فرسان المنبر
وإذا كان الجهادُ بالسنان والبيان، فإنَّنا نناشد فرسانَ البيان بأنْ يَمتطوا المنابرَ، وينطلقوا في ميادين القلوب والعقول بسُيُوف الحجة والبُرهان، يقتحمون حصونَ الشَّهَوات والشُّبَهات، ويُخرِجون العبادَ من عبادةِ العِبَاد إلى عبادة رب العباد.
إنَّ الناظرَ إلى حال الأمة الآنَ، وما تُعانيه من هجوم على دينها، وكثرة عوامل ومَعاول الهَدْم فيها، حتى وصل الأمرُ إلى نقض البَدَهيات والأسس، والتشكيك في كل ما هو إسلامي، وما أصاب أبناءَها من وَهنٍ وضعف، واستحكام طوق الغربة حول رقبتهم، وهم مغلوبون على أمرهم - باستثناء بعض ثغور الجهاد - لا يَملكون الآن إلاَّ الكلمة، ورُبَّما فقدوها في بعض البُلدان والأوقات.
لذا؛ فإننا بحاجة إلى استغلال الكلمة أعظم استغلال، فهي سِهامُنا وقذائفُنا، وكم فتحت الكلماتُ من بلدان وقُرى كانت لا تعلم شيئًا عن دين الله، وهي ثاني مرحلة في تغيير المنكر، إذا عجزْنا عن التغيير باليد، فيجب أن نصير إليها؛ لذا كان لزامًا علينا أن نَهتم بها وبقائلها.
إننا ندعو إلى تحديث وتغيير الخطاب الديني، ولكن ليس على طريقة الأشقياء، مَن هَزَمَهم الوَهنُ والخَوَر، وأصبحوا يرون أنفسَهم في موقع المتَّهم دائمًا، فصاروا يبحثون عن خطابٍ جديد يتأصَّل فيه منهج التنازُلات؛ ولكن ندعو إلى العودة إلى منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام في إلقاء الكلمة، المنهج الذي يعد تحديثًا الآن لهذا الخطاب الضَّعيف المتخاذل.
ولا تزال الخُطبة هي سوق الكلمة الأكبر؛ إذ يرتادها الجمهور الغفير، فكلما كانت الكلمات قويةً مُؤثِّرة أقبل الجمهور عليها، وكان لها أعظمُ الأثر، ولقد تغيَّرت أحوالُ كثير من العباد - بل والبلاد - بكلمة ألقاها صادقٌ يبتغي بها وَجْهَ الله.
إننا بحاجة إلى ذلك الخطيب الذي يرفع الصدقَ شِعارَه؛ كي يصل كلامُه لقلوب الناس؛ قال -تعالى-: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 97]، فإن الكلام إذا خرج من القلب وصل إلى القلب، إن استشعار الخطيب لهموم الأمة وما يلقيه على الناس يعطيه قوةً في الصوتِ، وبريقًا في العين يقنع المتحدِّث بعدل قضيته؛ قال عمر بن ذر لأبيه: يا أَبَتِ، ما لك إذا تكلمت أبكيتَ الناس، وإذا تكلم غيرُك لم يبكهم؟ فقال: يا بُنَيَّ، ليست النائحة الثَّكْلَى مثل النائحة المستأجرة، فإن الكلام إن لم يخرج من قلب محترقٍ، فمن الصَّعب وصوله إلى المستمع.
إنَّنا بحاجة إلى ذلك الخطيب الذي يهتمُّ بالفرائض والنوافل؛ ليكونَ مَحبوبًا عند الله والناس؛ قال -تعالى- في الحديث القدسي: ((وما تقرَّب إليَّ عبدي بشَيْءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويده التي يَبطش بها، ورجله التي يَمشي بها))؛ رواه البخاري.
إنه الخطيب الموفَّق الذي خطب في نفسه قبل الناس، فوعظها وأصلح أمرَها، فأحبه الله، ووضع له القَبول في الأرض، وفي قلوب الناس؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنَّ الله إذا أحبَّ عبدًا دعا جبريل، فقال: يا جبريل، إنِّي أحبُّ فلانًا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إنَّ الله يُحب فلانًا فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القَبول في الأرض))؛ رواه البخاري، إن الحب هو رصيدُ الخطيب الأكبر؛ لتسهيل مهمته؛ حيث تكون القلوب مفتوحة مُهَيَّأَة لقبول النُّصح والإرشاد.
إننا بحاجة إلى ذلك الخطيب الواسع الاطلاعِ، الموثَّق الكلام، بعيدًا عن الشاذ والضَّعيف من القول والأحاديث، سهل العبارة، خبير بما يصلح الناس، ويُحدثهم بما يعرفون، بعيدًا عن التقعُّر والأقوال الشاذة، ففي الأثر عن علي - رضي الله عنه - قال: "حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله؟"، ويراعي مستواهم التعليمي في الغالب، فلا يُحدثهم بما لا يفهمون؛ قال ابن مسعود: "ما أنت محدثٌ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولُهم، إلا كان لبعضهم فتنة".
نحتاج إلى الخطيب الذي لا يُخالف عمله قوله؛ حتى يكون مقبولَ النُّصح عند الناس، فإنَّ الناس لا يقتنعون بقولٍ يُكذِّبه عملُ صاحبه؛ قال -تعالى- عن شعيب: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ ﴾ [هود: 89]، لا يتحقق فيه قول الله -تعالى-: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 45].
نحتاج إلى الخطيب المفوَّه الذي يُحسِن استخدامَ الألفاظ والعبارات الرقيقة، وهي في الوقت نفسه تجذب الانتباه؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنَّ من البيان لسحرًا، أو إنَّ بعض البيان لسحر))؛ أخرجه أبو داود في السنن وصححه الألباني، بعيدًا عن تكلُّف السجع وشغل الناس به عن مضمون الخطبة، يُحدثهم بما يألفون من الألفاظ، بحيث يكون إيصال المعنى جليًّا هو مقصده، يجمع بين الترهيب والترغيب؛ فإن النفوس ترجو وتخشى.
ويَجب أن يهتم الخطيب بنظافته ومظهره وهندامه؛ فإنَّ ذلك له وقع وتقدير عند الناس، كما أنه يدعو إلى الطهارة، وديننا دين النظافة والطهارة، والنفوس تنفر من المظهر القبيح، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من جاء الجُمُعَة، فليغتسل))؛ رواه البخاري، وقد بوب البخاري - رحمه الله - باب يلبس أحسن ما يَجد، وفي الحديث الذي رواه أبو داود: ((ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليومِ الجُمُعة سوى ثوب مهنته))؛ صححه الألباني.
نحتاج إلى الخطيب الماهر المتفرِّس، الذي يعيش همومَ المجتمع، وتكون خطبته في واقع الأحداث غير مغيبة عنه، يُخالط آلام الناس، ويُعايش مشاكلهم، ويضع لها حلولاً من الشرع.
يتمتع بالقوة والشَّجاعة، فهو لا يَخاف في الله لومةَ لائم، ولكن من غير تجريح في الأشخاص، فليس من الشَّجاعة ذكرُ الحكام والأمراء على المنابر مع غلبة الظنِّ بوقوع التَّلفِ وإيقاف الدعوات؛ بل يأمر بالمعروف أمرًا مطلقًا، وينهى عن المنكر نهيًا مطلقًا، ويتَّخذ منهج النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ما بال أقوم...)).
ومما يُعين الخطيبَ معرفةُ منهج إعداد الخطبة، فيجب أن يبدأ بموضوع الخطبة، ويكتب الفكرة إجمالاً، ثم يرجع إلى المصادر؛ ككتب التفسير وشروح الحديث والفقه والسِّيَر، ويَجب أن يملأ موضوع الخطبة جميع كِيانه وحيز تفكيره، ويكثر التمعُّن في الأفكار ويسترسل فيها، ثم يرتب الموضوع: مقدمة، ثم صلب الموضوع، ثم الخاتمة، وفي كل عنصر من عناصر الموضوع يستدل عليه بالكتاب والسنة وآثار السَّلف الصالح وأقوال أهل العلم؛ بحيث يكون الكلام موثقًا، ويبدأ بالتأصيل للفكرة عمومًا، ثم يخصص بواقِعَة مُعيَّنة.
وقد يهجر الشباب ميدانَ الخطابة والوعظ بزعم الخوف من الرياء، ولا شك أنَّ الإخلاص مطلوب، وهو عزيز، ويحتاج إلى مجاهدة ومراقبة، ولكن لم يكن أبدًا عائقًا أمام السلف - رضوان الله عليهم - في تبليغ الأمَّة دينها، ولو خاف السابقون لَمَا وصل الدين إلينا، ولكن يجب المجاهدة والمراقبة مع السعي المستمر في العمل، وتقديم أفضل الموجود لدى الفرد، وقال البعض: "مَن ترك العمل خوفًا من الإخلاص، فقد ترك العمل والإخلاص"، ولله در عمر - رضي الله عنه - لما قال: "اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة".
وقد يتأخَّر البعض عن الميدان رهبةً من المنبر ونظرات الحضور، ولكن إلى متى الهرب؟! إنَّ من واقع التجربة أنَّ هذا الأمر قد يستمر خطبة أو اثنتين، ولكن مع الاستمرار في الخطابة سُرعان ما يذهب هذا الشُّعور عن المرء، وربَّما ذهب بعد عدة دقائق من أول خطبة، ولكن هو بالفعل يَحتاج إلى تدرُّج وتدريب، كأن يقرأ الخطبة على نفسه أولاً، ثم على جمع من أصدقائه، أو أنْ يَخطب في مسجدٍ صغير في البداية.
وقد يحجم البعض عن ميدان الخطابة بدعوى أنَّ له ذنوبًا تشغله بنفسه، ولا شكَّ أن ترك الذنوب واجب، ولكن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حد ذاته ذنبٌ، وإذا لم يَعِظ إلا مَن خلاَ من الذنوب لم يعظْ أحد؛ لذا قالوا: "حقٌّ على شاربي الكؤوس أن يتناصحوا"، والعصمة للأنبياء، ولكن يجاهد نفسه حتى يتوافق القولُ والعمل؛ ليكون الوعظُ أوقعَ في قلوب الناس.
وقد يحجم البعض عن الميدان؛ بسبب ضعفه في أحد جوانب الخطابة، مثل: إتقان اللغة العربية، وأنَّه ربَّما أخطأ فيها، خصوصًا إذا طالت الجملة، وهذا يتعرَّض له المبتدئون غالبًا، ولا شك أن مراعاة اللغة العربية والفصاحة مطلوبٌ ومن زينة الخطبة، ولكن يجب التركيز في البداية على المعنى؛ حتى لا يتلجلج الخطيب، فالجمع بين المعنى والمبنى يصعُب في البداية، وقد يَحدث كارثة على المنبر، فربَّما عاد؛ ليصحح الجملة، فنَسِيَها ونَسِيَ ما بعدها، ولكن ذلك يذهب - بإذن الله - مع التمرُّس وذهاب الرهبة والاضطراب.
وقد رأينا في الآونة الأخيرة بُعْدَ الخطيب والخطبة عن منهج النُّبوة، فنسمع خُطَبًا ميتة لا رُوح فيها: نصفها دعاء في أولها وآخرها، قليلة المعنى والفائدة، والعِبْرة ليست بطول الخطبة أو قصرها، فالمقصود هو الاستفادة، ولذلك كان قصر الخطبة من غير إخلال من فِقْه الخطيب؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن طولَ صلاة الرجل، وقِصَرَ خطبته مَئِنَّةٌ من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقْصُروا الخطبة، وإن مِنَ البيان لسحرًا))؛ رواه مسلم.
والخطبة الإسلامية شاملة بشمول الدَّعوة، فينبغي أن تتطرق الخطبةُ إلى جميع مناحي الحياة - اجتماعية، أو سياسية، أو اقتصادية، أو عسكرية - مع رَبْطِ ذلك بشَرْعِ الله وبَيَانِ الهَدْيِ في ذلك، ويبقى الغرض الأساسيُّ هو تعبيد الناس إلى ربِّهم بسلوك شرعه، وتحقيق العبودية له.
يقول ابن القيم في "زاد المعاد":
"وكذلك كانت خطبته -صلى الله عليه وسلم- إنَّما هي تقريرٌ لأصول الإيمان: من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوبَ من خطبته إيمانًا وتوحيدًا ومعرفة بالله وأيَّامه"؛ اهـ.
وقد كانت خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- تبدأ بالحمد والثناء على الله، والتشهُّد، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((كل كلامٍ لا يبدأ فيه بالحمد، فهو أجذم))؛ رواه أبو داود بسند حسن، وعن أبي هريرة أيضًا: ((كل خطبة ليس فيها تشهُّد، فهي كاليد الجذماء))؛ أخرجه أبو داود وصححه الألباني، وكان إذا خطب -صلى الله عليه وسلم- علا صوتُه، واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم مسَّاكم، وكان يقرأ سورة (ق)، وربَّما حفظها بعض أصحابه من كثرة قراءته لها، وكان يدْعو في نهايتها ويشير بسبابته.
وإذا كان الجهادُ بالسنان والبيان، فإنَّنا نناشد فرسانَ البيان بأنْ يَمتطوا المنابرَ، وينطلقوا في ميادين القلوب والعقول بسُيُوف الحجة والبُرهان، يقتحمون حصونَ الشَّهَوات والشُّبَهات، ويُخرِجون العبادَ من عبادةِ العِبَاد إلى عبادة رب العباد.
هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
- التصنيف:
- المصدر: