معلمة الرجال
هي عائشة بنت الصديق، القرشية، التميمية، المكية، أحب نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قلبه وابنة أحب الرجال إليه، كما قال لعمرو بن العاص –رضي الله عنه- حين سأله: "أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟" فقال: ((عائشة))، فقال: "وأي الرجال"؟ قال: ((أبوها)).
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
من الغيث الصافي يحلو عذب الكلام، ومن فيض النبوة نتلمس الحديث عن أم من أمهات المؤمنين -رضوان الله عليهن- جميعاً.
هي عائشة بنت الصديق، القرشية، التميمية، المكية، أحب نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قلبه وابنة أحب الرجال إليه، كما قال لعمرو بن العاص –رضي الله عنه- حين سأله: "أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟" فقال: ((عائشة))، فقال: "وأي الرجال"؟ قال: ((أبوها)).
نشأة تمضي بها نحو المجد:
امرأة جمعت لها الدنيا مع نعيم الآخرة، حين كانت نشأتها بين أولئك الذين رغبوا عن الدنيا بالتقرب إلى الله راجين ثوابه وخاشين عقابه، أبوها الصديق - رضي الله عنه - الغني عن التعريف أول من آمن من الرجال، وكان قبل إسلامه من مشاهير مكة وأكثرهم جوداً وكرماً ومعرفة بأنساب العرب وأشعارهم وأيامهم، أما أمها فهي أم رومان صاحبة الأدب والفصاحة والجمال وإحدى أوائل النساء اللاتي دخلن في دين الله، فكانت نشأتها في بيت علم وفصاحة ودين مكنها من الانتقال إلى بيت النبوة وقد تمكن أساسها، فاستقام عودها وارتوت معه قدراتها العقلية والخلقية لتصبح فيما بعد أعظم معلمة للنساء والرجال في تاريخنا الإسلامي.
مصاهرة الأحبة:
يروي البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيتك في المنام ثلاث ليال، جاء بك الملك في خرقة من حرير فيقول: هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا أنت فيه، فأقول: إن يك هذا من عند الله يمضيه)). فما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن خطبها ثم دخل عليها ولها من العمر تسع سنين وكان عمره ثلاثة وخمسين عاماً.
في بيت النبوة:
في شهر شوال من السنة الثانية من الهجرة وبعد غزوة بدر تزوج النبي - عليه الصلاة والسلام - من عائشة –رضي الله عنها-، فانتقلت العروس إلى بيت النبوة الجديد الذي كان عبارة عن حجرة من حجرات النبوة المطلة على المسجد وقد وضع فيه فراش من أدم حشوه ليف، وليس بينه وبين الأرض سوى حصير، وبابه ستار من الشعر، في هذا المكان البسيط المجرد من كل بذخ الدنيا بدأت عائشة –رضي الله عنها- حياة زوجية حافلة، تنعم بكونها أحب الزوجات إلى قلب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
فضلها:
في رواية للبخاري ومسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا بنته فاطمة الزهراء –رضي الله عنها-: ((أي بنية، ألست تحبين ما أحب...؟ فقالت: بلى، قال: فأحبي هذه -ويقصد عائشة-)).
وكان الصحابة -رضوان عليهم- يقدرون مكانة عائشة –رضي الله عنها- في قلب النبي - عليه الصلاة والسلام - فيحرصون على تقديم هداياهم له في يوم عائشة، وكانت - رضي الله عنها - ممن أبلغها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل يقرئها السلام.
بلغت عائشة –رضي الله عنها- مكانة عظيمة عند الله - عز وجل - حين كانت سبباً في حكم من أحكام التخفيف التي شرعها الشارع للتيسير على الأمة، فقد روي: أن عائشة –رضي الله عنها- استعارات من أختها أسماء قلادة ثم أضاعتها، فأرسل النبي - عليه الصلاة والسلام - ناساً من أصحابه للبحث عنها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوا ذلك فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: "جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً وجعل للمسلمين فيه بركة"، وصدق أسيد فيما قال إذ يكفي عائشة –رضي الله عنها- أن براءتها من حادثة الإفك جاءت من فوق سبع سماوات قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، وحصناً منيعاً يحمي المرأة المسلمة من ألسنة أصحاب القلوب المريضة.
وقد قال عنها - عليه الصلاة والسلام -: ((وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)).
عائشة المرأة والزوجة:
كانت عائشة أشد نساء النبي - صلى الله عليه وسلم- غيرة عليه، وربما زادت غيرتها مع تكاثر الزوجات ومزاحمتهم في حبها للنبي الكريم، غير أن غيرتها كما يجمع المؤرخون لم تخرجها عن الحدود المشروعة ولم تصل بها إلى ما قد تصل به النساء الأخريات، إنما كانت بما يتناسب مع طبيعة المرأة، ولا يغيب عن أذهاننا أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان الرجل الأول في حياة عائشة –رضي الله عنها-، وهذا يعطيها حقها في أن تغار على محمد – عليه الصلاة والسلام- الزوج الذي آنسها وأغدق عليها من حبه واحترامه وعطفه مما يجعل الغيرة عليه حقاً طبيعياً وضعه الله في قلب حواء.
وقد اتفق أن عائشة –رضي الله عنها- رأت النبي - صلى الله عليه وسلم- يطيل في مكوثه عند زينب بنت جحش –رضي الله عنها-، فلما استبانت الأمر علمت أنها تسقيه عسلاً، ففكرت في حيلة أشركت معها سودة بنت زمعة وحفصة بنت عمر –رضي الله عنهن- واتفقت معهن أيتها يدخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد انصرافه من زينب فلتقل له: أكلت مغافير، فكان أن مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بعائشة –رضي الله عنها- فقالت له: أشم رائحة مغافير، فلما مر بحفصة، فقالت له ذات الشيء وإذا بسودة بنت زمعة تؤكد الأمر بلهجة من تعرف مراعي البادية، فقالت: رعت نحلة العرفط، وهو الشجر الذي يثمر المغافير، فما كان منه - صلى الله عليه وسلم- إلا أن امتنع عن شرب العسل عند زينب، فأحست سودة بالندم على ما قالت، بل إنها كادت أن تتراجع عن قولها لولا خوفها من عائشة –رضي الله عنها-!!! فنزلت: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم).
ويلاحظ من سياق هذه القصة أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لم يكن ليعاقب زوجاته حين يعلم خطأهن بشيء من القسوة والضرب أو التوبيخ غير اللائق كما يحلو لبعض الرجال فعله، فقد قابل هذه الغيرة وأمثال هذه القصة بالضحك تارة أو بالحزم عن طريق الهجر تارة أخرى ولم يزد على ذلك.
المعلمة لرجال الأمة:
لكن عائشة –رضي الله عنها- التي رافقت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لأكثر من تسع سنين لم تكن أمور الغيرة وأحزاب النساء تأخذها عن النهل من معين النبوة العذب، فقد كانت في حياتها معه متعلمة وحافظة وعابدة كما وصفتها مليكة: "أنها كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرف".
وحين مات عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت في عمر الثامنة عشرة تتوج ما أخذته عن أبيها من علوم العرب وأشعارهم وأخبارهم بما تلقته من علم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتبلغ به مبلغاً فاق أعاظم الصحابة في بعض جوانبه، ويذكر الزركشي صاحب كتاب (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة من الصحابة): "أنها استدركت على ثلاثة وعشرين من أعلام الصحابة مثل: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، وبلغ عدد استدراكاتها تسعاً وخمسين، منها ما جاء عن عبيد الله بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن فقالت: يا عجباً لابن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن! أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن، لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد ولا أزيد أن افرغ على رأسي بثلاث فرغات".
وعنها أيضاً أنها قالت: "ألا يعجبك أبو فلان -هو أبو هريرة- جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يسمعني ذلك، وكنت أسبح -أصلي- فقام قبل أن أقضي سبحتي ولو أدركته لرددت عليه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسرد الحديث كسردكم".
وكانت أم المؤمنين –رضي الله عنها- في قوة حافظتها تخرج الحكم بدقة متناهية قد تفوت في بعض الأحيان غيرها من أمهات المؤمنين، إذ يذكر أن زوجات النبي –صلى الله عليه وسلم- هممن بعد وفاته بإرسال عثمان لأبي بكر يسألنه عن ميراثهن من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فإذا بعائشة –رضي الله عنها- تجيبهن بقولها: "أليس قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا نورث وما تركنا صدقة))".
وقد علّمت الرجال والنساء أن ما عند الله أبقى، فكانت من سخائها وكرمها تنفق ما بيدها وتنسى أن تترك القليل منه لشراء طعام إفطارها، (كما في القصة المشهورة).
تركت أم المؤمنين –رضي الله عنها- نبراساً تعليمياً قل نظيرة بين نساء الأرض قاطبة جعلت لها مكانتها في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته، فقد ظلت طيلة حياتها محط قلوب أهل العلم يفد إليها التابعون لتلقي العلم عنها، فكانت أماً لهم وليس لها ولد، ومعلماً عن نبيهم –صلى الله عليه وسلم- لأدق تفاصيل حياته الخاصة في أمور قد لا يعلمها الرجال، استطاعت بقوة علمها وشخصيتها القيادية أن تضرب الأمثلة للمرأة المعلمة والمتعلمة.
بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم-:
انتقل نبي الأمة –صلى الله عليه وسلم- إلى بارئه بعد أن بلغ الرسالة وحفظ الأمانة ونصح الأمة.. ميراثه قرآن باق إلى يوم القيامة، وسيرة نبوية عطرة عرفها المقربون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعملوا على تبليغها والتحدث عنها لترتقي أم المؤمنين عائشة بنت الصديق –رضي الله عنها- إلى مصاف كبار المبلغين عن حياته ونهجه، يطرق بابها السائلون من كل مكان مستفسرين عن مسألة لربما لم يستطع كبار صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- البت فيها فيوجهون السائل إلى حيث تسكن عائشة –رضي الله عنها- في حجرة النبوة ليفهم منها ثم يأتيهم بالخبر اليقين.
ومع توالي الأيام تزداد مكانة أم المؤمنين في نفوس المقبلين على دين الله في ظل اتساع رقعة الإسلام على عهد عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-، كلهم يرغب في النهل من معين الدين الجديد فتكون عائشة - رضي الله عنها - أحد الينابيع الفياضة لأولئك العطشى المتشوقين لمعرفة سيرة خير الأنام –عليه الصلاة والسلام- والباحثين عن أحكام الشرع في كافة الجوانب الحياتية، وبعد وفاة الفاروق - رضي الله عنه - تلتف الأمة المسلمة حول ذي النورين –رضي الله عنه- لتستمر شمس الإسلام مشرقة تسطع بعظيم نورها على القاصي والداني وأم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- تعلم الناس وتنصح الأمة وتبين الأحكام حتى حق لها أن تكون معلمة الرجال.
جزى الله أمنا ومعلمة أجيالنا عن الإسلام كل خير، وجعلها في علمها وعبرها نبراساً لنا.
المرجع: مجلة المنار، العدد (69)، ربيع الثاني (1424هـ).
إيمان الوزير