في ظلال الآية الكريمة
في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد، فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه، لم يأمن أن توافيه المضره من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعواقب، فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد.
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
قال جلّ جلاله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد، فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه، لم يأمن أن توافيه المضره من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعواقب، فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد، أوجب له ذلك أموراً:
منها: أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شق عليھ في الإبتداء، لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح وإن كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع. وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهي وإن هويته نفسه ومالت إليه، فإن عواقبه كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب، وخاصية العقل تحمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير، واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم والشر الطويل.
فنظر الجاهل لا يجاوز المبادئ إلى غاياتها، والعقل الكيّس دائماً ينظر إلى الغايات من وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة، فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خلط فيه سمُّ قاتل، فكلما دعته لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من السم، ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مفضٍ إلى العافية والشفاء، وكلما نهاه كراهة مذاقه عن تناوله أمره نفعهُ بالتناول.
ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم تدرك به الغايات من مبادئها، وقوة صبر يوطن به نفسه على تحمل مشقة الطريق لما يؤمل عند الغاية، فإذا فقد اليقين والصبر تعذّر عليه ذلك، وإذا قوي يقينه وصبره هان عليه كلَّ مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة.
ومن أسرار هذه الآية أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يختاره له ويقضيه له، لما يرجو فيه من حسن العاقبة.
ومنها: أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علم، فلعل مضرَّته وهلاكه فيه وهو لا يعلم، فلا يختار على ربه شيئاً بل يسأله حسن الاختيار له وأن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك.
ومنها: أنه إذا فوّض أمره إلى ربه ورضي بما يختاره له أمدَّه فيما يختاره له بالقوة عليھ والعزيمة والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه.
ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتبعة في أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في آخرى، ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه، لأنه مع اختياره لنفسه، ومتى صح تفويضه ورضاه، اكتنفه في المقدور والعطف عليه واللطف به فيصير بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيه مايحذره، ولطفه يهون عليھ مافدّرهُ.
إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده، فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحاً كالميته، فإن السبع لا يرضى بأكل الجيف.
والله أجل وأعلم
محمد سعيد قاسم