ليبيا الدولة وليبيا القبيلة

منذ 2015-02-17

القبلية من أكبر المعوقات التي واجهتها دعوة الإسلام في أيامها الأولى، فقد كان الولاء للقبيلة والعشيرة أكبر من أي ولاء آخر، فهو مقدم على كل الأعراف والأخلاق والمبادئ والمثل، فشعار العربي القديم كما قال دريد بن الصمة أحد فرسان هوازن، وقد وافق على الاشتراك في القتال ضد المسلمين في غزوة حنين رغم عدم اقتناعه بالحرب، بسبب ولائه لقبيلته.

القبلية من أكبر المعوقات التي واجهتها دعوة الإسلام في أيامها الأولى، فقد كان الولاء للقبيلة والعشيرة أكبر من أي ولاء آخر، فهو مقدم على كل الأعراف والأخلاق والمبادئ والمثل، فشعار العربي القديم كما قال دريد بن الصمة أحد فرسان هوازن، وقد وافق على الاشتراك في القتال ضد المسلمين في غزوة حنين رغم عدم اقتناعه بالحرب، بسبب ولائه لقبيلته:

هل أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت، وإن ترشد غزية أرشد

والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بذل جهداً خارقاً لنقل العرب من مرحلة القبيلة لمرحلة الدولة، ومكث لتأسيس هذا المفهوم لأكثر من عشرين سنة وربى أتباعه وأصحابه على هذا المفهوم حتى وعوه وفهموه جيداً وساروا على دربه، فأسسوا حضارة كبيرة حملت في طياتها عوامل بقائها وانتشارها، وظل الإسلام يعمل جاهدا لاقتلاع هذه العصبية القبلية من النفوس والقلوب، وينقل هذه الولاءات المتفرقة والمتشرذمة للإطار الأكبر؛ إطار الدولة، لأن القبلية هي أس البلاء الذي يفكك الأطر الطبيعية لأي نظام مؤسسي، ورغم الجهود العظيمة التي بذلت عبر التاريخ للتخلص من هذا الداء المجتمعي الخطير إلا أنه مازال راسخاً متجذراً في الكثير من المجتمعات بسبب العادات والموروثات والتربية الخاطئة، وأيضا بسبب السياسات الاستبدادية والأنظمة القمعية التي تعتمد في موارد بقائها على أمثال هذه الأفكار الجاهلية والموروثات البائسة، بل إن العصبية القبلية تعتبر من أهم معاول هدم هذه الأمة، وأسقطت العصبية القبلية دولا عظيمة وحضارات كبرى عبر التاريخ، فالدولة الأموية المجاهدة القوية التي صمدت أمام أعدائها الكثيرين ولم تبدو يوما بمظهر الضعف إلا أنها قد سقطت بالضربة القاضية أمام العصبية القبلية بين بطون العرب من قيس ومضر، ودولة الإسلام في الأندلس صمدت أمام الصليبيين لثماني قرون ولكنها لم تستطع أبدا أن تتخلص من داء العصبية الذي ضرب في جذورها منذ الفتح الإسلامي، فظل جرح العصبية يئن عليها حتى صرعها في النهاية، وفي العصر الحديث ضربت القبلية معظم بلاد أفريقيا وضربت العديد من دول المنطقة، وراجت وانتشرت لأنها كانت أحد أدوات السيطرة والهيمنة التي استغلتها الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية في عالمنا العربي والإسلامي لتفريق الشعوب وتمزيق وحدتها.

ليبيا شأنها شأن الدول العربية التي كانت منكوبة بثلة من الطواغيت المتجبرين الذين لا يبالون بأي طريق ساروا من أجل تحقيق مصالحهم الخاصة، ولكن الحالة الليبية كانت شديدة الخصوصية إذ كان يحكم البلاد لأكثر من أربعين سنة طاغية من نوع خاص، خليط عجيب من السفه والغرور والعجب والطيش والعنجهية والجهل، كل هذه الصفات تجسدت في رجل اسمه "القذافي"، رجل عديم المواهب فقير الإمكانات ظل يحكم هذا البلد الشاسع الثري بموارده الطبيعية معتمدا على حسابات قبلية محضة، إذ عمد منذ أيامه الأولي في الحكم على استغلال الخلاف التاريخي العميق بين قبائل شرق ليبيا وغربها، وهو الخلاف الذي يرجع تاريخه لأيام الدولة القرمانية التي ظلت تحكم ليبيا لسنوات طويلة نيابة عن الخلافة العثمانية، وقد فطن المحتل الإيطالي لهذا الخلاف العصبي فاعتمد عليه في تكريس احتلاله للبلاد، فاهتم بغرب ليبيا على حساب شرقها الذي أهمله بشدة وحرمه من الخدمات والمرافق الحيوية، فلما جاء الطاغية القذافي سار على درب الطليان من تكريس وتعميق الفجوة الاجتماعية بين الشرق والغرب، وبالغ في الاتكاء على العصبية القبلية وأذكى أورها ونفخ في نارها، حتى نكاد أن نجزم بأن ليبيا كانت مقسمة بالفعل في حكم القذافي.

هذه المشكلة الاجتماعية العويصة كغيرها من مشاكل الأمم تتوارى قليلا وقت الأزمات والنوازل العامة، وتنشط في الفترات الانتقالية التي عادة ما تكون كثيرة الاضطراب والفوضى، وهذا ما لم يدركه الثوار الليبيون الذين أخطئوا خطأ بالغا عندما اعتمدوا في جهادهم ضد الطاغية على خريطة وتركيبة قبلية محضة، فصار المجاهدون ينتظمون في مجموعات مقاومة على أساس قبلي، فتأسست كتائب مقاومي الزنتان، وكتائب مقاومي مصراتة، ومقاومي بنغازي (المجلس الانتقالي) ومقاومي طرابلس (المجلس الوطني) إلي آخر هذه التركيبة القبلية المحضة في الجهاد، وهذه الفكرة قد لا يكون بها بأس إذا كانت القلوب صافية والنفوس خالصة والتجرد لخدمة قضية الدين والوطن في أعلى درجاته، غير ذلك تكون هذه التركيبة القبلية في الجهاد نكبة ما بعدها نكبة في مرحلة ما بعد الانتصار، وهو ما حدث بالفعل في ليبيا.

ليبيا اليوم تعيش مرحلة انتقالية حرجة في حياة ثورتها، أصبحت فيها مشاهد الفوضى والاضطراب والاحتكام للسلاح معتادة ويومية، مما يدل على ضعف السلطة المركزية وخفة قبضتها على ناصية الأمور في هذا البلد الكبير، وقد علقت مجلة " فورين بوليسي " الأمريكية على هذه المشاهد بقولها: "أن الانتفاضات الصغيرة المتعاقبة التي تشهدها ليبيا في الآونة الأخيرة تظهر مدى ضعف وتخبط المجلس الانتقالي الليبي في قدرته على إدارة هذه الأزمات"، فالسلطة الحقيقية قد أصبحت متفرقة بين مجموعة كبيرة التشكيلات العسكرية الشعبية معظمها متكتل في المجالس العسكرية الخاصة بالمدينة، وان أقوى تلك المجموعات تتمركز في بلدتي مصراتة والزنتان، واللتين شارك قادتها ـ على أساس قبلي ـ في تشكيل الحكومة وهما وزير الدفاع أسامة الجوالي ووزير الداخلية فوزي عبد العال، وقد تحالف الفريقين ضد المجلس الوطني الذي يقوده عبد الحكيم بلحاج المعروف بجهاده في أفغانستان، وقد تجسد هذا الصراع في منع بلحاج من السفر إلى تركيا منتحلا اسما آخرا في شهر نوفمبر الماضي والكشف عن هويته، بل والاشتباك مع حراسه.

وفي المقابل فإن المجلس الانتقالي الذي يفترض أنه السلطة الشرعية في ليبيا قد وقع في العديد من الأخطاء فقد تحول مع مرور الوقت من الشفافية والنزاهة إلى الغموض والفشل المريب فهو يرفض الإعلان عن لائحة أعضائه أو اجتماعاته، ويرفض أيضا الإفصاح عن سجلات كيفية التصرف في عائدات البترول الضخمة بالإضافة إلى فشله في عمل تشريع للانتخابات في يونيو المقبل مما حدا بكثير من الليبيين للشك والطعن في أعضاء هذا المجلس، خاصة وأن به العديد من رجال القذافي السابقين الذين انشقوا عليه في أول الثورة مثل عبد الحفيظ غوقة ومحمود جبريل وشلقم وغيرهم، وهم رجال ارتبط ذكرهم في العقل الجمعي الليبي بالظلم والفساد والاستبداد، ناهيك عن عدم وجود مكتب إعلامي للمجلس الانتقالي مما فاقم من حجم المشكلة، فبدلا من هذا المكتب يتلقى الليبيون مراسيم كالإعلان عن نقل وزارتي الاقتصاد والبترول إلى بنغازي ووزارة المالية إلى مصراته عقب الاحتجاجات التي قامت ضد المجلس تتهمه فيه بعدم الشفافية، ثم توج فشل المجلس الانتقالي بالهجوم الجماهيري العنيف الذي وقع على مبنى المجلس ببني غازي، وشتم أعضائه وإجبارهم على الهروب من الأبواب الخلفية وتقديم عبد الحفيظ غوقة لاستقالته أثر هجوم الطلاب عليه وسبه وشتمه في جامعة بني غازي.

كل هذه التداعيات انطلقت من قاعدة العصبية القبلية وتكريس الفرقة بين الشرق والغرب، بين بنغازي وطرابلس، وقد تم استحضار ثوب العصبية المنتنة من الجانب المظلم من تاريخ الأمة، وأصبح الكثيرون يتحدثون باسمها ويتخذون القرارات متأثرين بضغطها غير مبالين بما يجري للوطن الأم، ويوم أن تفشل السلطة في تحقيق وحدة الصف والأمن والسلام الاجتماعي، وترى دولتها وهي تنهار تحت ضربات العصبية والقبائلية ولا تتخذ القرارات والإجراءات الرادعة واللازمة لاحتوائها، فإن هذه الدولة ما تلبث أن تتحول لدويلات، والوطن ستحول إلى قبائل وعصبيات، وتنهار في حفرة بلا قرار كما صرح مصطفي عبد الجليل، ويا له من مصير لثورة مجيدة مثل ثورة ليبيا.

  • 0
  • 0
  • 3,583

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً