فن الكذب
أحمد البراء الأميري
هل يكذبون علينا فقط؟ أم يكذبون علينا وعلى أنفسهم؟
(المفعول به) في هاتين الجملتين المراد به نحن، العرب والمسلمون، (والفاعل) يُراد به أعداؤنا، وخاصة ما اصطلحنا على تسميته (بالغرب)، ونحن نريد به: أوروبا وأمريكا، أو ما يُسمَّى في بعض البلاد بـ (الرجل الأبيض).
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
هل يكذبون علينا فقط؟ أم يكذبون علينا وعلى أنفسهم؟
(المفعول به) في هاتين الجملتين المراد به نحن، العرب والمسلمون، (والفاعل) يُراد به أعداؤنا، وخاصة ما اصطلحنا على تسميته (بالغرب)، ونحن نريد به: أوروبا وأمريكا، أو ما يُسمَّى في بعض البلاد بـ (الرجل الأبيض).
الحقيقة التي بدت جلية لا خفاءَ فيها (والله تعالى أعلم) أنهم يكذبون علينا وعلى أنفسهم: يخطئ من يظنُّ أنّ (الغرب) لا همَّ له إلا نحن، ويخطئ كذلك من يظنُّ أننا لا نعنيهم في صغير أو كبير.
وبعبارة أخرى نَفْيُ (المؤامرة) خطأ يدلّ - فيما أرى على جهل صاحبه، وتضخيم (المؤامرة) لتملأ كلَّ شيء وهْمٌ من أوهام الكُسالى الذين يعتذرون عن ضعفهم وعجزهم بالمقادير!
أصدرت سلسلة (عالم المعرفة) الكويتية (مرّتين) كتاباً بعنوان (المتلاعبون بالعقول: كيف يجذب محرّكو الدُّمى الكبارُ في السياسة والإعلان ووسائلِ الاتصال الجماهيري خيوطَ الرأي العام..) الكتاب من تأليف: هربرت شيلر، وعنوانه الحرفي بالإنجليزية: مديرو العقول، لكنّ مترجمُهُ الأستاذ عبد السلام رضوان وُفّق في اختيار الكلمة العربية لأنه استوحى المعنى المراد من اللفظ، لا اللفظ نفسَه.
أما مؤلف الكتاب فهو أستاذ جامعي أكاديمي، يكتب في مجال اختصاصه، أنه أستاذُ مادةِ (وسائل الاتصال) بجامعة كاليفورنيا، وكان قبل ذلك أستاذاً بمعهد برات بنيويورك، وبجامعتي: إلينوي، وأمستردام.
نظرت إلى تاريخ الكتاب فأُصبتُ بخيبة أمل لأنه (قديمٌ قديمٌ) في عالم سرعة المحموم (1974م)!! حاولت أن أحصل على آخر طبعةٍ له فقال لي موظف المكتبة -بعد استشارة حاسبه الآلي-: إن الكتاب لم يُعَدْ طبعه! قرأت في الكتاب فشدّني بقوة، وعشت معه أياماً أحسست أنه لا يعدو وصفَ الواقع الذي أعرفه في خطوطه العريضة، وإن كنت أجزم أن تفاصيله تغيّرتْ، وإحصاءاتِه تضخمّتْ. ونظرةٌ إلى عناوينه الرئيسية والفرعية تعطينا فكرة عنه:
التضليل الإعلامي والوعي المعلب - أسطورة الفردية والاختيار الشخصي - أسطورة الحياد - فورية المتابعة الإعلامية - السلبية هي الهدف النهائي لتوجيه العقول - صناعة المعرفة - الحكومة بوصفها مروّجة دعاية - الحكومة بوصفها أداة توجيه للإعلام - العنصر العسكري في صناعة المعرفة - الترفيه والتسلية والتعزيز للوضع الراهن - شركة والت ديزني - صناعة استطلاع الرأي قياسٌ وتصنيع للرأي - هل تقدم استطلاعات الرأي حقائق موضوعية - توجيه للعقول ينتقل إلى ما وراء البحار: تقنيات الاستمالة - المكاتب الاستشارية ومكاتب السمسرة الأمريكية في الخارج - من قانون السوق إلى السيطرة للسياسة المباشرة... هذه بعض العناوين، حبذا لو تدبرّها القارئ (الكريم) من غير أن يمرّ عليها مرور (الكرام) بمجالس اللئام!
قال المؤلف في مقدمته: "يقوم مديرو أجهزة الإعلام في أمريكا بوضع أسس عمليةِ تداولِ (الصورِ والمعلوماتِ)، ويشرفون على معالجتها، وتنقيحها وإحكام السيطرة عليها. تلك الصور والمعلومات التي تحدّد معتقداتنا، ومواقفنا بل وتحدّد سلوكنا في النهاية. وعندما يعمد مديرو أجهزة الإعلام إلى طرح أفكار وتوجهات لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي فإنهم يتحولون إلى سائسي عقول.
إن تضليل عقول البشر هو (أداةٌ للقهر). إنه يمثل إحدى الأدوات التي تسعى النخبة خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة.
على أن تضليل الجماهير لا يمثل أول أداة تتبناها النخب الحاكمة من أجل الحفاظ على السيطرة الاجتماعية. فالحكام لا يلجؤون إلى التضليل الإعلامي إلا عندما يبدأ الشعب بالظهور كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية، أما قبل ذلك فلا وجود للتضليل بالمعنى الدقيق للكلمة، بل نجد بالأحرى قمعاً شاملاً؛ إذ لا ضرورة هناك لتضليل المضطهدين عندما يكونون غارقين لآذانهم في بؤس الواقع".
إن امتلاك وسائل الإعلام والسيطرة عليها، شأنها شأن أشكال الملكية الأخرى، متاحٌ لمن يملكون رأس المال. والنتيجة الحتمية لذلك هي أن تُصبح محطات الإذاعة، وشبكات التلفزيون والصحف، والمجلات، وصناعة السينما، ودور النشر مملوكةً جميعاً لمجموعة من المؤسسات المشتركة والتكتلات الإعلامية. وهكذا يصبح الجهاز الإعلامي جاهزاً تماماً للاضطلاع بدور فعال وحاسم في العملية التضليلية.
إن فهم آليات الصناعة الثقافية الأمريكية أصبح ضرورياً بصورة مُلِحّة؛ فمنتجات ومبتدعات هذه الصناعة يتمّ إنجازها وفقاً لمواصفات مُحدّدة، وبمقومات تمّ اختبارها عمليا. ويُشار على المشاهدين، والمستمعين، والقراء، داخل البلاد وخارجها، أن يعوّدوا أنفسهم على هذه السّمات الممّيزة. إلا أنه يتعين أن يُلاحَظَ أنّ هذا التعوّد (أو التعويد) يمكن في ظروف معينة أن يُلحق الضرر بصحتكم العقلية!! هذا بعض ما جاء في (المقدمة).
والكتاب زاخر بمعلومات جديرةٍ بالتأمل. حسبُ كاتب أن يستيقظ العقل المسلم، وألا يقبل أو يرفض إلا بالحجة البرهان: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، وأن لا يُخدع هذا العقل: لا من قبل الأعداء، ولا من قبل الأقرباء، وإنها لعملية شاقّة على العقول التي اعتادت الكسل، وشاقةٌ لأنّ أصحابها سيصطدمون مع أقرب الناس إليهم. لكنْ: لا بُدّ مما ليس منه بدٌّ، والله الموفق.