تهديد هوية أمتنا قديمًا وحديثًا
غازي التوبة
وبرزت الصحوة الإسلامية، يقودها التيار الإسلامي، وحاولت هذه الصحوة أن تدحض مشروع التغريب بشكل كامل، ولكنها لم تنجح إلى الآن وهي في معركة مستمرة معه.
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
إن التهديد لهوية الأمة لم يتوقف منذ أن كوّن محمد صلى الله عليه وسلم هذه الأمة العربية الإسلامية، وجاءت هذه التهديدات في مرحلة مبكرة، وخلال الخلافتين الأموية والعباسية، وكان أبرز الحركات التي هددت الهوية ثلاث حركات هي:الحركة الشعوبية وحركة الزندقة والحركة الباطنية.
أولًا: الحركة الشعوبية:
هي حركة قامت على ازدراء اللغة العربية وبيانها، والتعالي على العرب واحتقار محصولهم الحضاري، وقد تولدت هذه الحركة في نهاية القرن الأول الهجري، وتضخمت في القرون العباسية الأولى، وأبرز من قادها رجالات من العرق الفارسي، تولّد حقدهم على العرب والدين الإسلامي لأنهما استطاعا إسقاط الدولة الفارسية، وخير من تصدى لها الجاحظ في كتابه عن البيان وغيره من الكتب الأخرى.
ثانيًا: حركة الزندقة:
وهي حركة تقوم على التشكيك في القرآن الكريم وتدّعي تناقض آياته الكريمة، وتباين بعض معانيه، وتقدم على ذلك بعض الأدلة من خلال استعراض بعض الآيات الكريمة من خلال قراءة زائفة فيها الكثير من المغالطات والأكاذيب. وتقوم دعوة الزندقة أيضا على القول بأن العقل وحده يكفي لهداية البشرية، وأنه لا حاجة لدعوة الأنبياء.
ومما يدل على خطورة حركة الزندقة هذه، وتهديدها للخلافة العباسية في بواكير نشوئها، تشكيل ديوان تابع للخليفة مباشرة لمحاسبة أولئك الزنادقة، وقد تشكل هذا الديوان في عهدي محمد المهدي وموسى الهادي ثالث ورابع الخلفاء العباسيين.
ثالثًا: الحركة الباطنية:
وهي حركة قامت على تأويل أحكام الإسلام وآيات القرآن الكريم تأويلًا باطنيًا، واستندت في تأويلاتها تلك إلى المواريث الباطنية التي كانت قائمة في المنطقة قبل الإسلام. وانبثقت عن الحركات الباطنية حركات سياسية في بعض الأحيان، وزعزعت هذه الحركات السياسية الخلافة العباسية في مناطق متعددة.
وكان أبرز هذه الحركات الباطنية الزنج والقرامطة وبابك الخرمي الذي استولى على شرقي الخلافة العباسية، وهدد العاصمة بغداد، ثم استطاعت الخلافة العباسية التغلب عليه ودحره بصعوبة شديدة في أيام الخليفة المعتصم.
كما تصدى علماء الأمة للشعوبية وكان أبرزهم الجاحظ واستطاعوا دحضها، كذلك تصدى علماء الأمة لأصول حركات الزندقة والباطنية، وكان أبرز من كتب في هذا المجال أحمد بن حنبل، وتصدى لحركتي الزندقة والباطنية، فألف كتابين هما: رسالة الرد على الزنادقة والجهمية، وكتاب الزهد.
ويعتبر هذان الكتابان من أهم الكتب التي واجهت هاتين الحركتين وأصّلا لمواجهتهما واعتبرا مرجعًا، واستفاد منهما عشرات العلماء في العصور الثانية من أجل مواجهة فروع هذه الحركات، ومن أجل التأصيل في مجال بناء العقيدة وبناء الباطن على أسس سليمة.
أما عن تهديد هوية الأمة حديثًا، فتتركز في حركتين:
الأولى: حركة التغريب
وجاء التغريب من الاستعمار الغربي الذي احتل معظم البلاد العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، وحاول فرض نموذجه الغربي في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية... إلخ.
وبالفعل تأثرت طائفة من الأمة بهذا النموذج، وحملته ودعت إليه، واحتلت قمة الهرم السياسي والاجتماعي والثقافي في مجتمعنا، ورفضت طائفة أخرى تغريب الأمة، واحتدمت المعركة بين الفريقين، وكانت الأمور خلال القرنين الماضيين بين مد وجزر، ولم تحسم لصالح طرف من الأطراف، وإن كانت هناك محطات بارزة في مسيرة التغريب في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وأبرز هذه المحطات -التي نستطيع تسجيلها، والتي تعتبر انتصارًا للتغريب، والتي جاءت نتيجة ضغوط مادية ومعنوية من الدول الغربية على مختلف مكونات الأمة ومؤسساتها ورجالاتها، وأبرز هذه المحطات، هي:
1- إصدار السلطان العثماني خط كلخانة عام 1839، الذي يعتبر بمثابة إعلان حقوق إنسان في الخلافة العثمانية، كما أصدر السلطان العثماني الخط الهمايوني الشريف عام 1856 الذي ألحق اقتصاد الخلافة العثمانية باقتصاد السوق كما أصدر السلطان العثماني دستورًا عام 1876 نص على وجود مجلس النواب وآخر للأعيان وعلى انتخابات تشريعية، وبالفعل جرت عدة انتخابات في أوقات متعددة...إلخ، كما أنشأت الحكومة نظامين من التعليم: أحدهما ديني والآخر مدني.
2- إسقاط الخلافة العثمانية عام 1924، وقد أدى سقوط الخلافة العثمانية إلى خضوع معظم البلاد العربية للاستعمارين الإنجليزي والفرنسي، ونقل هذا الاستعمار حركة التغريب من حركة ثقافية كانت تقوم على دعوة بعض الأفراد إلى حركة تقوم بها الدولة، وتفرض أحكامها بقوة التشريع والقانون وبقوة السلطة من وزارات وهيئات، وبهذا دخلت معظم الشعوب العربية التي كانت مستعمرة تحت معطيات التغريب الإجباري.
3- قيام إسرائيل عام 1948 في فلسطين بعد اقتلاع شعبها الأصلي وطردهم، ليصبحوا لاجئين خارج فلسطين، وقد مثلت إسرائيل قاعدة متقدمة للغرب، حضاريًا من جهة وعسكريًا من جهة أخرى، يهدد بها كل من لا يخضع لسياساته ومخططاته، وقد حرص الغرب على أن تكون إسرائيل دائما هي الأقوى والأغنى في المنطقة.
ثم جاءت مرحلة الاستقلال فاستقلت معظم الدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية، ومن الجدير بالذكر أن الفكر القومي العربي والأحزاب القومية العربية، والشخصيات القومية العربية هي التي قادت التغريب في مرحلة الاستقلال، ونفذت ذلك من خلال المناهج التي صاغتها في مختلف المجالات الفكرية والتربوية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية...إلخ. وذلك بعد أن حكمت معظم الدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية، ومن أبرزهم جمال عبدالناصر في مصر وحزب البعث في سوريا والعراق وهواري بومدين في الجزائر ومعمر القذافي في ليبيا وجعفر النميري في السودان وعبدالله السلال في اليمن... إلخ.
لكن الفكر القومي العربي وأحزابه وشخصياته خسرت قيادة الأمة إثر هزيمة عام 1967، حين احتلت إسرائيل سيناء والجولان والضفة الغربية، وبرزت الصحوة الإسلامية، يقودها التيار الإسلامي، وحاولت هذه الصحوة أن تدحض مشروع التغريب بشكل كامل، ولكنها لم تنجح إلى الآن وهي في معركة مستمرة معه.
الثانية: الحركة القطرية
والقطرية هي التهديد الثاني لهوية الأمة، وقد جاء ذلك من خلال تجزيء الأمة إلى أقطار متعددة، كما حدث بعد الحرب العالمية الأولى فقد كانت بلاد الشام وحدة جغرافية واحدة، فتجزأت رسميًا إلى أربع دول هي سورية ولبنان والأردن وفلسطين.
والأخطر في قضية القطرية هو تحويل هذه الأقطار إلى أمم مستقلة، وهذا ما يعمل عليه الغرب ودعاة القطرية، فهم يؤصلون لهذه القطرية في مختلف المجالات الثقافية والاقتصادية والسياسية... إلخ، لتصبح هناك أمة أردنية وهناك أمة عراقية وهناك أمة مصرية، وهناك أمة سورية... إلخ. ولتصبح الحدود القائمة بين هذه الدول حدودًا نهائية، كالحدود بين دولتي فرنسا وألمانيا مثلًا، وهذا ما تراهن عليه المخططات الخارجية من أجل إنهاء وجود هذه الأمة الواحدة.
ومن الجدير بالتسجيل أن هناك فرقين بين التهديدات القديمة والجديدة لهوية الأمة، وهما:
الأول: وجود علماء مطلعين على الدين الإسلامي بشكل عميق في القديم من جهة، ومطلعين على ثقافة الخصوم بشكل تفصيلي من جهة ثانية، وهو ما لاحظنا مثالًا دقيقًا عليه في أحمد بن حنبل الذي تصدى لأكبر هجومين على هوية الأمة وهما اللذان صدرا عن الزنادقة والباطنية، ورأينا أن العاملين اللذين ساعداه على النجاح في مواجهة تلك التهديدات ليس هذا فحسب، بل في التأصيل للمواجهة لكل العصور التالية، هما وعيه العميق بالإسلام من جهة، وإدراكه التفصيلي لمحتوى ثقافة الخصوم من زنادقة وجهمية وباطنية من جهة ثانية، وهو ما نفتقده في المرحلة الحاضرة، فتجد أن كثيرا من العلماء لديهم اطلاع على الثقافة الإسلامية، وليس لديهم اطلاع على الثقافة الغربية، وقليل من العلماء المعاصرين هم من توفر فيهم الاطلاع على الثقافتين الإسلامية والغربية.
الثاني: وجود تدخل دول وهيئات خارجية في توجيه التغريب وتشجيعه ومتابعة شؤونه وقيام دعم خارجي له بالمال والإعلام والسلاح إن اقتضى الأمر، وغياب هذا التدخل الخارجي في دعم الحركات المهددة لهوية الأمة قديمًا.
ومما يزيد في وتيرة هذين الخطرين التدخل الخارجي السافر في كل شؤون حياتنا الثقافية والاجتماعية والتربوية... إلخ. ويقتضي هذا الوضع من أصحاب الفكر والرأي والعلماء الغيورين على هذه الأمة أن يتصدوا لهذه الأخطار بكل إمكاناتهم، وينبهوا الأمة عليها.