القصيدة الوضَّاحِيَّةُ في مدح أم المؤمنين رضي الله عنها
ومما أبر به صاحب هذه القصيدة أنه جعلها على لسان السيدة عائشة نفسها، فجعلها هي التي تناظر وتفاخر وتدفع في نحور الأعراء بسلاح الحجة والبرهان الذي يطوقهم الخزي والعار
قال العلامة سيدي عبد الله كنون:
هذه قصيدة من أروع الشعر وأبدعه، في مناقب أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -، اشتملت على ذكر فضائلها، وفضائل والدها أبي بكر الصديق، ومجادلة الخصوم المبغضين لها المتقولين عليها، ومحاجتهم بالدليل من الكتاب والسنة في أيمان صادق ودفاع حار، وبالواقع التاريخي الذي لا نزاع فيه من سيرتها العطرة وسيرة أبيها الخليفة الأول رضوان الله عليه، وكل ذلك بأسلوب بارع وبيان رفيع، ونظم محكم متين، وإلى هذا وبقطع النظر عن كل اعتبار، فالقصيدة تعبر عن عاطفة إنسانية رفيعة لأنها تتخذ موقف المساندة بجنب سيدة شريفة أثناء أزمة هي أعنف أزمة تمر بها امرأة في حياتها، فتنافح عنها وعن كرامتها حتى تحتفظ لها بسمعتها الطيبة وذكرها الجميل.
ومما أبر به صاحب هذه القصيدة أنه جعلها على لسان السيدة عائشة نفسها، فبعد المطلع الذي يوذن بمقصوده تخلص في البيت الثاني إلى إعطائها الكلمة، فجعلها هي التي تناظر وتفاخر وتدفع في نحور الأعراء بسلاح الحجة والبرهان الذي يطوقهم الخزي والعار، فلو أنها - رضي الله عنها - نطقت فعلاً بشعر في الموضوع لما زادت على ما احتوته هذه القصيدة، وهي من هي قوة بيان وشدة عارضة.
وهذا مما يدل على بلاغة منشئها، ومقدرته البيانية، وتمكنه من صناعة الشعر، فضلاً عن رسوخ قدمه في المعرفة بعلم الحديث والسيرة النبوية والتاريخ وسائر العلوم الإسلامية.
وهذا نص القصيدة:
مَــا شَــانُ أُمِّ الـمـؤمنين وشَـانـي *** هُـدي الـمُحِبُّ لـها وضَـلَّ الشَّاني
إنِّـــي أقـــول مُـبَـيِّـناً عــن فَـضْـلِها *** ومُـتَـرجـماً عـــن قـوْلـها بـلِـسَاني
يــا مُـبْـغضي لا تَــأْت قَـبْـرَ مـحـمَّدٍ *** فـالـبَـيْتُ بـيـتي والـمَـكانُ مَـكـاني
إِنِّـي خُـصِصْتُ عـلى نِـساءِ مُحَمَّدٍ *** بِــصِـفـاتِ بِــــرٍّ تَـحْـتَـهُـنَّ مَـعـانـي
وَسَـبَـقْـتُهُن إلــى الـفَـضَائِل كُـلَّـها *** فـالـسَّبْقُ سَـبقي والـعِنَانُ عِـنَاني
مَــرِضَ الـنَّـبِيُّ وَمَـاتَ بـين تَـرَائِبِي *** فـالـيَـوْمَ يَــوْمـي والـزَّمـانُ زَمـانـي
زَوْجـــي رَســولُ الله لَــمْ أرَ غَـيْـرَهُ *** الله زَوَّجَـــنـــي بــــــه وحَــبَــانــي
وأتـــاهُ جِـبـريـلُ الأمـيـنُ بِـصُـورتي *** فَـأحَـبَّـني الـمُـخْـتَار حِــيـنَ رَآنــي
أنـــا بِـكْـرُه الـعَـذْراءُ عِـنْـدي سِــرُّهُ *** وضَـجـيـعُهُ فـــي مَـنْـزِلـي قَـمَـرانِ
وَتَــكَــلَّـمَ اللهُ الـعـظـيـمُ بِـحُـجَّـتـي *** وَبَــرَاءَتِـي فـــي مُـحْـكَـمِ الــقُـرآنِ
وَالله خَــفَّـرَنـي وَعَــظَّـمَ حُـرْمَـتِـي *** وعــلــى لِــسَــانِ نَــبِـيِّـهِ بَــرَّانِـي
والله فــي الـقُـرآنِ قــد لَـعَنَ الـذي *** بَــعْــدَ الــبَــرَاءَةِ بـالـقَـبيح رَمــانـي
والله وَبَّـــــخَ مَـــــنْ أرَادَ تَـنَـقُّـصـي *** إفْـكـاً وسَـبَّـحَ نَـفسَهُ فـي شـاني
إنّـــــي لـمُـحْـصَـنَـةُ الإزارِ بَــرِيــئَـةٌ *** ودلـيـلُ حُـسْنِ طَـهَارتي إحْـصاني
واللهُ أَحْـصَـنَـنِـي بــخـاتِـمِ رُسْــلِــه *** وَأَذَلَّ أَهْـــــلَ الإِفْـــــكِ والـبُـهـتـانِ
وسَـمِـعْتُ وَحْــيَ الله عِـنْدَ مُـحَمَّدٍ *** مـــن جِـبَـرَئـيلَ ونُـــورُه يَـغْـشـاني
أَوْحَــى إِلَـيْـهِ وَكُـنْـتُ تَـحـتَ ثِـيـابِهِ *** فَــحَـنَـا عــلــيَّ بِــثَـوْبِـهِ وخَـبَّـانـي
مَــنْ ذَا يُـفَـاخِرُني ويـنْكِرُ صُـحْبَتي *** ومُــحَـمَّـدٌ فـــي حِــجْـرِه رَبَّــانـي؟
وأَخَــذتُ عــن أَبَــوَيَّ ديــنَ مُـحَمَّدٍ *** وَهُـمَـا عـلـى الإِسْـلامِ مُـصْطَحِبَانِ
وأبـــي أَقــامَ الـدِّيـن بَـعْـدَ مُـحَـمَّدٍ *** فَـالنَّصْلُ نـصْلي والـسِّنَان سِـناني
والـفَخْرُ فَـخْرِي والـخِلَافَةُ فـي أبي *** حَـسْـبِـي بِـهَـذَا مَـفْـخَراً وَكَـفـاني
وأنــا ابْـنَـةُ الـصِّدِّيقِ صَـاحِبِ أَحْـمَدٍ *** وحَـبِـيـبِهِ فـــي الــسِّـرِّ والإِعـــلانِ
نَـــصَــر الــنـبـيَّ بــمـالِـهِ وفِــعـالِـه *** وخُــرُوجِــهِ مَــعَـهُ فـــي الأوطـــانِ
ثَـانيه فـي الـغارِ الـذي سَدَّ الكُوَى *** بِــرِدَائِــهِ أَكْــــرِم بِــــهِ مِـــنْ ثـــانِ
وَجَـفَـا الـغِـنى حَـتَّى تَـخَلَّل بـالعَبَا *** زُهــــداً وأَذْعَــــنَ أَيَّــمــا إِذْعَــــانِ
وتَـخَـلَّـلَتْ مَــعَـهُ مَـلائِـكَـةُ الـسَّـما *** وأَتَـــتْــهُ بُــشــرى اللهِ بــالـرِّضْـوَانِ
وهــو الـذي لَـمْ يَـخْشَ لَـوْمَة لائـمٍ *** فــي قَـتْـلِ أهْـلِ الـبَغْيِ والـعُدوانِ
قَـتَلَ الأُلـى مَـنَعوا الـزَّكاة بـكُفْرِهِمْ *** وأَذَل أَهْـــــلَ الــكُــفـر والـطُّـغـيـانِ
سَـبَـقَ الـصَّـحَابَةَ والـقَـرَابَةَ لِـلهُدى *** هو شَيْخُهُمُ في الفضلِ والإِحْسَانِ
واللهِ مـــا اسْـتَـبَـقُوا لِـنَـيْلِ فـضـيلةٍ *** مِـثْـلَ اسـتـباقِ الـخيلِ يـومَ رِهـانِ
إلاَّ وطــــارَ أبــــي إلـــى عَـلْـيَـائِها *** فــمـكـانُـه مــنـهـا أَجَــــلُّ مــكــانِ
وَيْــــلٌ لِــعَـبْـدٍ خــــانَ آلَ مُــحَـمَّـدٍ *** بِـــــعَــــدَاوةِ الأزواجِ والأخْــــتــــانِ
طُـوبى لِـمَنْ والـى جـماعةَ صَحْبِهِ *** ويــكـونُ مِـــن أحْـبَـابِـهِ الـحَـسَنانِ
بــيــنَ الـصـحـابةِ والـقـرابـةِ أُلْــفَـةٌ *** لا تـسـتـحـيلُ بِـنَـزْغَـةِ الـشـيـطانِ
هُـمْ كـالأَصابِع فـي الـيدينِ تـواصُلاً *** هـــل يَـسْـتَـوي كَــفُّ بـغـير بَـنَـانِ
حَـصِـرَتْ صُــدُورُ الـكـافرين بـوالدي *** وقُـلـوبُـهُمْ مُـلِـئَـتْ مـــن الأضـغـانِ
حُــبُّ الـبَـتولِ وَبَـعْـلِها لــم يَـخْتَلِفْ *** مِـــن مِــلَّـةِ الإِســلامِ فـيـه اثـنـانِ
أكــــرم بــأربـعـةٍ أئــمــةِ شَــرْعِـنـا *** فَــهُــمُ لِــبـيـتِ الــديـنِ كــالأَرْكَـان
نُـسِجَتْ مَـوِدَّتُهم سَـدًا فـي لُحْمَةٍ *** فَـبِـنـاؤهـا مِــــنْ أَثْــبَــتِ الـبُـنـيـانِ
الله ألَّــــــفَ بَـــيْـــنَ وُدِّ قُــلُـوبِـهِـمْ *** لِــيَـغِـيـظَ كُــــلَّ مُــنَـافِـقٍ طــعَّــانِ
رُحَــمـاءُ بَـيْـنَـهُمُ صَـفَـتْ أَخْـلاَقُـهُمْ *** وخَــلَـتْ قُـلُـوبُـهُمُ مِـــنَ الـشَّـنَـآنِ
فَـدُخُـولُـهُم بَــيْـنَ الأَحِــبَّـةِ كُـلْـفَـةٌ *** وسِـبَـابُهُمْ سَـبَـبٌ إِلــى الـحِـرْمَانِ
جَـمَعَ الإِلـهُ الـمسلمين على أبي *** واسـتُـبـدلوا مِـــنْ خـوْفـهم بـأَمـان
وإذا أرادَ اللهُ نُــــصْــــرَة عَــــبْــــدِهِ *** مَــنْ ذا يُـطـيقُ لَــهُ عـلـى خُـذْلانِ
مَـن حَـبَّني فَـلْيَجْتَنِبْ مَـنْ سَـبَّني *** إنْ كـــانَ صــانَ مَـحَـبَّتي ورعـانـي
وإذا مُـحِـبِّـي قَـــدْ أَلَــظَّ بِـمُـبْغِضي *** فَـكِـلَاهُما فــي الـبُـغضِ مُـسْتِويانِ
إِنــــي لَـطَـيِّـبَـةٌ خُــلِـقْـتُ لـطـيِّـبٍ *** ونِــسـاءُ أَحْـمَـدَ أطـيـبُ الـنِّـسْوانِ
إنـــي لأَمُّ الـمـؤمنينَ فَـمَـنْ أَبَــى *** حُـبِّـي فَـسَـوْف يَـبُـوءُ بـالـخُسْرَانِ
اللهُ حَــبَّــبَــنـي لِــقَــلْــبِ نَــبِــيِّــه *** وإلـى الـصراطِ الـمستقيمِ هـداني
واللهُ يُــكْــرِمُ مَــــنْ أَرَادَ كَــرامـتـي *** ويُـهـيـنُ رَبِّـــي مـــن أرادَ هـوانـي
واللهُ أَسْـــأَلُـــهُ زيــــــادةَ فَــضْــلِــهِ *** وحَــمِـدْتُـهُ شــكْـراً لِــمـا أوْلانـــي
يــا مــن يَـلُـوذُ بِـأَهْـلِ بَـيْتِ مُـحَمَّدٍ *** يــرجــو بــذلـك رحــمـةَ الـرحـمـانِ
صِــلْ أُمَّـهَـاتِ الـمـؤمنينَ ولا تَـحُـدْ *** عَــنَّــا فَـتُـسْـلَـبْ حُــلَّـةَ الإِيــمـانِ
إِنــــي لـصـادِقَـةُ الـمـقـالِ كـريـمـةٌ *** إِيْ والَّــــذي ذَلَّـــتْ لَـــهُ الـثَّـقَـلانِ
خُـذْهـا إلـيـكَ فـإِنَّـمَا هــي رَوْضَــةٌ *** مــحــفـوفَـةٌ بـــالــرَّوحِ والــرَّيــحـانِ
صَـلَّـى الإلــهُ عـلـى الـنـبيِّ وآلِــهِ *** فَـبِـهـمْ تُــشَـمُّ أزاهِـــرُ الـبُـسـتانِ
- مجلة المناهل، تصدرها وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الثقافية الرباط- المغرب، العدد السادس، السنة الثالثة، رجب 1396هـ/ يوليوز 1976م، (ص: 25-34).
- كتاب القصيدة الوضَّاحِيَّةُ في مدح السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - للإمام أبي عمران موسى بن محمد بن عبد الله الأندلسي المعروف بابن بهيج (كان حيا سنة 496هـ)، اعتنى بها: محمد صالح يعقوبي، دار البشائر الإسلامية ـ لبنان ـ الطبعة الأولى 1423هـ/2002م (ص374-377).
موسى بن محمد بن عبد الله الأندلسي.
- التصنيف:
- المصدر: