بين حداء الغريب وغُواء القريب
محمد بوقنطار
شك أن الناظر لأحوال زاعم الإساءة ومدّعيها لا يعسر عليه الوقوف على حقيقة الدرك الذي تسفل في نقيصته، هذا الآخر وقد ترادفت عليه الأخبار بالصوت والصورة والرائحة والذوق عن أعداد المتحولين من بني جلدته والمنتقلين من وثنية التثليث إلى رحابة عقيدة التوحيد، فهل يستكبر عنه بعد هذا الترادف محاولته الإساءة بله توهمها في حق نبي شريعته تَوَاطئ لسان تنزيلها ومضمون إرسالها على تسفيه أحبارهم ورهبانهم من الذين حادوا عن منهاج النبوة قديمًا وحديثًا، وبلغ بهم الزيغ أن تجاسرت بهم عضلة اللسان أن دعوا للرحمن اتخاذ الولد والصاحبة..
- التصنيفات: مذاهب فكرية معاصرة - قضايا إسلامية معاصرة -
هناك نقطة ما تثير اهتمامي كمسلك توجيهي كلما هممت بكتابة سطور، أو نوع محبور في حق نبينا محمد عليه الصلاة والسلام؛ وخصوصًا عندما تكون الكلمة في انتمائها إلى السطر محيّنة في مقام الدفاع؛ إن سلمنا أنه فعلا دفاع عن سيد الخلق ولا فخر، وإلا فهذا مربط فرس تلك النقطة التي طالما أثارت الاهتمام، إذ كيف لكائن من كان أن يسمي ركز قلمه دفاعًا يريد به استرداد مسلوب قيمة؛ أو استزادة فضل في مقابل تنقيص نقيصة نالت أو كادت تنال ممن زكاه ربه فقال ومن أصدق من الله قيلا: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، ورد عنه عوادي المستهزئين قديمًا وحديثًا فقال جل جلاله: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95].
ولعل من أوجه الكفاية أن نستشرف بما نملك من صحيح انتساب أن الاستهزاء غير بالغ مقصوده، كما هو الشأن في قضية النبز بمذمم، والوسم بمحمد صرفًا من الله وكفاية، وعليه يكاد الاقتناع أن يوقع حضوره في إطار التوجيه بأن ركز القلم وصدع الكلمة لا يمكن إلا أن يوجه في صوب الصحيح من النيات والراجح من المقاصد التي يعد أمر التعبد والقربة بالواجب الذي سقف غايته ومناه قوله سبحانه وتعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل من الآية:40].
مطلب صاحبه الأول وهو يكتب دفاعًا -إن سلمت التسمية- عن سيد الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن أطلق الدفاع فليس هذا إلا من باب التجوز وإن توهم متوهم الإساءة فلا يعدو الأمر أن يكون ضعفًا قد ألبس غير ثوبه ووهنا تدثر بدعوى الرمي والإصابة.
ولا شك أن الناظر لأحوال زاعم الإساءة ومدّعيها لا يعسر عليه الوقوف على حقيقة الدرك الذي تسفل في نقيصته، هذا الآخر وقد ترادفت عليه الأخبار بالصوت والصورة والرائحة والذوق عن أعداد المتحولين من بني جلدته والمنتقلين من وثنية التثليث إلى رحابة عقيدة التوحيد، فهل يستكبر عنه بعد هذا الترادف محاولته الإساءة بله توهمها في حق نبي شريعته تَوَاطئ لسان تنزيلها ومضمون إرسالها على تسفيه أحبارهم ورهبانهم من الذين حادوا عن منهاج النبوة قديمًا وحديثًا، وبلغ بهم الزيغ أن تجاسرت بهم عضلة اللسان أن دعوا للرحمن اتخاذ الولد والصاحبة، كبرت كلمة تخرج من أفمامهم، وهل كان من المناسب أن نقيم وزنًا لدعوى هذا حال أربابها وربانيتها، أو حتى التسليم لهم أن الرمي قد أصابنا في مقتل؟
ولمّا كان الإنصاف عزيزًا وكان التجرد له أصعب كان منهما التنصيص على أن تركيبة هذا الآخر ليست على نسيج واحد، سيما أن حقيقة كون شريعة الإسلام جاءت على وفق الفطرة لامس معطاها إحساس بعض عظماء هذا الآخر، عظمة تدور في مجالهم الذي اشتهروا به وعرفوا به وعرف بهم، فلامست شهادتهم في نبي الإسلام لسان الصدق ولوازم ذلك الإنصاف العزيز والتجرد الأعز.
وانظر في هذا الخصوص إلى ما كتبه (إدوار منته) الفيلسوف الفرنسي في آخر كتبه المسمى (العرب) إذ قال:
"عرف محمد -عليه الصلاة والسلام- بخلوص النية والملاطفة، وإنصافه في الحكم، ونزاهة التعبير والفكر والتحقق، وبالجملة كان محمد أزكى وأدين وأرحم عرب عصره، وأشدهم حفاظا على الزمام، وقد وجههم إلى حياة لم يحلموا بها من قبل، وأسس لهم دولة زمنية ودينية لا تزال إلى اليوم".
وانظر بعد هذا إلى شهادة الإنجليزي (برنارد شو) في مؤلفه (محمد) الذي قامت بإحراقه السلطة البريطانية وهو يقول: "إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد –عليه الصلاة والسلام- هذا النبي الذي وضع دينه دائمًا موضع الاحترام والإجلال، فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالدًا خلود الأبد، وإني أرى كثيرًا من بني قومي دخلوا هذا الدين على بيّنة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة -يعني أوربا-".
إلى أن قال: "وفي رأيي أنه لو تولى أمر العالم اليوم لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها"، وهذا المستشرق الأمريكي (مستر سنكس) في كتابه (ديانة العرب) يقرر قائلاً: "إن الفكرة الدينية الإسلامية أحدثت رقيًا كبيرًا جدًا في العالم وخلصت العقل الإنساني من قيوده الثقيلة التي كانت تأسره حول الهياكل بين يدي الكهان، ولقد توصل محمد بمحوه كل صورة في المعابد وإبطاله كل تمثيل لذات الخالق المطلق إلى تخليص الفكر الإنساني من عقيدة التجسيد الغليظة".
وربما قال قائل وواطأ قوله وصادف هوى ما نتبعه من جهة أننا نؤمن كما يؤمن أن من زكّاه ربه وخلّد ذكره في الأولين والآخرين، وكفاه عوادي المستهزئين، وعصمه من مكر المتربصين، لم يكن في حاجة إلى من يضيف أيّا كان الكسب والإضافة إلى سيرته العطرة وحياته المباركة ورسالته الخالدة ما يضفي عليها قيمة تصديقية، ويطبعها بطابع الأمانة بالنسبة لمنقول السيرة قولاً وفعلاً وتركًا وخَلقًا وخُلقًا.
ولذلك لم نكن لنسترسل في الحكي والعطف تخبيرًا عما وصلنا من شواهد تعطرت بها بعض مصنفات هؤلاء المنصفين، رغم كون الترادف في هذا الباب قد بلغ نصاب الاعتداد به كيفًا لا كمًّا؛ ونوعًا لا جنسًا؛ ومن ثم فلا مجال لمقارنة هذا الصنف بمعشر من صنعة مكره الكاريكاتور والأسلوب المتسفل في رذيلة السخرية، ذات الطابع الارتجالي الذي همه الربح قبل النبح.
وعلى ذكر صنعة النبح فإن اتصال السياق قد يحيلنا في غير تناسب ولا تقارب على صدى نبح وضجيج غُواء محلي يقود دورته بالاسم والرسم والإسلام الحكمي عبد الله وعبد الرحمن وهمّام وحارث، ممن يخوضون اليوم في جراءة قل نظيرها وصفاقة عز مثيلها حربًا استوعبت رحى كرّها الإسلام ونبي الإسلام ورفعت عقيرة المواجهة بزيف التهمة وقبيح النبز وإثم الظن ضد كل ما فيه نسمة دين وريح التزام.
فهذا (محمد أركون) كان ينظر إلى سيرة النبي عليه الصلاة والسلام على أساس أنها لا تختلف عن أي سيرة عادية لغيره من البشر، ثم يزعم في كتابه (نحو نقد العقل الإسلامي) قائلاً أن: "الأجيال المتعاقبة هي التي حولت سيرته إلى صورة أسطورية فتحول تدريجيًا إلى شخصية رمزية مثالية فوق تاريخية عن طريق عمليات التحوير والتضخيم الأسطوري الذي قامت به سيرة ابن إسحاق وابن هشام"، ومن أراد أن يقف على حجم هذا التحامل فما عليه إلا أن يقف على الإيقاع المرتفع الذي امتدح به (أركون) كتب المستشرقين التي حرفت وشوهت السيرة النبوية، بل وصفه إياها في نفس كتابه السابق بأنها "أبحاث جديدة وغزيرة ومبتكرة وأنها أبحاث علمية وريادية...".
وهذا (نصر أبو زيد) يتحدث عن النبوة وأنها لا تعدو أن تكون شيئًا تخيليًا محضًا، فتراه يقول في كتابه (مفهوم النص -دراسة في علوم القرآن-): "إن الأنبياء والشعراء والعرافين قادرون دون غيرهم على استخدام فاعلية المخيلة في اليقظة والنوم على السواء"، فانظر كيف سيق الأنبياء وحشروا بالعطف المدخول مع الغاوين والعرافين، فسبحانك هذا بهتان عظيم.
واسمع إلى (سيد القمني) في كتابه (أهل الدين والديموقراطية)، وهو يقرر في اعتساف متقدم متهمًا وجود الأنبياء والمرسلين بكونه لم يقدم جميل إضافة وكبير نفع إلى البشرية: "يبدوا أن الشيخ زغلول النجار لا يلتفت إلى أن كل معجزات الأنبياء السابقين لم تخدم البشرية بشيء، فالريح التي سخرها الله لحمل البساط السليماني لم تخدم البشرية بشيء، وجن سليمان بكل حشدهم لم يقوموا بإنتاج مصل مضاد لأي مرض، ولم يقيموا مصنع للطائرات، ولم يقم المسيح بتعليم تلاميذه كيفية شفاء المرض توفيرًا لوقت طويل لألفي عام بعده".
وحتى لا نسترسل مع معطوفات هذا الفصام البواح وهذا الغُواء النباح الذي يغنينا عنه معرفتنا لما قامت عليه العقيدة العلمانية كفكرة؛ يقوم فيها الجوهر وعرضه بدور معاداة الدين، وليس أي دين اليوم مستهدف بهذه العداوة سوى دين الإسلام بضابط "تكون هي أو يكون" ولا منطقة أعراف.
هذا ولو اطلعت على خفايا الأفئدة ومكنونات الصدور ووفادة المظان والأسفار، ومخزون قبحها لولّيت منها فرارًا، ولملّئت من ردتها رعبًا، ولكنت مستصغرًا ما خطته أيدي الآخر من رسوم مسيئة ربما احتج عليها في غير صمت أولئك الذين رفعوا شعار: "الدين أفيون الشعوب، وشعار: واجب فصله عن الحياة".
ولما طال بهم مسير الانتكاس أصبحوا في غير إسرار ولا تقية ينكرون المعلوم من الدين بالضرورة، ويطالبون بإسقاط الوحي، ووأد تراثه في جبانة التاريخ، ثم لا يتورعون في إطار احتجاجهم وسط حشد مسيراتهم الجفاء وشواكلهم الغثاء بأن يصيحوا بعبارة "إلا نبينا"، "إلا محمد".
وبين هذا وذلك وهؤلاء وأولئك تذوقت بتدبر قول الله في تأطير علاقة الأمة بالكافرين: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة من الآية:3]، وقوله سبحانه مخاطبًا الإمام القدوة والقائد بالرسالة والنبوة في مقام التخبير والتحذير: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
فلا تستغرب بعد هذا التخبير والتحذير إذا علمت أن هؤلاء ليسوا إلا عينًا وعونًا لأعدائنا علينا، ولا يؤتى المسلمون وبلاد الإسلام إلا عبر تسور محاريبهم وامتطاء ظهورهم، نعوذ بالله من الخيانة والخدلان.