احتساب على فراش الموت
ولا ينبغي للراعي أن يهتم برعاية بناته ويوفر لهن غذاء الأبدان دون غذاء الأرواح، بل عليه أن يجمع بين الأمرين ويجعل جل اهتمامه أن تتربى البنات على طاعة الله- تبارك وتعالى -وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - منذ الصغر.
- التصنيفات: الموت وما بعده -
جاء الترغيب في الشريعة الإسلامية بتربية البنات، وتعليمهن ورعايتهن، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو)). وضم أصابعه [رواه مسلم (8/38)، برقم: (6864)].
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من كن له ثلاث بنات يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن، وجبت له الجنة البتة، قال: قيل: يا رسول الله، فإن كانت اثنتين، قال: وإن كانت اثنتين، قال: فرأى بعض القوم أن لو قالوا له واحدة لقال واحدة) [رواه أحمد (3/303)، برقم: (14286)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2679)].
ولا ينبغي للراعي أن يهتم برعاية بناته ويوفر لهن غذاء الأبدان دون غذاء الأرواح، بل عليه أن يجمع بين الأمرين ويجعل جل اهتمامه أن تتربى البنات على طاعة الله- تبارك وتعالى -وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - منذ الصغر..
ويَنشأُ ناشئ الفتيانِ *** مِنّا على ما كانَ عَوّدَهُ أبُوه
وما دانَ الفتى بحِجًا *** ولكنْ يُعَلّمُهُ التّدَيّنَ أقرَبُوه
وطِفلُ الفارسيّ لهُ وُلاةٌ *** بأفعالِ التَمَجّسِ دَرّبوه
وضمّ النّاسَ كلَّهمُ هَواءٌ *** يُذلَّلُ، بالحوادثِ، مُصعَبوه
فإذا تعودت الفتاة الطاعات، وأعمال البر واتقاء المنكرات منذ الصغر، فإن هذا سيكون سجية في حياتها ولا تستطيع أن تسكت عن أي منكر مهما كانت الظروف.
وفي هذه السطور سأذكر قصة لفتاة بعمر الزهور نشأت على طاعة الله تبارك وتعالى، فصار الاحتساب جزء لا يتجزأ من حياتها.
لقد كانت هذه الفتاة في ربيع عمرها في سن الرابعة عشر من عمرها، ولكن كانت لها عقل كعقول الكبار في رأسها الجميل الذي ما لبث أن تساقط منه شعرها لمجر أخذها الدواء المدمر الذي يسمونه الكيماوي، في الوقت الذي تتباها صديقاتها بتسريحاتهن الجميلة.
وكانت هذه الفتاة من صغرها تقوم فتفترش سجاد صلاتها وتقوم بالصلاة، في الوقت الذي كان فيه أقرانها يلعبن بالألعاب، وعندما بلغت الرابعة عشرة أحست بوخز في أسفل ساقها اليسرى وعند عرض حالتها على الأطباء قالوا بأن فيها مجرد التهاب، ولكن عند الذهاب بها لأجراء فحوص أخرى أقر الطبيب المعالج بمرض السرطان، وللتخلص من هذا المرض أراد الطبيب بتر ساقها؛ لإيقاف انتشار المرض، أو إزالة الجزء المسرطن من الساق، ولكن رفض والدها أن تبتر ساقها؛ لأن هذا الأمر سيدمرها وهي حية، لذلك أجرو لها العملية وعادت إلى البيت وهي تظن بأنها ستشفى قريباً، لكن ما لبث إن انتشر المرض خلال ثمانية أشهر إلى جميع أنحاء جسدها.
وتجلت إرادة الله في صبرها على أوجاعها الذي لا يوقفه إلا المخدر، حتى الأطباء استغربوا من هدوءها، ولما يقوم أهلها بتشغيل التلفاز لها لتتسلى به، تقول لهم ضعوه على قناة القرآن، وإن قدم لها طعاما، فتجيب بأنها تريد مسبحة لتذكر الله، ومرة سألت عمها الطبيب قبل موتها بعشرة أيام متى سأشفى؟ فأجاب: قريباً ستشفين بإذن الله، وستنامين مرتاحة.
وجاء اليوم الذي رحلت فيه من دنيا الفناء إلى ربٍ رحيم غفور، ولما انقطع نفسها وهي في المستشفى، أفاقت فجأة، وأخذت تردد: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
ويقوم أحدهم بقراءة سورة ياسين وأخطأ في قراءة بعض الآيات فتقوم هي بتصحيح الآية له.
وتدخل الممرضة لتعدل لها الأكسجين حتى تصرخ لها، وتقول: تحجبي تحجبي، أنك في حضرتهم، والممرضة تخرج باكية متأثرة بكلامها.
ولما سمعت صوت آذان الصبح رفعت أصبع التشهد ونطقت شهادة الإسلام، وسلمت الروح إلى بارئها " [انظر القصة في: http://www.gesah.net/mag/show.php?id=1809 بتصرف ].
هذا الموقف من هذا الفتاة الكبيرة الصغيرة، يذكرنا بسلف هذه الأمة عند الموت، فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي، ولزم الفراش وحضرت السكرات، جاء رجل شاب إليه، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت ثم شهادة.
فقال عمر - رضي الله عنه -: وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي، فلما أدبر الشاب، فإذا إزاره يمس الأرض، فقال عمر: ردوا علي الغلام، قال: ابن أخي، ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك [رواه البخاري (3/1353)، برقم (3497)].
قال الحافظ في الفتح: "لم يشغله ما هو فيه من الموت عن الأمر بالمعروف .. وقد أشار إلى ذلك ابن مسعود فقال: "يرحم الله عمر لم يمنعه ما كان فيه من قول الحق" [فتح الباري (7/65)].
فيا فتاة الإسلام، المتأمل إلى تفكير فتيات في سن هذه الفتاة المحتسبة يجد أن تفكيرهن في الموضات والمظهر والقيل والقال، ويوم أن عرفت هذه الفتاة الصالحة ربها تبارك وتعالى، وعاشت على "لا إله إلا الله" أصبح الاحتساب جزء لا يتجزأ من حياتها العامرة بذكر الله - عز وجل -، فلم يكن تفكير هذه الفتاة بالعافية والصحة أكثر من تفكيرها بهداية الناس، هذه الفتاة المحتسبة وهي فراش الموت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقول لمن دخلت عندها بدون حجاب: تحجبي تحجبي، أنك في حضرتهم.
ليت فتيات المسلمين يعملن بهذا الأمر، هو أمر من الحكيم الخبير قبل أن يكون من هذه الفتاة، حيث يقول الله تباك وتعالى قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الأحزاب: 59].
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة" [تفسير الطبري (20/324)].
فيا فـتاة الإسلام: كوني مثل تلك المؤمنات الصادقات، أمهاتك وأخواتك فإنهن امتثلن أمر ربهن، وسارعن إلى لباس العفاف والطهر، لباس الحشمة، بمجرد سماعهن أمر الله- تبارك وتعالى -في الحجاب، فعن عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور: 31]. شققن مروطهن فاختمرن بها) [رواه البخاري(4/1782)، برقم(4480)].
إن فتيات المسلمين بحاجة ماسة إلى وعي كوعي هذه الفتاة المحتسبة، فقد عرفت أمر ربها، وعملت بتعاليم دينها الحنيف، فكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من حياتها.
فيا من رضيتِ بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً: أصغ قلبك لقول النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) [رواه مسلم (1 / 69)، برقم (49)].
وانظري وتسائلي أين أثر تطبيق هذا الحديث في نفسي ومجتمعي؟ أين إيماني وخضوعي التام لما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -؟
لله در تلك الفتاة المحتسبة، فقد تركت الدنيا وتركت لنا دروسا تستفيد منها الأسر والفتيات في ميدان الاحتساب، فمن ذلك:
أن الأسرة عليها الدور الأكبر في تربية الأجيال، فهذا الفتاة لا شك أن أسرتها علمتها وربتها تعاليم دين الله، وعلى الحجاب والحشمة منذ الصغر، فالتربية الإسلامية الصحيحة على كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - تصنع الأجيال الصالحة.
ومن الدروس المستفادة: الشجاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا الفتاة لم تستحي من توجيه النصيحة إلى الممرضة، وتهاب الحضور، لكونها فتاة صغيرة ويوجد في الحضور من هو أولى منها بالنصيحة، وحالتها الصحية غير مناسبة، والوقت غير مناسب، إلى غير ذلك من الأعذار التي ربما قد تُختلق.
بل كان موقفها مشرفاً، فأمرت ونهت، ووجدت الاستجابة، وهذا هو الذي يجب أن تكون عليه المؤمنة، وقد جاء التوجيه في الشرع المطهر على قول كلمة الحق وعدم الخوف من أحد، فعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة، فى العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم [رواه مسلم (6 / 16)، برقم: (4874). ].
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام خطيباً فكان فيما قال: (ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه) قال: فبكى أبو سعيد، وقال والله رأينا أشياء فهبنا [رواه ابن ماجة (2 / 1328)، برقم: (4007)، قال الشيخ الألباني: صحيح. ].
فلا ينبغي السكوت عن المنكر، ولو سكت عنه بعض من حضر، ولا يعني هذا أن تتهور المرأة المسلمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل عليه أن تتريث وتنظر في المصالح والمفاسد، ثم إذا احتسبت فلتكن مخلصة، صابرة، حكيمة، متلطفة في عبارتها، لكي تؤثر في قلب من تحتسب عليها.
فيا طالبة الآخرة انظمي إلى سلك المصلحات، واصبري على ما يصيبك في ذات الله، قال ابن كثير - رحمه الله -: "فكل من قام بحق أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر فلا بد أن يؤذى فما له دواء إلا الصبر في الله، والاستعانة بالله والرجوع إلى الله - عز وجل -" [تفسير ابن كثير(1/536)].
يقول جلّ في علاه: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور) [لقمان: 17].
والحمد لله رب العالمين..
عبد الله علي العبدلي