق لمفهوم اليقين اللُغوي ومفهومه الاصطلاحي يظهر للدّارس صبغة التعريف اللُّغوي، وأثره في المفهوم الاصطلاحي لليقين، وذلك من حيث إفادته دلالة التحقق والثبات، فالجذر اللُغوي هو الأصل والأساس لذلك المعنى في هذا المصطلح بالذات.
مدارك اليقين عند ابن حزم
يُقصد بمدارك اليقين عند أبي محمد؛ المصادر التي يحصل بها التصديق اليقيني؛ وهي تنقسم إلى قسمين:
الأول: المصادر الضرورية؛ التي تذعن النفس لها إذعاناً، وتوقن يقيناً لا يمكن دفعه ولا التشكيك فيه. واليقين بهذه الحقائق البدهية: يقينٌ مباشر لا دخل لوسط ثالث فيه.
الثاني: المصادر النظرية؛ التي يحصل بها اليقين حصولاً نظريّاً استدلاليّاً. ودليل هذا التقسيم؛ قوله في مواطن عدة من كتبه إنَّ: "المعلوم قسمان: معلوم بالأصل المذكور، ومعلوم بالمقدمات الراجعة إلى الأصل" (الإحكام [1/43]).
ويقصد ابن حزم بالأصل المذكور: الأصل الذي يُدرك بأول العقل وبالحسّ (الإحكام [1/43])؛ بمعنى: القضايا المسلّم بها بين الناس، وليست موضعاً للمناقشة، بل هي من الممتنع برهانيّاً، يقول في هذا "وإذا تيقن ذلك بالنص وبالضرورة وبالمشاهدة" (الفصل [1/74]).
فالضرورة في المصطلح الحزمي؛ ضرورة العقل أو أول العقل، والمشاهدة في ذلك؛ الحسّ المباشر. أما المقدمات الراجعة إلى الأصل التي تدخل في باب اليقين؛ فهي: المصادر النظريّة الاستدلاليّة، والمصطلح عليها بالمعارف المكتسبة من الأدلة النقليّة (الكتاب والسنة) وما يتفرع عنهما من الإجماع والقياس المنطقي والدليل والاستصحاب، كقوله في بعض هذه المقدمات: "وكل ما نقل بتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أجمع عليه نقل جميع علماء الأمة عنه عليه السلام، أو نقله الثقة عن الثقة حتى يبلغ إليه عليه السلام؛ فداخل في باب ما تيقن ضرورة بالمقدمات المذكورة" (الإحكام [1/43]).
والنص السابق قد تضمن بعضاً من المعارف اليقينيّة النظريّة المكتسبة التي يسميها ابن حزم بالمقدمات، وهي: الأحاديث المتواترة، والإجماع، والآحاد.
ولا فرق عند ابن حزم في الطريق المؤدي لليقين المعرفي إنْ كان استدلاليّاً أو ضروريّاً فهما في إفادتهما العلم على حدٍّ سواء في التيقّن، ليس بينهما تفاوت في الرتبة.
بمعنى: أنّ العلم بالشيء في منهاجه يؤول إلى أنّه: علم يقينيّ ضروري بغضِّ النظر عن الطريق الموصل إليه، فقد يكون أوليّاً لا يحتاج إلى استدلال، وقد يكون نظرياً بالنظر إلى الدليل الصحيح في نفسه، أو إلى الدليل المشتمل على مقدمات -وإن بَعُدت- ولكنّها أفادت العلم اليقينيّ؛ حيث يكون إدراكنا للعلم يقيّنيّاً على حدٍّ سواء وعلى الرغم من تنوّع طرق العلم والمعرفة المؤدية إلى اعتقاد الشيء على ما هو عليه، وفي هذا المعنى يقول: "ولا نبالي إن كان ابتداءُ علمنا استدلالاً أم مُدركا بالحواس؛ إذا كانت نتيجة كل ذلك سواء في تيقّن صحة الشيء المعتقد" (الفصل [3/89]).
وفي معنى أصول اليقينيّات المعرفيّة المفيدة للعلم يقول ابن حزم: "والعلم: تيقّن الشيء على ما هو عليه عن برهان أولي، أو راجع إلى أولي، أو عن اتباع صادق قام البرهان على صدقه" (رسائل ابن حزم [4/413]).
والبرهان الأولي في مصطلح ابن حزم؛ أوائل العقل والحس، والراجع إلى الأولي؛ المقدمات النظريّة، أما اتباع الصادق الذي قام البرهان على صدقه فبيانه؛ أنّ ثبوت المعجزات بالآيات الحسيّة والمعنويّة للأنبياء كان بالعقل؛ وهذا يفيد شهادة صدق من الله تعالى أنهم مرسلون من عند الله تعالى؛ وعليه فقد وجب الإذعان لهم، ولزم تيقّن ما أتوا به من الوحي دون أن تتوقف يقينيّة الدليل النقلي واتّباعه –اعتقاداً وعملاً- على دليلٍ عقلي بعد ثبوت هذه المعجزات، وهذا قيد مهم؛ لكون كل دليل ثبت عند ابن حزم فإنّما يؤول إلى العقل في ثبوته من خلال وسائط متعددة؛ وهذه إحدى المقدمات اليقينيّة التي يكرر ذكرها ابن حزم في تقريراته (الفصل [1/67]).
فالتيقّن الحزمي للشيء؛ هو العلم به على ما هو عليه إما بأوّل الحسّ وبدهية العقل، بمعنى: حصول العلم الضروري الذي لا يحتاج إلى استدلال ونظر؛ بل بمجرد التصور يتحقق هذا العلم، أو عن مقدمات حادثة عن البرهان الأوّلي أو راجعة إليه؛ وهذا هو موطن الاستدلال والنظر، أو بالتسليّم لمن قام البرهان على صدق نبوَّته، وهذا يدخل فيه جميع المعارف الدينية بأصولها وفروعها (انظر: الإحكام [1/39]).
وتلك المقدمات المنتجة للمعرفة يجب أن تكون في منهاج ابن حزم يقينيّةً بذاتها ويقينيّةً في طُرق ثبوتها؛ بل يقينيّةً في فروع مسائلها؛ لتطمئنّ النفس وتعتقد اعتقاداً مطابقاً لمخرجاتها ونتائجها، وفي هذا يقول: "وإنّما ينبغي أن يوثق بما قد تُيقن أنّه لا يخون أبداً" (التقريب، ص [107]).
وهذا النص -المذكور آنفاً- قد أتى بعد حديث أبي محمد عن المقدمات المتغيّرة أو المتغيّرات -بحسب اصطلاح ابن حزم-؛ التي قد تنتج نتاجاً صحيحاً في حين، ولا تنتج ذلك في حين آخر، وما كان على هذه الصفة من عدم الثبات في صدق النتائج وصحتها؛ فلا يوثق به ولا يستند عليه، وإنّما يعوّل على من لا يخون في نتائجه البتة؛ فتأتي نتائجه مستقرة في صدقها وصحتها.
وإذا ما أراد الدّارس أن يضرب مثلاً يجلّي فيه معرفةً من معارف ابن حزم اليقينيّة بذاتها؛ ليمثل بها عن غيرها ممَّا لم يذكر من المعارف الأخرى التي يجب أن تكون يقينيّة كذلك؛ لتحظى بالقبول عند أبي محمد، فيكفي مثلاً لهذا:
الإجماع، وما ينبغي أن يكون عليه من الصفات التي تؤهله لمرتبة اليقين المعرفي، إذ لا بدَّ أن يتوفر في الإجماع جملة من الشروط مجتمعة لتحقيق ذلك؛ كمعرفة جميع الأصحاب له، وقولهم به، وعدم اختلافهم عليه، كما هو الحال في حصول الإجماع بأنّهم صلّوا خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس.
وبذلك يتحقق الإجماع يقيناً في ذاته؛ فينتجُ فروعاً يقينيّةً من فروع معارفه؛ إذ اليقينيّ ينتج يقينيّاً.
وفي معنى تحقق الشروط اللازمة لأن يكون الإجماع يقينيّاً بذاته يقول أبو محمد: "وَالإِجْمَاعُ هُوَ مَا تُيُقِّنَ أَنَّ جَمِيعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفُوهُ وَقَالُوا بِهِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، كَتَيَقُّنِنَا أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ رضي الله عنهم صَلَّوْا مَعَهُ عليه الصلاة والسلام الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ كَمَا هِيَ فِي عَدَدِ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا" (المحلى [1/54]).
وأما كون الطريق المؤدية للمعرفة اليقينيّة؛ يقينيّة، فخير مثال يوضح ذلك: نقل الكافة؛ أي: النقل المتواتر الذي لا يقع بين المسلمين خلاف في وجوب الإذعان له، بل إنّ العقل قبل ذلك يحيل التكذيب به، وفيه يقول ابن حزم: "حتى صار منقولاً نقل كافة: يقطع العذر، ويرفع الشك، ويوقع اليقين، ويوجب العلم الضروري" (حجة الوداع [1/391]).
وأما كونها يقينيّةً في فروع مسائلها فهذا منهج ابن حزم في الأخذ بالزائد حكماً عند تعارض الأدلة فيما يرى الناظر، حيث يرى أبو محمد في مثل هذه الحال أن يستجيب المُستدلُ للنصين المتعارضين لو قَدِر على ذلك بأن يستثنى الأقل من الأكثر؛ ليقينيّته، فإن لم يستطع؛ فعليه بالزائد منهما؛ لكونه اليقينَ الذي يجب الأخذ به كذلك. فالحال حالان: حال يمكن أن يُعملهما جميعاً؛ فهنا يعمل بالاستثناء؛ لأنه يقينٌ، والحال الأخرى لا يمكن أن يُعملهما جميعاً؛ فيعمل بالزائد؛ لكونه اليقين أيضاً.
وفي هذا المعنى يقول أبو محمد: "فإن تعارض فيما يرى المرء آيتين أو حديثين صحيحين أو حديثاً صحيحاً وآية، فالواجب استعمالهما جميعاً؛ لأن طاعتهما على حدٍّ سواء في الوجوب، فلا يحل ترك أحدهما للآخر ما دمنا نقدر على ذلك، وليس هذا إلا بأن يستثنى الأقل معاني من الأكثر؛ فإن لم نقدر على ذلك وجب الأخذ بالزائد حكماً؛ لأنّه متيقن وجوبه، ولا يحل ترك اليقين بالظنون" (المحلّى [1/51]).
والباحث يخلص إلى أنّ ابن حزم يشترط القطعيّة في المعرفة من جهتين: الأولى: من جهة الثبوت، والثانية: من جهة الدلالة.
وما لم يكن قطعيّاً في ذاته أو في دلالته فهو من عداد المعارف المطروحة.
والحاصل من التحليل السابق أنّ رؤية ابن حزم لليقين رؤيةٌ متماسكةٌ ومتعمّقةٌ؛ لما تضفيه من سيماء القوّة للبراهين والثقة بالأدلة؛ ولذلك فلا يمكن -بنظر أبي محمد- أن تخضع هذه الرؤية لأيّ أثر يقلل من هذه المعياريّة لهذا القانون المعرفي الأسمى عنده؛ وعليه فلا بدّ من الرجوع إلى تحقق اليقين في أيّ محاولة معرفيّة منضبطة. وهذا اليقين الحزمي له شواهده الأوليّة التأصيليّة (الحسّ + العقل)، وله مقدماته المعرفية (المصادر الاستدلاليّة المكتسبة من الأوليّة)، وهذه المصادر بشقيها؛ والمؤدية لليقين؛ يلزمها أن تكون برهانيّةً بذاتها أو بغيرها.
موقف ابن حزم من الشكّاك في معرفتنا بالواقع الخارجي
النظرة البسيطة للعالم الموجود لا تُحدث إشكالاً في نظر الناظر إلى الواقع الخارجي من جهة استقلاله عن الذات الناظرة، بل إنّ مجرد احتمال التفكير في مثل هذه القضية يُعد تجاوزاً للموقف الطبيعي للإنسان.
ولو أنّ الإنسان تجاوز هذه النظرة بنوع من الغلُّو -كما حصل لكثير من الفلاسفة-؛ لما وقف على ساحل النجاة، ولوقع في تعدد الاحتمالات والتحليلات التي تنتهي به -غالباً- إلى القول بقول السفسطائية في التشكيك في هذا العالم وعدم اليقين بوجوده (انظر: نظرية المعرفة، فؤاد زكريا ص [15]).
ولكي يكون للإنسان موقفاً طبيعيّاً في نظرته للعَالَم الخارجي فعليه أنّ يُدرك أنّ الحسّ بأنواعه قوّة فطريّة في الإنسان متى ما استعملها في الواقع الخارجي وجد أنّه ينطبع بطابع المعطيات الحسّية انطباعاً مباشراً ضروريّاً لا يحتاج معه إلى وسط ثالث يستدل به على هذا الانطباع الذي حدث له، بل إنّ تحقق إحساسه بهذا الواقع الخارجي يتوقف على سلامة الحسّ ووجود المحسوسّ (انظر: المعرفة في الإسلام، عبد الله القرني ص [341]).
وبُعد الإنسان عن الموقف الطبيعي من الواقع الخارجي، وعدم إقراره بفطريّة هذا الموقف؛ يُدخله في زمرة الشكاّك المنكرين للمعرفة الإنسانيّة، أو في المشككين في اعتبار المعرفة وقيمتها.
ومجمل اتجاهات هؤلاء تعود إلى إنكار الواقع الخارجي كما فعل السفسطائيون القدماء، أو تشكّك في عدم قدرة أدوات المعرفة على إدراك الواقع الخارجي، أو تقول: بتغيّر العلم وعدم ثباته، أو بنسبيّته وعدم إطلاقه (انظر: أصول المعرفة والمنهج العقلي- أيمن المصري ص [36]).
ولعل موقف ابن حزم من الشكاّك في معرفتنا بالواقع الخارجي يُظهر لنا جواب الانطباعات الحسّيّة لهذا الواقع وأصولها الخارجيّة من خلال التفريق بين اعتقادنا للشيء المُدرك الذي ندركه بحواسنا وما مدى استمراره في الوجود في لحظة غياب الحسّ عنه ؟، وهل الانطباع الحسّي الذي أحدثه هذا المُعطى خارج حدود ذواتنا أم هو مجرد انطباع لشيءٍ ليس له كيانٌ مستقلٌ في حقيقة الأمر ؟ بمعنى: هل هذا الانطباع لا مقابل له في الواقع الخارجي؟ (انظر: ديفد هيوم، زكي نجيب محمود، ص [53] وما بعدها).
وأجدر النصوص بالتحليل في هذا الباب؛ لتجلية المنهج المعرفي الحزمي؛ هو رده على مبطليّ الحقائق وهم السوفسطائيون، وفيه يقول أبو محمد يقول أبو محمد: "إنّهم (= مبطلو الحقائق) ثلاثة أصناف: فصنف منهم نفى الحقائق جملة، وصنف منهم شكّوا فيها، وصنف منهم قالوا: هي حق عند من هي عنده حق، وهي باطل عند من هي عنده باطل.
وعمدة ما ذكر من اعتراضهم فهو اختلاف الحواس في المحسوسات كإدراك المبصر من بعد عنه صغيراً ومن قرب منه كبيراً، وكوجود من به حمى صفراء حلو المطاعم مرّاً، وما يرى في الرؤيا مما لا شك فيه لرائيه أنّه حق من أنّه في البلاد البعيدة" (انظره بتمامه: الفصل [1/14] وما بعدها).
والذي يظهر للمتأمل في منهج ابن حزم عموماً خاصة في مجادلته للخصوم؛ الاطّراد الواضح في إبطال دعوى المدّعي، وذلك في جودة ترتيبه لرأي الخصوم، حيث يبدأ عادةً بتفنيد الأشد غلُّواً من أقوالهم أولاً، وذاك سبيل لهدم ما هو أدنى قوّةً من باب أولى وأحرى.
ومبطلو الحقائق -بحسب نص ابن حزم السابق- على أقسام ثلاثة:
فمنهم من نفى تلك الحقائق جملة (= نفي وجود الواقع الخارجي)، وهذا القول لا يُثبت وجود المحسوسات مستقلة عن الإدراك الحسّي.
ومنهم من شك في وجودها، والقسم الثالث منهم: من نظر إلى الحقيقة بحسب اعتقاد الناظر إليها؛ أي: أنّ الحقيقة على قولهم هذا: نسبيّة عنّديّة تدور وجوداً وعدماً مع مُعتَقد الناظر.
وهذه الأقوال التي أوردها الشكّاك تستند إلى أمر مشترك أجمعوا عليه، حيث يزعمون أنّ اختلاف الحواسّ يؤدي إلى الخطأ في نقلها للواقع الخارجي، وأنّ هذا الخطأ الحاصل من هذه الحواسّ لا يجعلُ الإدراكَ الحسّي يقينيّاً.
وقد ذكر أبو محمد ما هو جديرٌ بنقض قولهم هذا عندما بيَّن أنّ عمليّة الإدراك الحسّي لا تحتاج إلّا إلى وجود الموضوع الخارجي، وسلامة المدركات الحسّيّة؛ لكي يتحقق الإدراك الحسّي على وجه الضرورة؛ "وهذه هي البداية والمشاهدات التي لا يجوز أن يطلب عليها برهان" (الفصل [1/14])؛ لأنّ من طلب لأساس البرهان برهاناً؛ لزمه الدور الممتنع، وكانت الأشياء في وجودها -بناء على ذلك- لا نهاية لها، وهذا لا يتشكل في العقل البتة.
كما أنّ أبا محمد أوضح أنّ الخطأ الذي قد يقع في أثناء العمليّة الإدراكيّة يكون خطًأ كذلك؛ لسببين: الأول: فيما له عَلاقة بآفة تصيب الحواسّ؛ فلا تكون مع وجود تلك الآفة سليمةً.
والثاني: فيما له علاقة بتغيّر الواقع الموضوعي للشيء المُدرَك.
وكلا الأمرين لا يقدحان في عمليّة الإدراك الحسِّي ومدى حصول التطابق في هذه العمليّة الإدراكيّة بين الذهن المنطبع بالمعطى الحسّي والواقع المحسوس.
فأمَّا السبب الأول فقد أحال الحواسّ عن وضعها الفطريّ؛ فحصل الخطأ منها تبعاً لذلك، وأما السبب الثاني فإنّ تغير الواقع الموضوعي لا علاقة له بخطأ الحواسّ، بل الحواسّ في هذه الحالة قد نقلته في حال تغيّره على ما هو عليه، وهذا دورها الذي خُلقت من أجله.
وفي هذا المعنى يقول أبو محمد: "وكذلك يشهد الحسّ أيضاً بأن تبدّل المحسوسّ عن صفته اللّازمة له تحت الحسّ؛ إنّما هو لآفة في حسّ الحاسّ له لا في المحسوسّ، جار كل ذلك على رتبة واحدة لا تتحول" (الفصل [1/14]).
وممَّا نقمَ به أبو محمد على هؤلاء الشكاّك؛ خلّو قولهم من البرهان الثابت الذي يُنطلق منه في إثبات الحقائق، حيث تبدّى له أنّ قولهم هذا قول من لا معرفة له أصلاً بشيء، ومن لا معرفة له لا أساس له، ومن لا أساس له، لا يصلح النقاش معه، وفي هذا المعنى يقول: "فإنَّ كان لا يثبت برهاناً فلا وجه لطلبه ما لا يثبته لو وجده" (الفصل [1/14]).
ومع هذا كله إلا أنّه أبطل تسويتهم لحدود الأشياء المستقرة في الخارج وما هي عليه من الصفات بالتفريق بين حال اليقظة، وحال المنام، وبيَّن أن توهم اختلاف الحواس في المحسوسات لا يرجع إلى المحسوسّ وإنما لآفة في حسّ الحاسّ بدليل الضرورة والمشاهدة التي لا تحتاج إلى برهان، ولو طُلب على هذه الضرورات برهان للزم التسلسل وهذا محال لا سبيل إليه ألبتة وقد تقدم ذكر هذا، ويتحصّل من هذا؛ أنّ نفي الحقائق مكابرة للعقل والحسّ معاً.
ويورد ابن حزم على أصحاب القسم الأول ممَّن أنكر الحقائق= جملة أسئلة فيها إلزام لهم وإذعان؛ فلا مفرَّ لهم من أمرين لا ثالث لهما، فعندما يُسألون عن قولهم: أنَّه لا حقيقة للأشياء، يقال لهم: هل قولكم هذا حق أم باطل؟ فإن قالوا: حق؛ أثبتوا حقيقة ما، وإن قالوا: باطل؛ أقروا ببطلان قولهم.
ويقال للشكاك منهم: أشككم موجود وصحيح منكم؟ أم أنّه بخلاف ذلك؟ فإن قالوا بالأول؛ أثبتوا حقيقة ما، وإن لم يقولوا به؛ أبطلوا الشك ونفوه؛ وفي إبطالهم للشك؛ إثبات لليقين.
أما النسبيّون منهم والقائلون بارتباط الحقائق باعتقاد الناظر إليها؛ فليسوا على شيء؛ إذ الحقيقة للشيء في الخارج ليست متوقفة على اعتقاد مُعتقد، ولا إبطال مُبطل؛ بل حقيقة الشيء موجودة وثابتة في نفس الأمر لا يمكن أن يفصلها فاصلٌ، فما أدركه الإنسان هو مجرد الانطباع الحسّي دون إضافة ذلك إلى اعتقاد معتقد أو إبطال مُبطل، ومن جعل الحقيقة للشيء لا تكون حقيقة إلّا باعتقاد، ولا تكون باطلة إلّا باعتقاد آخر؛ فقد جمع بين النقيضين؛ الذي هو عين المحال الذي ينتهي عنده العقل ولا يصدقه.
والذي يّقرّ بأنّ الأشياء حقٌ عند من هي عنده حقٌ؛ فقد أبطل قول القائلين: إنَّ الحقائق باطلة، والعكس وارد على من جعل الأشياء باطلة عند من هي عنده باطلة؛ فقد أحق قول القائلين: إنَّ الحقائق حقٌ.
وصنيع الشكاك هذا إنّما لكونهم ربطوا وجود الأشياء بإدراكها، والحق أن التلازم بين الإدراك ووجود المُدرك؛ باطل.
وفي هذا المعنى يقول ابن حزم: "وإنّما يكون الشيء حقاً بكونه موجوداً ثابتاً سواء أعتقد أنّه حق، أم اعتقد أنه باطل، ولو كان غير هذا؛ لكان الشيء معدوماً موجوداً في حال واحدة في ذاته؛ وهذه عين المحال" (الفصل [1/14]).
وبعدُ، فهذا هو منهج ابن حزم في الحسّ المباشر، عُرف من خلال رده على الشكّاك، حيث تم نقض وتفكيك قول أصحاب الشك السّفسطيّ وفق بدهية الحسّ المؤسسة للمعرفة الصحيحة بجعل الحقيقة متطابقة مع الواقع؛ بمعنى: أنّه أقرَّ التطابق بين حكم العقل الذهني (الإدراك) وبين العين أو الشيء في الخارج (المُدرَك) وأكد ثباته على خصائصه التي هي عليها، ولم يجعل الإنسان مقياساً وأساساً للمعرفة؛ بمعنى: أنّه لم يجعل المعرفة متعلقة بالذات العارفة فقط كما صنع السفسطائيون، بل جعل طرائق إدراك الحقيقة والكشف عنها منوطة بثنائية الحس والعقل والتي تقضي بفك التلازم بين عملية إدراك الشيء المدرك ووجوده في الخارج.
فالحسّ والعقل مكمّلان لبعضهما في حصول المعرفة للنّفس.
والجدير بالذكر في هذا المقام أنّ القول بفطريّة الإدراك الحسّي؛ يجعل الخطأ في عمليّة الإدراك الحسّي لا يُنسب إلى الحواسّ -متى ما كانت سليمة من أي آفة-؛ لكونها فطريّة يقيّنيّة أمينة في نقلها.
والحاصل أنّ الحصولَ على المعرفةِ عند ابن حزم يكون بمجموع الموضوع المعروف والذات العارفة دون أن تكون هذه العلاقة حاكمة على وجود الشيء في الواقع الخارجي في حال إدراكها له، وعدم وجوده في حال عدم إدراكها له؛ بل إنّ الوجود مستقلٌ في وجوده عن عمليّة الإدراك الحسّي؛ مع التسليم بأنّ تمام المعرفة الحسّية لا يحدث فيها انفكاك الحسّ عن العقل في حصول المعرفة؛ وهذا هو الموقف الطبيعي للإنسان الذي يجعل الإدراك الحسّي يقيّنيّاً لا احتمال فيه؛ لاعتبار الأوليّة في قضاياه؛ وهذا هو قول ابن حزم نفسه.
وختاماً، فلا شك أنّ للشكّ ناراً محرقةً، يقاسي حرّها وعذابها من عاش معاناتها.
فالشاكُّ في ريبه يتردّد ويحتار، ويطفئ بشكه نور إيمانه؛ فهو بهذا ينقلب على وجهه ] {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج من الآية:11].
أمّا صاحب اليقين؛ فهو في طمأنينة تضفي على روحه سعادة غامرة وفرحة سارّة، يأنس بربه ويسلِّم الأمر إليه، ويعود في شأنه كله إلى الوحي المنزّل والشرع المطهّر، هكذا هو اليقين الذي تتعطش له النّفس كلما مرّ بها طيف من أطياف الشك.
فمن شك واحتار فليس له دواء كافٍ شافٍ إلا في اليقين.
فباليقين ينتظم للعبد أمران: "علم القلب، وعمل القلب" (الفتاوى [3/329]).
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:4-5].
جمعان بن محمد الحصيني
________________________
[1] (بروتاجوراس انظر: تاريخ الفلسفة الغربية (الفلسفة القديمة)، برتراندرسل، ترجمة: زكي نجيب محمود، 2010، ص [143]).
[2] (تاريخ الفلسفة الغربية (الفلسفة القديمة)، ص [143]).
[3] (قصة الفلسفة اليونانيّة، زكي نجيب محمود، ص [306]).
[4] (انظر: مقاييس اللغة [6/157]، التعريفات ص [332]، المعجم الوسيط [2/1066]، الصحاح في اللغة[2/30]، لسان العرب [13/457]، العين [5/220]).
- التصنيف: