نوستالجيا (مارجريت) (6)
كمال المرزوقي
ننامُ أحيانا هربا من الواقع فنصحو لنحمد الله على هذه الحياة البائسة الّتي نعيشها، حين نكتشف أنّنا في نعيم مقيم، وأنّ حياتنا الملأى بالمصائب نعمةٌ كبرى مقارنةً بما رأيناه من بؤسٍ في الحلم الّذي لعب بنا فيه الشّيطان!
- التصنيفات: قضايا الزواج والعلاقات الأسرية -
ننامُ أحيانا هربا من الواقع فنصحو لنحمد الله على هذه الحياة البائسة الّتي نعيشها، حين نكتشف أنّنا في نعيم مقيم، وأنّ حياتنا الملأى بالمصائب نعمةٌ كبرى مقارنةً بما رأيناه من بؤسٍ في الحلم الّذي لعب بنا فيه الشّيطان!
ونمتُ أنا .. لأصحو على (جينريك) البداية للحلقة الموالية من مسلسل تمرّدي الطّويل الـ : (فول هاش دي) ..
التّمرّد على الأفكار والوضع الموجود وإلف العادة والعبارات المعلّبة الجاهزة والحكايا المكرّرة ... وعليكِ أنتِ!
بكلّ طهرك المبالغ فيه، ونقاوتك المستفزّة، وبراءتك الّتي تُشعِر القدّيسين بالخيانة ..
إنّ في داخل كلّ واحد منّا أملًا ...
أملًا بأن يكون هؤلاء الّذين يدّعون النّقاء والطُّهر كَذَبَةً متصنّعين .. ونأمل بكلّ قوانا أن يكونوا مثلنا خطّائين مذنبين، يأكلون الغيبة ويظهرون ما لا يبطنون ويتصنّعون البطولة والبراءة والصّدق والعفاف ويزلّون فيواقعون ما هو فوق اللّمم ..
وحين يريدون الاعتراف بما يثقل ضمائرهم من الآفات .. يغمض أحدهم عينيه في براءة حملان الرّسوم المتحرّكة ويطوّح رأسه يمينا وشمالا في صفاء .. ويخبرك بأنّ أشنع عيوبه أنّه يثق في النّاس .. وأنّ ما في جيبه ليس له .. وأنّ أشنع عيوبه طرّا أنّه حسّاس أكثر من اللّازم !
وتعلم أنت أنّ هذا الزّنيم اللّئيم يسرق النّاس ويطفّف المكيال والميزان ويكذب ويفتري ويزوّر الأوراق الرّسميّة ويغشّ في عدّادات الكهرباء والغاز ويجحد النّاس متاعهم ويقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ..
لكنّك تهزّ رأسك موافقا مداهنا .. وتواسيه وتنصحه بأن يترك تلك العيوب الّتي لو صدّق هو أنّها عيوب فعلا لكان من الأبرار !
نعم نحن نفرح جدّا حين نكتشف زيف الطّلاء الّذي يحسبون أنّهم يغشّوننا به ويُعمُوننا عن ألوانهم الكالحة الحقيقيّة وصبغتهم الكريهة الفعليّة ..
نفرح ليس لأنّهم أشرار .. بل لأنّنا لسنا وحدنا ..
نفرح، لا بالخطيئة .. بل لأنّنا نطمئنّ لكون ذلك الطّلاء البرّاق الخارجيّ لا يمكن أن يكون حقيقة وطبْعًا في البشر.
نفرح لأنّنا نحفظ أمْننا الدّاخليّ بأنّنا لسنا بذلك السّوء الّذي كنّا نظنّه في أنفسنا ..
نفرح لأنّنا حين نكتشف زيفهم .. نستشعر الرّضا عن أنفسنا فنشبع غريزة حبّنا لها ..
أمّا أنتِ يا (مارجريت) !
أنتِ تخنقين ذلك الأمل وتغتالينه .. بطهرك ونقاوتك وبراءتك الصّادقة الأصليّة الّتي لا يزيدها كَحْتُ الطّلاء إلّا توهُّجًا .. كأنّما تكْحَتُ ذهبا إبريزا وعسْجدًا من خزائن مَرازبة الفُرْس.
إنّ كونك على هذا الّذي أنت عليه مستفزّ لكلّ بشريّ مخلوق من طين معجون بالخطايا والآثام !
وقربك مزعزع للأمن الدّاخليّ .. للمداهنين ..
وأعدى أعداء المتصنّعين المزيّفين مثلي هم أمثالك وأشباهك .. إن كان لك مثيلٌ ونظيرٌ في هذه الأزمان .
إنّ شرّ الكوابيس طرّا أن تشعر أنّك شيطان .. والاقتراب منك يشعر الزّاهد النّاسك بأنّه إبليس!
فلا أدري من أيّ شيء تتململين وتعجبين ؟!
إنّني لأرى بدهيّا أن أهرب منك لأُلقي نزقي وطيشي وكبري ورعونتي وبشريّتي الّتي لا مفرّ لي منها بين يدي إنسان من طين مثلي ..
ومتوقَّعٌ جدّا فراري من عالمك الّذي يشبه معبدا من المَرْمَر والعاج لأدخله فقط حين أشعر بالحاجة للطّهارة وغسل الأدران ..
هل رأيتِ قطّ رجلا يعيش في مُغْتَسل ؟
أنت تمليكن ترف النّظر من ثقب أنثويّ ضيّق جميل كمُنَمْنَمَاتِ فسيفساء الآثار البونيقيّة .. وأنا أنظر من سهول ذكوريّة ومرتفعات صخريّة رجوليّة فسيحة شديدة الوعورة .. بشعة وباردة كالصّحاري الجليديّة !
أنت ترينني سعيدا حين أبتعد عنك لأنّك لا تعرفين من الحزن إلّا لونا واحدا بسيطا ..
تعرفين فقط أنّ الحزن يكسر بعض النّاس مثلما يفعل معك، لكنّك لن تفهمي أبدا حزنًا مركّبا معقّدا يجعل الوجه أقسى من الجليد ومن الماس .. والقلب أهشّ من الكمثرى النّاضجة سريعة الذّوبان .. والأفعال باردة لا مبالية .. كما يفعل معي ..
وحين ألبس قناع الصّلابة وألعب دور الإنسان الحجريّ وتمثال الثّلج أكون في أوهى حالاتي النّفسيّة.
أنتِ تهتمّين يا (مارجريت) برمزيّة الأشياء والتّفاصيل الّتي لا يلحظها أحد غيرك، ولا يهتمّ لها أحد سواك .. وأنا مشغول بالصّورة الكلّيّة والمجموع الرّياضيّ والارتباط المنطقيّ للأحداث !
ولذلك حين أبتعد عنك تصيرين طفلة .. نسيتها أمّها في الظّلام لوحدها .. وأبتعد عنك فأغدو رجلا قادرا على النّظر في عيني التّنّين يعرف طريق العودة إلى البيت بمفرده.
وحين تقتربين منّي تصيرين أمّا .. بمجرّد أن تضمّيني تحت جناحك : يسهل عليّ كلّ شيء .. ويتوفّر لي كلّ شيء .. كأنّما قد عدتُ للمهد الّذي ترجّه أمّي .. ومن غير أن أطلب شيئا أو أعرف ما أريد .. تعرفين ما أحتاج فتوفّرينه!
فلذلك حين تغيبين يطول غيابك بقدر خيبة أملي .. لكنّك لا تعاقبينني بالغياب أبدا .. وأغيب عنك فتتعاظم لامبالاتي بقدر انتظارك .. وأستفزّك بها دوما ..
نعم أحبّك ..
لكن لِمَ تطالبينني أنّ أحبّك كما تحبّينني ؟!
أنا أحبّك حبّ البشر .. حبّ الفانين .. قد أشعر أحيانا - حين يتجلّى طهرك، وتؤذيني براءتك، وتستفزّني نقاوتك الطّاغية، ويقتلني صدق ذلك كلّه فيك - أنّني أحبّ معنًى مجرّدا لا خَلْقا من لحم ودم ..
حبّا أشبه شيء بحبّ النّاس للحرّيّة والعدل والوفاء ..
لكنّني بشر .. يتدنّى أحيانا خيالي لأن أراك امرأة ، وأحبّك بالغريزة وشبق الأطفال!
أمّا أنت فتحبّينني كأمّ !..
وحدها أمّ تقدر أن تحبّ عيوبك ومساويك .. وترى قبحك جمالا، وسماجتك دلالا ..
وحدها أمّ تقدر أن تحبّك وهي غاضبة .. وتغطّيك من لسعة البرد وهي حانقة .. وتجهّز غداءك وهي جريحة ..
وإنّه لظلم بيّن أن تطلبي منّي أن أحبّك كما تحبّينني ..
متى طُلِب من الأبناء أن يحبّوا آباءهم كما يحبّونهم ؟! هذا تكليف بما لا يطاق !
ودَخَلتْ (مارجريت) عليّ كهفي معلنة وقف إطلاق الأفكار .. بالطّبق الكبير عليه غداء أو عشاء !
- الغداء.
قالتها بصوت حزين .. بل بصوت من حزن ..
لا أدري كيف يمكنني أن أشرح لك .. لو أمكنك أن تتصوّر حُزْنًا حزينا ويسلّي نفسه بعزف نشيد حزين على (بان فلوت) ..
لو أمكنك أن تتخيّل هذا فأنت تقريبا وصلت إلى تخيّل شيء قريب جدّا .. لكنّه ليس عين الصوّت.
نظرتُ إليه .. فالتقت عينانا ..
قلتُ في جفاء :
- لا أريد شيئا .. ارفعيه !
قالت في خفوت :
- أنت لم تأكل منذ ...
فكّرَتْ للحظات .. ولَقِفْتُ أنا فوْرًا المعضلة الّتي سبحَتْ فيها ..
((هل تعشّى بالأمس ؟ هل أطعمته هي ؟ كيف أكل ؟ هل هي من طبخت ؟ هل أعجبه نفَسُها في الطّبخ إن كانت هي من فعل ؟ هل شبع ؟ هل كان ... ))
لا شكّ أنّني قطعتُ عليها تسونامي الأفكار السّوداء الّتي أغرقَتْها ..
فعلتُ ذلك عمدا .. رحمةً بها .. وبنفسي، وأنا أقول صادقا:
- منذ يومين .. نعم، لكنّني لست جائعا.
انحنتْ ترفع الطّبق، وغمغمت بنفس النّغمة من بين شفتين شبه مطبقتين :
- ربّي يهديك !
- ... !
حسناءُ شرقيّةٌ عربيّةٌ غيور .. تتزوّج عليها وتبيّتها باكية، وتهجرها ليلةَ عودتك بلا كلمة مواساة، لتنام في المكتب على الغلاف الكئيب لكتاب (جون غراي) المليء بالأوهام الّتي تتسرّب للأحلام ..
ثمّ تصحو لتجد غداءك على طبق ..
ثمّ يكون منتهى انتقامها لنفسها دعوةً لي بالهداية !
::: هذه الأمّ (تيريزا) فعلا !
حتّى الحقد الّذي هو أهون حقوقها .. تبخّر كغضبة الأمّ سريعة الزّوال .. فلم يبق منه إلّا دعاء بالهداية .. ليشعرني بأنّني ولد عاقّ لا أكثر !
أسطوريّة أنت يا (مارجريت) !