نوستالجيا (مارجريت) - نوستالجيا (مارجريت) (4)

منذ 2015-02-25

وكنت أعلم أنّ هذا لا يكون .. فأنا لا أعرف حصانا واحدا في حيّنا، اللهمّ إلّا حصان العمّ (دلهوم) بحلق الوادي، وهو حصان أجرب أعرج يروث في الشّارع ليجعل رائحة الحيّ كلّها لا تطاق.. وهو على قدر علمي لا يصلح لفرسان الأحلام، ولا أظنّه ذا شرف أو قيمة أصلا بل هو صعلوك فعليّا في عالم الخيول ..

أمام معهدنا بالثّانويّة الّذي عاش معنا مراهقتك وكهولتي المبكّرة وشيخوخة قلبي الّذي عرفك أيّام حبّنا الأولى كانت هناك غابة تحكمها سنديانة عجوز ..

تحتها جلسنا طويلا، وتحادثنا أكثر ممّا جلسنا، وتنفّسنا الصّمت أكثر ممّا تحادثنا ..
وكنت أعزف لك بالكلمات رِحْلاتٍ كالحلم إلى منتجعات (كاليمنجارو) وضفاف (التّايجا) العظيم، وأمسيات جليديّة دافئة نحتسي فيها الشّاي بالزّبد ونصطلي نار مدفأة ودود في ضيافة عائلة تبتيّة كريمة تقدّس (الدّلاي لاما) عند سفح قمّة (إفرست)، وليالي من حنين خالص نعدّ فيها النّجوم في النّصف الّذي لا تعرفينه من الكرة الأرضيّة ..
أخبرتك أنّ خارطة النّجوم هناك مقلوبة عمّا نعرف في أرضنا .. وأبديتِ بعينيك العربيّتين النّجلاوين عدم اكتراث حقيقيّ بما أقوله لك من أوهام، وأخبرتني وأنت تتابعين بعينين زجاجيّتين شفتيّ وهما تعزفان كلّ ذلك السّحر أنّ هذه المعلومات الّتي أضيفها متظاهرا بالحكمة والعلم لا تضيف لكِ شيئا ذال بال إلّا إفساد اللّون الورديّ لحلمكِ الّذي كنتِ تتابعين بعينين مفتوحتين ..
ووعدتِني وعودا قاتلة مللا .. 
حدّثْتِني عن الفرس الأبيض الّذي تحلمين أن أسبح لك فوق ظهره بثياب الفرسان لألتقطك وآخذك لعالم الأساطير ..
وكنت أعلم أنّ هذا لا يكون .. فأنا لا أعرف حصانا واحدا في حيّنا، اللهمّ إلّا حصان العمّ (دلهوم) بحلق الوادي، وهو حصان أجرب أعرج يروث في الشّارع ليجعل رائحة الحيّ كلّها لا تطاق.. وهو على قدر علمي لا يصلح لفرسان الأحلام، ولا أظنّه ذا شرف أو قيمة أصلا بل هو صعلوك فعليّا في عالم الخيول ..
من أين آتيك بحصان عربيّ أصيل أنا ؟!
لكنّني لم أرد أن أفسد براءة أفكارك، فوعدتك خيرا وعلّقتُ بالمشيئة ..

حدّثتني عن الأطفال، والبيت الّذي ستنصّبينني فيه ملكا على رعيّة خانعة تدعوني للاستبداد !
كانت أحلامك واقعيّة جدّا لدرجة قاتلة للخيال .. وكنت أتساءل كيف يكون واقعك إن كانت أحلامك على هذا النّحو المملّ؟!

غير أنّ مواعيديَ السّاحرة وعهوديَ (هيروينيّة) المفعول، كانت كلّها مواعيد عرقوب .. وحكايايَ فائقة الحبكة كانت سرابا بقيعة .. لم أفِ لك منها بشيء!
وصدقتِ أنت في كلّ ما زعمتِ أنّك تفعلينه، وكذبتُك ..
وشهدت السّنديانة وظلُّها على ذلك كلّه .. ثمّ كتما الشّهادة ..
حتّى السّنديانة الملكة العجوز .. غدرت بكِ ككلّ شيء، ولم تنصفك!

كان يسعدك جدّا يا (مارجريت) أن نجلس على شاطئ البحر ساعات طويلة .. نتأمّل الأفق في شرود وتتشابك أيدينا في عصبيّة ..
وكنتِ تحدّثينني بسذاجة الأطفال عن جمال البحر وفتنته وحكمته .. ونحن نجلس على صخرة تعرفنا وتألفنا .. واستوثقتُ أنا من خيانتها هي أيضا وكتمها للشّهادة !..
وكنتُ أسخر من حمقك وغفلتك، فتعجبين وتبتسمين وقدْ تغضبين .. 
ثمّ تعودين دوما لتقنعي نفسك أنّها طريقتي في التّعبير عن حبّي .. وأنّني أكون في أعلى حالات تعبيري عن رومانسيّتي حين أخبرك أنّك أحمق من أمّ الهنبر !
حاولتُ بإخلاص، كثيرا بلا جدوى في تلك الأيّام أن أخبرك بالحقيقة الّتي أومن بها ..

- إنّه مخادع مزيّف .. مثلي!

هذا البحر الّذي يحاول تقليد زرقة السّماء بلا براعة حقيقيّة .. حتّى نسي حقيقته الكئيبة وهي أنّه لا لون له .
مثلي تماما حين أحاول أن أبدو عليما ببواطن الأمور ومثقّفا وممتلئا حكمة وفهما عميقا ..
ومثلي تماما أيضا يفشل البحر دوما .. 
ويُكشَف زيفُه ويفتضح حين يأتيه العابثون من كلّ صوب ليسبحوا فيه ويلقوا فيه قاذوراتهم، فيستحيل لونه أخضر أوّلا كأيّ مرج تافه .. ثمّ رماديّا كبقايا هندوسيّ عابد أبقار .. رغم إصراره على كونه مشابها حينها للسّماء حين تتلبّد بالغيم .. لكنّه مثلي يعلم أنّه ليس كذلك!

ينتحل صفة الحكمة وهو أكثر مخلوق عرفته نزَقًا وطيشا حين يثور وينسى قناع الحكمة فينسى حدوده ويغرق الآمنين ويقلب سفن الصّيّادين ..

ويتظاهر بالسّحر والغموض وهو أكثر مخلوق روتينيّ رتيب عرفته .. ولم أره يوما أتقن شيئا غير حركَتيْ المدّ والجزر الّذين يدّعي أنّهما حركتان ..

ويتكلّف الشّاعريّة وهو يحاكي بصوت غليظ أجشّ صوت الشّلّالات وخرير الجداول السّاحر فعلا ..

وأسوأ ما فيه وجهه الكالح الغادر القبيح الّذي يجيد إخفاءه خلف ابتسامته الباردة كالموت، ويفشل في إخفائه عنّي أنا الّذي أشبهه حين يقتل بدم بارد ويلتهم الجثث ويتستّر عليها طويلا .. طويلا ..

لكنّ له – للأمانة والإنصاف – ميزة واحدة يتيمة لا يملك غيرها .. وهي أنّه يسمح لك برؤية الأفق ..
وهو في ذلك مثلي أيضا حين أحملكِ بالكلمات إلى عوالم فيروزيّة كلونه المزيّف ..
لكنّنا – أنا وهو – نريكِ ذلك السّحر في البلّورة ولا نوصلك له أبدا !

لذلك كنت أمقته .. ولا تخدعني ألاعيبه .. وكنتُ أبذل لك النّصيحة وأكشف لك زيوفه وحقائقه الّتي تشبهني في إخلاص ..
وكنتِ كديدنك ترفضين فلسفتي المتحاملة – في رأيك – الّتي تفسد عليك براءة أحلامك وسذاجتها .. وتُجملين ذلك كلّه في جملة واحدة غبيّة مكرّرة تسقمني سآمة :

- أنت بعيد عن الرّومانسيّة !

وكنتُ أجيبك من بين أسناني:

- وأنت عن الفهم أبعد يا عزيزتي!

وكنتُ .. وما زلتُ .. ولا إخالك إلّا باقية .. أعظم الحمقاوات براءة وطهرا في تاريخ بني آدم ..
وكنتُ أعلم أنّني أغرق في مستنقعك الّذي يقودني إلى البحث عن حلّ لمشكلٍ أعلم أنّه آت لا محالة .. 
حلٍّ غير مؤذٍ بيننا أنا وأنت الّتي يقتلك انفصالك عنّي كما يقتلني ارتباطي بك .. 
حلّ لأطفال سيحملون عنك (DNA) لا تحمل (جين) الخيانة، وسيبتلون بنصف كروموزومات جنوني واكتئابي ..
كنتُ موقنا برغم كلّ شيء أنّني سأكون الفائز في مسابقة الإحباط ..
وقد كان ..

كمال المرزوقي

رئيس جامعة الإمام مالك للعلوم الشّرعيّة بتونس.

  • 2
  • 0
  • 3,099
المقال السابق
نوستالجيا (مارجريت) (3)
المقال التالي
نوستالجيا (مارجريت) (5)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً