فن الاستماع

منذ 2015-02-22

إن حُسنَ الاستماع، مع الفهمِ، والصبرِ على المحدِّث دونَ مقاطعة، هو واحدٌ من آداب كثيرة، وعادات حميدة نحتاج إلى إعادة إحيائها بينَنا، وإلى أخذ أنفسِنا بها، وتربيةِ أولادنا عليها.

أحفظُ منذ الصغر أبياتًا لابن الرومي، أتمثّل بها، وأحاول أن أطبّقها، فأفلح أحيانًا دون أحيان.

تلك الأبيات هي:

مَنْ لي بإنسانٍ إذا خاصمتُه *** وجهلت كان الحِلمُ ردَّ جوابِهِ
وإذا صبوتُ إلى المُدام شربتُ مِن *** أخلاقِه، وسكرتُ من آدابهِ
وتَراه يُصغي للحديث بسمْعِه *** وبقلبِه، ولعلَّه أدرى به!!
 

إن حُسنَ الاستماع، مع الفهمِ، والصبرِ على المحدِّث دونَ مقاطعة، هو واحدٌ من آداب كثيرة، وعادات حميدة نحتاج إلى إعادة إحيائها بينَنا، وإلى أخذ أنفسِنا بها، وتربيةِ أولادنا عليها.

يقول ديل كارنيجي في كتابه الشهير: (كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس)، في الفصل الرابع الذي عنوانه: (لكي تصبحَ محدِّثًا بارعًا): "إذا أردتَ أن يحبَّك الناس: كنْ مستمعًا جيّدًا، وشجِّع محدّثك على الكلام عن نفسه".

ويقول: "إذا كنت تريد أن ينفضَّ الناس من حولك، ويسخروا منك عندما توليهم ظَهرك، فهاكَ الوصفة: لا تُعطِ أحدًا فرصةً الحديث، تكلّم بغير انقطاع عن نفسك، وإذا خطرتْ لك فكرة بينما غيركُ يتحدّث فلا تنتظر حتى يُتمَّ حديثه، فهو ليس ذكيًا مثلك، فلماذا تضيع وقتك في الاستماع إلى حديثه السخيف؟! اقتحم عليه الحديث، وقاطِعْهُ في منتصف كلامه!".

على أن حُسْنَ الاستماع وفنَّ الاستماع أمرٌ أعمق بكثير مما يبدو من الوهلة الأولى، طبعًا إذا لم يكن الكلام ثرثرة فارغة أو غِيبةً للناس، أو ما إلى ذلك. هو أعمق من أن يُطبق المستمع شفتيه، ويفتح أذنيه، وينظر إلى محدِّثه بعينيه!.

تقول آلاينا ذوكر في كتابها (التأثير: القوة الخفية في عصر متغيّر) الذي نشرته دار المعرفة للتنمية البشرية في الرياض -وأنقل بتصرف-: يتكون رمز كلمة (استمع) في اليابانية من رسم لـِ (أذن) داخل (بوّابة). وهذه الكتابة التصويرية ذات مغزى؛ فعندما نستمع إلى شخص ما، فنحن في الواقع نمرّ من خلال بوابة ذلك الشخص، وندخل عالمه! إن الاستماع الجيدّ هو أن ترى الأشياء من وجهة نظر الشخص الآخر، إذ قد يكون هو على صواب. لذلك فإن الكثيرين يخشون أن (يحسنوا) الاستماع خوفًا من التعرض للتغيير، ومن اهتزاز ثقتنا ببعض أفكارنا واقتناعاتنا، لكن المطلوب هو التقبل وليس الموافقة بالضرورة.

إن حُسْنَ الاستماع يقول فيه المستمع لمن يحدثه بلسان حاله، وحركاته، وتعابير وجهه، أنا مهتمٌّ بك، ولا أحاول أن أُصدر عليك أحكامًا أو أصنِّفَك. أنا أحترمُك، وإن كنتُ أرى أن أفكارك غيرُ صحيحة بالنسبة إلي.


وهذا الموضوع ليس بعيدًا عن العادة الخامسة التي أوردها ستيفن كوفي في كتابه الشهير: (العادات السبع للأشخاص ذوي التأثير الكبير)، الذي تُرجم إلى العربية أكثر من مرة بعناوين مختلفة، والذي اقتبستُ منه للقارئ الكريم بعض الأفكار الجديرة بالتأمل في مقال سابق. العادة الخامسة لهؤلاء الناجحين أن يفهموا الآخرين أولًا ثم يحاولوا أن يفهمهم الآخرون.

يقول كوفي (بتصرّف): "نحن عادة نسعى إلى أن يفهمنا الآخرون. أغلب الناس لا يستمعون بنيّة فهم، بل يستمعون بنيّة الردّ، فهم إما أن يتكلموا، وإلا هم يستعدّون للكلام. فهم يُسقطون ما يحدث معهم على تصرفات الآخرين، ويضعون النظارات الطبية التي يستعملونها لكل من يشكو مشكلة تتعلّق بالنظر!!.

حين يتحدّث شخص آخر فنحن عادة نصغي إليه بطرقٍ عدة:

[1]- قد نتجاهله ولا نصغي إليه.
[2]- وقد نتظاهر بالإصغاء.
[3] - وقد نمارس الإصغاء الانتقائي، فنسمع أجزاء معينة من حديثه.
[4]- وقد نصغي دون انتباه وتركيز على ما يقول.

لكنَّ القليلين منا يمارسون ما يسميه كوفي: (الإصغاء بتقمّص)، ويعني: الإصغاء بنية فهم الآخرين، والنظر إلى الأمور من خلالهم، ومحاولة رؤية الأشياء بالطريقة التي يرونها بها، والتعرّف على مشاعرهم، وكأننا نتقمص شخصياتهم.

يتضمنَّ الاستماع بتقمّص أكثر بكثير من وعي الكلمات التي تقال فهمهِا، أو تأمُلِها. ويُقدّر خبراء الاتصال أن 10 بالمئة من اتصالاتنا أو تفاهمنا، أو تواصلنا يتمّ عن طريق الكلمة المحكيّة، و30 بالمئة عن طريق أصواتنا، و60 بالمئة عن طريق حركاتنا، وتعابير وجوهنا، أي لغة أجسادنا في الاستماع بتقمص، يقول كوفي: "أنت تصغي بأذنيك وبعينيك وقلبك وهذا هو الأهمّ، وهذا ما قاله ابن الرومي قبل مئات السنين"!!.
 

يقول ريتشارد كارلسون في كتابه القيّم: (لا تهتمّ بصغائرالأمور مع أسرتك): "لو كان علي أن أختار اقتراحًا واحدًا لوضع حلٍّ لجميع المشكلات الزوجية والأُسرية لاقترحت على الزوجين أن يُنصت كلٌّ منهما للآخر بصورة أفضل. فمِن بينِ مئات النساء اللاتي قابلتهنّ على مدار حياتي، والآلافِ اللاتي تحدثت إليهن خلال عملي، شكتْ غالبيتُهن من أنّ أزواجهنّ، أو آباءهنّ، أو غيرَهم من الرجال المُهِّمين في حياتهنّ، لا يستمعون إليهنّ بشكل جيد! إن حسن الاستماع للآخرين أشبهُ بالدواء السّحري الذي يؤتي ثمارًا جيدة في جميع الأحوال!".
 

اللهم اجعلنا ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.

أحمد البراء الأميري

دكتوراة في الدراسات الإسلامية من جامعة الإمام محمد بن سعود.

  • 3
  • 0
  • 11,526

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً