مت شهيدا

منذ 2015-02-26

وعلى مَرِّ قرون الإسلام ظلَّ علماءُ الأمَّة هم صمامَ الأمن لها، ولا يزالُ هؤلاء العدول ينفون عن دينها تحريفَ الغالين، وتأويلَ الجاهلين، وانتحالَ المبطلين، يُبصرون الناسَ في ظلامات الفتن، ويشدُّون من أزرهم في شدائد الأزمات، يقمعون أهلَ البدع والأهواء، ويأخذون على أيدي السلاطين والأمراء.

أخرج أبو داود في سننه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء، وإن الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ وإنما ورثوا العلمَ، فمن أخذَه أخذ بحظ وافر))؛ صححه الألباني.
 
كان من حكمة الله -عز وجل- بعد أن قضى أنه لا نبيَّ بعد محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يُوكل أمرَ التبليغ والدَّعوة إلى علماء أُمَّته، فالعلماء بمجموعهم في كل زمان ومكان يُمثلون دعوةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- ولذلك كانت لهم العصمة بمجموعهم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة))؛ أخرجه أحمد في مسنده، والطبراني في الكبير، وابن أبي خيثمة في تاريخه، عن أبي بصرة الغفاري مرفوعًا.
 
وعلى مَرِّ قرون الإسلام ظلَّ علماءُ الأمَّة هم صمامَ الأمن لها، ولا يزالُ هؤلاء العدول ينفون عن دينها تحريفَ الغالين، وتأويلَ الجاهلين، وانتحالَ المبطلين، يُبصرون الناسَ في ظلامات الفتن، ويشدُّون من أزرهم في شدائد الأزمات، يقمعون أهلَ البدع والأهواء، ويأخذون على أيدي السلاطين والأمراء.
 
ولا يُحسب عليهم مَن باع دينه بعرَض من الدُّنيا زائل، وتقرَّب للملوك والأمراء وداهنهم على حساب دينه، وجعل مذهبه إرضاءَ أهوائهم.
 
وقد ترك بعضهم المندوب له، واعتزل الناس، وخاف الفتنة على نفسه، وخشي من أبواب الأمراء، ويصدق فيهم قولُ نبيِّهم -صلى الله عليه وسلم-: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خيرٌ من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم))؛ أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن.
 
قال الصنعاني: في الحديث أفضلية مَن يُخالط الناس مخالطةً يأمرُهم فيها بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويُحسن معاملتَهم، فإنَّه أفضل من الذي يعتزلهم ولا يصبر على المخالطة؛ اهـ.
 
ومنهم من شمَّر عن ساعد الجد، وهانتْ عليه نفسُه في الله، فقام يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، لا يخاف في الله لومةَ لائم، وجعل نصْبَ عينه قولَه -تعالى-: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 15]، فبهؤلاء تسترشد الأمة الإسلامية، وتعود إلى دين ربها إذا ضلَّت.
 
يقول الشيخ البشير الإبراهيمي: ما زلتُ أتمنى على الله أمنية، شغلتْ عقلي وفكري منذ مِزتُ الخير من الشرِّ، وهي أن يسترجع علماء الإسلام ما أضاعوه من قيادة المسلمين، إنَّ علماء الدين أئمة، فإذا لم يخدموا الأممَ الإسلامية في جميع الميادين النافعة، وإذا لم تتوجه الأُمَّة إلى حيث وجَّهوها، فلا معنى لهذه الإمامة، وقد جرَّبت الأمم الإسلامية -بعد الصدر الفاضل- أنواعًا من القيادة، فما أوقعتْها إلا في المهالك والبلايا، واستشرف المسلمون إلى هُداة وحداة، حتى يردوا هذا السواد المتخبِّط في داجية من الضَّلال إلى الحظيرة الجامعة، والقلعة المنيعة؛ اهـ؛ "آثار البشير الإبراهيمي" (2/308).
 
إنَّ مما تحتاجه الأُمَّة الإسلامية الآن للخُروج من هذه الفتن، صدع صالحيها وعلمائها بالحق، وسنذكُر طرفًا من أخبار بعض الصادعين بالحقِّ على مر العصور الإسلامية؛ لنهيجَ المشاعر، ونشحذ الهمم، ونقدم القُدوة؛ لعل الله يرزقنا أناسًا في ورعهم وإخلاصِهم، لو أقسم أحدُهم على الله لأبرَّه، ويكون على يده التجديد والتمكين.
 
فمنهم:
عطاء بن أبي رباح:
التابعيُّ الجليل، دخل على عبدالملك بن مروان، فقال له عبدالملك: يا أبا محمد، ما حاجتُك؟ قال: يا أمير المؤمنين، اتقِ الله في حرم الله وحرم رسوله، فتعاهده بالعمارة، واتَّقِ الله في أولاد المهاجرين والأنصار، فإنَّك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثُّغور، فإنهم حصن المسلمين، وتفقَّد أمور المسلمين، فإنك وحدَك المسؤول عنهم، واتق الله فيمن على بابك، فلا تغفل عنهم، ولا تغلق دونهم بابك، فقال له عبدالملك: أفعل؛ اهـ؛ "سير أعلام النبلاء".
 
ومنهم:
الإمام عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي:
تحدَّث هذا الإمام عن لقائه بعبد الله بن علي العباسي، عندما قَدِمَ الأخيرُ الشامَ، وقد قتل من بني أمية العددَ الكثير، وقال الأوزاعي: بعث إليَّ عبدالله بن علي، فلما قمت مقامًا يسمعني وسلمت، قال: أنت عبدالرحمن الأوزاعي؟ قلت: نعم، أصلح الله الأمير، قال: ما تقول في دماء بني أمية؟ فسأل مسألةَ رجلٍ يريد أن يقتل رجلاً، قلت: قد كان بينك وبينهم عهود، فقال: وَيْحك، اجعلني وإياهم لا عهدَ بيننا، فأجهشت نفسي وكرهتُ القتل، فذكرت مقامي بين يدي الله -عز وجل- فلفظتها، فقلت: دماؤهم عليك حرام، فغضب وانتفخت عيناه وأوداجه، فقال لي: وَيْحك، ولِمَ؟ قلت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يَحل دمُ امرئ مسلم إلاَّ بإحدى ثلاث: ثيب زانٍ، ونفس بنفس، وتارك لدينه))؛ قال: وَيْحك، أَوَليس الأمر لنا ديانة؟ قلت: وكيف ذاك؟ قال: أليس كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أوصى لعلي، قلت: لو أوصى إليه ما حكَّم الحكمين، فسكت، وقد اجتمع غضبًا، فجعلتُ أتوقَّع رأسي تقع بين يدي، فقال: بيده هكذا؛ أومأ أن أخرجوه، فخرجتُ.
 
قال الذهبي معلقًا، قد كان عبدالله بن علي مَلِكًا جبارًا سفَّاكًا للدماء، صعبَ المِراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعيُّ يصدعه بمُرِّ الحق كما ترى، لا كخَلقٍ من علماء السوء، الذين يُحسِّنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف، ويقلبون لهم الباطل حقًّا، قاتلهم الله، أو يسكتون مع القدرة على بيانِ الحق؛ اهـ؛ "سير أعلام النبلاء".
 
انظر إلى وصف الإمام الذهبي لعلماء السوء، كانوا يُزيِّنون للأمراء المظالم، ولكن علماء السوء الآن يزينون لهم مُحاربة الدين وأهله؛ حَسَدًا وغلاًّ منهم على أهل الحق، ويا ليتهم سكتوا، على الرغم من أنَّهم لو تكلموا، فلن تقع رؤوسهم بين أيدهم، كما كان الحال في الماضي؛ بل ربما كان جل الأمر أن يُعزلَ من منصبه، وهذا سيكون خيرًا له من المداهنة بالدين.
 
ومنهم:
الإمام أبو بكر النابلسي:
كبير أهل مدينة الرَّملة من بلاد الشام، صدع بالحق أمامَ شرِّ خلق الله العبيديين، فبعدما قبضوا عليه، حملوه إلى مصر في قفصٍ من خشب، قال له صاحبُ مصر: بلغنا أنَّك قلت: إذا كان مع رجلٍ عَشَرَةُ أسهم، وجب أن يرمي في الروم سَهمًا، وفينا تسعةً، قال: ما قلت هذا، بل قلت: إذا كان معه عَشَرَةُ أسهم، وجب أن يرمِيَكم بتسعةٍ، وأن يرمي العاشرَ فيكم أيضًا، فإنكم غيَّرتم الملة، وقتلتم الصالحين، فأمر المعز العبيدي بأن يسلخ جلد الإمام وهو حيٌّ، فسُلِخَ كما تُسْلَخُ الشاة، وهو يقرأ القرآن بصوتٍ قوي، ثم غُشي عليه ومات -رحمه الله- وكان الدارقطني يذكره ويبكي ويقول: كان يقول وهو يُسلَخ: ﴿ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾ [الإسراء: 59].
 
ولا يَحسن بنا أنْ نَختم دون ذكر إمام الصادعين بالحق، مَن حَفِظَ الله به الدين، وثَبَّت به عقيدة المسلمين، إنَّه إمام أهل السنة.
 
الإمام أحمد بن حنبل:
ابتليت الأمة بفتنةٍ جديدة كبيرة، يقودها إمامُ المسلمين، إنَّه المأمون، ومع الأسف لم يكن له حظٌّ من اسمه؛ إذ اعتقد المأمونُ قولَ المعتزلة أنَّ القرآن مخلوق، وجعل يَمتحن الناس على ذلك، ومن لم يُجب، قتَلَه، حتى جاء الإمام أحمد.
 
سِيق الإمام مقيدًا بالأغلال، وقد توعَّده المأمون وعيدًا شديدًا، قبل أن يصل إليه، وأقسم بقرابته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لئنْ لم يجبْه ليقتلنَّه بالسيف، وهنا يأتي الصالحون، أهل البصيرة؛ لينتهزوا الفرصة؛ ليلقوا بالوصايا التي تثبِّت في المواقف الحَرِجة، ففي "السير": أنَّ أبا جعفر الأنباري قال: لما حُمل الإمام أحمد إلى المأمون أُخبرت، فعَبَرت الفُراتَ وجئته، فسلمت عليه، وقلت: يا إمامُ، أنت اليومَ رأسٌ، والناس يقتدون بك، فوالله لئنْ أجبتَ إلى خلق القرآن، ليُجيبنَّ خلقٌ كثير، وإنْ لم تُجب ليمتنعنَّ خلق كثير، ومع هذا فإنَّ الرجل إن لم يقتلك، فإنك تموت، لا بد من الموت، فاتَّقِ الله ولا تجبه.
 
والإمام أحمد في سياق رحلته إلى المأمون يقول: وصلنا إلى رحبة، ورحلنا منها في جوف الليل، قال: فعرض لنا رجل، فقال: أيُّكم أحمد بن حنبل؟ فقيل: هذا، فقال: يا هذا، ما عليك أن تُقْتَلَ ها هنا وتدخل الجنة، ثم قال: أستودعك الله، ومضى.
 
وأعرابي يعترضه، ويقول: يا هذا، إنك وافدُ الناس، فلا تكن شؤمًا عليهم، إنَّك رأس الناس، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدْعونك إليه، فيجيبوا، فتحمل أوزارَهم يوم القيامة، إن كنت تحب الله فاصبر، فوالله، ما بينك وبين الجنة إلاَّ أن تقتَل.
 
ويقول الإمام أحمد: ما سمعتُ كلمةً مُذ وقعتُ في هذا الأمر أقوى من كلمةِ أعرابي كَلَّمني بها في رحبة، قال: يا أحمدُ، إنْ يقتلْك الحق متَّ شهيدًا، وإن عِشت عشتَ حميدًا، فقوَّى بها قلبي.
 
ولما وصل للمأمون، جاء خادم للإمام أحمد بن حنبل وهو يكفكف دموعه، ويقول: "عز عليَّ يا أبا عبدالله أنْ جَرَّد أميرُ المؤمنين سيفًا لم يُجرِّده قطُّ، وبسط نطعًا لم يبسطه قط...".
 
فبرك أحمد على ركبتيه، ولحظ إلى السماء بعَيْنِه، ثم قال: سيدي، غَرَّ هذا الفاجرَ حِلمُك، حتى تَجرَّأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكنْ القرآنُ كلامَك غيرَ مخلوق، فاكْفنا مؤنته، فما مضى الثُّلث الأول من الليل إلاَّ وقد جاء الصَّريخ: لقد مات أمير المؤمنين، وذلك في عام مائتين وثمانية عشر.
 
ثم تولَّى بعده المعتصم، وقَدِ اتَّخذ له مستشارًا مُبتدعًا، يسمى أحمد بن أبي دؤاد، فسَمَّم أفكاره، ولم يزل يحرضه على أهل السنة.
 
وهكذا يعذَّب الإمام أحمد في سبيل عقيدته، تُخلَع يداه، ويُجلد بالسياط الكثيرة، يختار الظالمون له عددًا من قُساة القلوب، وغِلاظ الأفئدة؛ ليجلدَه كلُّ واحدٍ منهم سَوطيْن بكُلِّ ما أوتيَ من قوة، وهم يتعاقبون عليه، وهو ثابت كالطَّوْد الأشمِّ، لا يتراجع أبدًا، يُغمى عليه من شدة التعذيب، ثم يفيق، فيُعرَض عليه الأمر فلا يتراجع.
 
قال أحمد: في اليوم الذي خرجتُ فيه للسياط، ومُدَّتْ يَدايَ للعَقَّابين، إذا أنا بإنسانٍ يَجذب ثوبي من ورائي ويقول: تعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا أبو الهيثم العيار، اللصُّ الطرَّار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أنِّي ضُربت ثمانيةَ عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرتُ في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدُّنيا، فاصبر فأنت في طاعة الرحمن لأجل الدِّين.
 
فكان الإمام أحمد دائمًا يقول: رحم الله أبا الهيثم، غفر الله لأبي الهيثم، عفا الله عن أبي الهيثم، وفي عام مائتين واثنين وثلاثين تولَّى المتوكل -رحمه الله- فنصر الله به الدين، وأقام به السُّنة، وأظهر عقيدة السلف أهلِ السنة ودعا إليها، بعد ابتلاء أهلها وفتنتهم وامتحانهم على عهد ثلاثة من الخلفاء قبله؛ ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102].
 
ولَمَّا أُهِينَ الإمامُ أحمد -عليه رحمةُ اللهِ- من قبل ابن أبي دؤاد، رفع يديه إلى مَن ينصُر المظلوم، وقال: "اللهم، إنَّه ظلمني، وما لي من ناصرٍ إلا أنت، اللهم احبسهُ في جِلْده وعَذِّبه"، فما مات هذا حتى أصابه الفَالِج، فيَبِسَ نصفُ جسمه، وبقي نصف جسمه، فدخلوا عليه وهو يَخورُ كما يخور الثور، ويقول: أصابتْني دعوةُ الإمامِ أحمد، ما لي وللإمامِ أحمد، ما لي وللإمامِ أحمد.
 
ثم يقول: واللهِ، لو وقعَ ذباب على نصفِ جسمي لكأَنَّ جبال الدنيا وُضعت عليه، أمَّا النصف الآخر، فلو قُرض بالمقاريض ما أحسستُ به.
هذه هي سيرة الأماجد من السَّلف والخلف من أهل السنة، ومَن خَفِي أمرُهم عني كثير، ولكن حسبهم أن الله يعلمهم.
هذا، ونسأل الله لهذه الأمة أَمْرَ رُشد، يعزُّ فيه أهلُ طاعته، ويُهدَى فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

إيهاب إبراهيم

باحث شرعي وكاتب صحفي

  • 0
  • 0
  • 3,248

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً