لو كانت من قلوب المحسنين

منذ 2015-02-15

الأهم كان ذلك الهمّ الذي يشغله، همّ إنقاذ صاحبيه من ظلمات الشرك في الدنيا ونيران الجحيم في الآخرة، ذلك الهمّ الذي نسيه البعض اليوم، والذي لم يعد يشغلهم في ظل حمى التأطير والتصنيف المتبادل، هم أخشى أن يتحول بعد حين إلى تاريخ يُتحاكى عنه، بعد أن يندثر تحت طبقات سميكة من تصفية الحسابات وسوء الظن..

في هذا المكان البئيس، الذي يجتمع فيه عادة شرار الخلق من السراق والقتلة والغاصبين، وقد يندر أن تجد بارقة نور ولمسة صلاح وجداها، وجد السجينان تلك البارقة فيه: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف من الآية:78].

كان هذا هو المعيار الذي بنيا عليه لجوئهما إليه، وتلك كانت الصفة التي أخذت بقلبيهما إليه، لقد التمسا فيه سمتًا حسنًا، وخلقًا وورعًا، جعلوه أهلاً للسؤال ومظنة للإجابة، لم يكن لسؤاليهما علاقة بمعتقده أو معتقداتهما، لم يسأله صاحباه عن ربه، ولم يشاوراه في شأن أربابهما..

السؤال كان عن رؤيا! عن حلم رآه كل منهما، لكن إجابة المحسن كانت في صميم العقيدة، قبل أن يسارع بتأويل الرؤيا وإجابة السؤال تذكر رسالته، والهم الذي يحمله في صدره، نظر إلى حال المخاطبين وتأمل طبيعة المتلقين فكانت الرسالة قبل الإجابة، والدعوة قبل النفع المباشر..

في البدء كانت الطمأنة أن الجواب لديه، {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا} [يوسف من الآية:37]، هكذا قرر يوسف عليه السلام، وبين أنه على علمٍ بالتأويل، وأن مطلبهما عنده وزيادة، لكن ذلك كله ليس بفضله أو بكسبه، وإنما هو من عند ربه، وهنا يأتي التدرج في توصيل المعنى والرسالة التي يريد لها أن تصل.. {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف من الآية:37].

لقد أدار دفة الحديث إلى أمر الدين بشكل سلس ويسير، ثم استمر في رسالته وأداء مهمته: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف من الآية:37]، {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} [يوسف:38]

هكذا عرف يوسف عليه السلام نعمة الله عليه ولم تنسه إياها تلك الجدران الرطبة، والأسوار العالية التي هو حبيس بداخلها، والنعم التي هو محروم منها، فكل ذلك يهون ما دامت النعمة العظمى موجودة -نعمة الحق وشرف معرفة خالقه وتوحيده وعبوديته-، هكذا عرف النعمة وشكرها ثم عرَّف الخلق بها..

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف:39-40]، دعوة رقيقة راقية، ومنطق سهل بسيط، والأهم رسالة لا ينساها حاملها، ثم بعدها جاءت إجابة السؤال وتأويل الرؤى..

لكن الأهم كان ذلك الهمّ الذي يشغله، همّ إنقاذ صاحبيه من ظلمات الشرك في الدنيا ونيران الجحيم في الآخرة، ذلك الهمّ الذي نسيه البعض اليوم، والذي لم يعد يشغلهم في ظل حمى التأطير والتصنيف المتبادل، هم أخشى أن يتحول بعد حين إلى تاريخ يُتحاكى عنه، بعد أن يندثر تحت طبقات سميكة من تصفية الحسابات وسوء الظن، والصراع المحتدم الذي يجعل الناس في النهاية إما أعداء وإما أولياء، إنه همُّ الدعوة إلى الحق والحرص على هداية الخلق، همّ الأنبياء ومن تبعهم ممن تحملوا الأمانة وفهموا معنى أن تكون حامل رسالة..

عندما يستعيد حملة الرسالة تلك القيمة، وتتعالى من جديد في نفوسهم، سيدركون أن كثيرًا من تلك الجدالات والاستدراج إلى مراء وصراعات لم تكن دائمًا هي الأولى، وأن إجابات أخرى وهمومًا مختلفة كانت أولى بقلوبهم وصدورهم، وأن ليس كل مخالف عدوًا حتى وإن بدا كذلك في الظاهر، فقط لو كانت قلوبًا صادقة في حملها للأمانة والرسالة، لو كانت من قلوب المحسنين. 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 0
  • 0
  • 2,600

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً