النظام القضائي ونظرية العقوبة في الإسلام

منذ 2015-02-26

إنَّ من خصائص الشَّريعة الإسلامية الشموليةَ لجميع شُؤون الحياة، ولَمَّا كان وقوعُ النِّزاعات بين الناس أمرًا قد قضاه الله - عزَّ وجلَّ - بحكمته في جميع الأماكن والأزمان، فقد وضع نظامًا لفض هذه النِّزاعات، وهو ما يسمى بالنظام القضائي أو القوانين.

إنَّ من خصائص الشَّريعة الإسلامية الشموليةَ لجميع شُؤون الحياة، ولَمَّا كان وقوعُ النِّزاعات بين الناس أمرًا قد قضاه الله - عزَّ وجلَّ - بحكمته في جميع الأماكن والأزمان، فقد وضع نظامًا لفض هذه النِّزاعات، وهو ما يسمى بالنظام القضائي أو القوانين.
 
ووَضَع لهذا النِّظام أرفع التشريعات؛ لضمان الحقوق والواجبات، بحفظ النفس من المزهقات، والمال من المغتصبين والمعتدين، والأعراض من العابثين والقاذفين، فهو تشريعٌ من ربِّ الأرض والسموات، مُخالف لتشريع البشر العاجز، المبني على أوهام الأفهام واتِّباع الهوى.
 
وقد قَرَّر الفُقهاءُ أنَّ تَعيينَ القُضاة فرضٌ على الكفاية؛ إذ لا تستقيم حياة الناس إلا بقضاة يقومون بفض النزاعات بينهم؛ قال – تعالى -: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [المائدة: 49]، وقال: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 105]، وقال: ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى ﴾ [ص: 26]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ﴾ [النساء: 135]، قال القرطبي: هؤلاء الآيات هن أصل الأقضية؛ اهـ.
 
لذا كان واجبًا على الإمام تنصيبُ القُضاة، وبذلك مضتْ سُنة الخلفاء الراشدين ومن بعدهم.
 
وقد رغَّب الله في القضاء، وجعل عليه الأجرَ العظيم، غَيْرَ أنَّ هذا الأجر لمن قام بحقِّه، واجتهد في إصابة الحق؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا حَسَدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسَلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها))؛ قال ابن حجر: وفي الحديث الترغيب في ولاية القضاء لمن استجمع شروطَه، وقَوِيَ على أعمال الحق، ووجد له أعوانًا؛ لما فيه من الأمر بالمعروف، ونصر المظلوم، وأداء الحق لمستحقه، وكفِّ يد الظالم، والإصلاح بين الناس، وكلُّ ذلك من القربات، فلذلك تولاَّه الأنبياء ومن بعدهم من الخلفاء الراشدين، ومِن ثَمَّ اتَّفقوا على أنه من فروض الكفاية؛ لأنَّ أَمْرَ الناس لا يستقيم من دونه، وإنَّما فَرَّ مَن فر منه؛ خشية العجز عنه، وعند عدم المعين عليه؛ اهـ؛ ("الفتح" 13/129).
 
كما روى الشيخان من حديث عمرو بن العاص أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا اجتهد الحاكمُ فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر))، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ المقسطين عند الله - تعالى - على منابرَ من نور على يَمين الرحمن، وكلتا يديه يَمين، الذين يعدلون في حُكمهم وأهليهم وما وَلُوا))؛ رواه مسلم.
 
وهو أيضًا مسلك وعر، ومركب خطر؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 47]، فيجب على القاضي تحصيلُ أدوات الاجتهاد لإصابة الحق، وتَحرِّي الصدق والعدل، فقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل عرَف الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقضِ به وجار في الحُكم، فهو في النار، ورجل لم يعرف الحقَّ فقضى للناس على جهل، فهو في النار))؛ رواه أصحاب السنن، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من ولي القضاء، فقد ذُبح بغير سكين))؛ رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة.
 
لذا؛ فقد شرط العلماء في القاضي شروطًا، منها:
1- كونه رجلاً، بالغًا، عاقلاً.
2- الذكاء، والفطنة.
3- الحرية.
4- الإسلام.
5- العدالة.
6- صحة السمع، والنطق، والبصر.
7- العلم بالأحكام الشرعية.
 
وعلى القاضي آدابٌ يَجب أنْ يُراعيها، وقد أمرت بها الشَّريعة؛ تأكيدًا منها لمبدأ المساواة بين الناس في الخصومات، فيجبُ أنْ يُساوي القاضي بين المتخاصِمَين في الدخول عليه، ولا يسمع أحدهما في غياب الآخر، وأنْ يُسَوِّي بينهما في حسن الإقبال عليهما، فلا يَخص واحدًا منهما بإقبالٍ دون الآخر، وألاَّ يبدي أيَّ اهتمام بأحدهما دون الآخر، مثل الإقبال عليه أو الترحيب به دون خصمه؛ فإنَّ ذلك يكسر قلبَ الخصم، ويكون تُهمة في حق القاضي، حتى قال العلماء: يُسَوِّي بينهما في النَّظر، فقد قال - تعالى - مُؤكدًا معنى العدل والمساواة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 136].
 
كما يَجب ألاَّ يجلس القاضي للقضاء إلاَّ وهو في أكمل الأحوال، بألاَّ يكون مُشوش الذِّهن بأي شيء؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يقضِيَنَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان))؛ متفق عليه، قال ابن القيم: "ومن قَصَر النهيَ على الغضب وحدَه دون الهمِّ المزعج، والخوف المقلق، والجوع والظمأ الشديد، وشغل القلب المانع من الفهم، فقد قلَّ فقهُه وفهمه، والتعويل في الحكم على قصد المتكلم، والألفاظ لم تقصد لنفسها؛ وإنَّما هي مقصودة للمعاني المتوسَّل بها إلى معرفة مراد المتكلم"؛ اهـ.
 
لقد اعتنى الإسلامُ بالنظام القضائي وبمن يتولَّى هذه المهمة الجليلة؛ لتحقيق أكبر درجة من تحرِّي الحق والعدل بين الناس.
 
ومن الأمور المهمة التي تُميِّز النظامَ القضائي في الإسلام، نظريةُ الجزاء والعقاب في الإسلام:
لقد قرَّر الإسلام أن العقوبة دنيوية وأخروية، والأصل فيها أنَّها في الآخرة، ولكن اقتضى تنظيم العلاقة بين الناس، وضمان مصالحهم، ونشر الاستقرار في المجتمع أنْ يوقع الإسلام بعض العقوبات في الدنيا.
 
وقبل ذلك فقد اعتنى الإسلام بتقرير العقيدة الإسلامية في نفوس الخلق، وقرَّر فيها أن الله رقيبٌ على أفعال العباد؛ قال – تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء:1]، ففي ذلك ردع ذاتي عن ارتكاب الجرائم، كما أمر الله المجتمعَ المسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي ذلك أمرٌ بالبُعد عن الجرائم، ونهي عن الاقتراب منها، وبذلك يضيق الإسلام على مكامن الشرِّ في النفوس.
 
بَيْدَ أن بعض الناس ربَّما لا ينفعه الوعظ والتذكير، وتُسوِّل له نفسه اقترافَ المعصية أو الجريمة، فكان لا بد من إيقاع العقاب به؛ ردعًا له، وزجرًا لكل من تسول له نفسه الوقوع مثله في المعصية أو ارتكاب الجريمة.
 
وفي نظر الإسلام فإن تشريع العقوبة رحمةٌ من الله لعباده؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا أراد الله بعبد خيرًا، عَجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبد شرًّا، أمسك عليه ذنوبَه حتى يوافيه يوم القيامة))؛ رواه الترمذي، وحسنه الألباني، وذلك أنَّ عقاب الدنيا أيًّا كان، فهو أخف من عقاب الآخرة، وهو أيضًا منقطع بالموت، على العكس من عقاب الآخرة، وهي أيضًا زجر للعباد عن الجرائم قبل القيام بها.
 
فهي بمنزلة كَيِّ العضو المصاب من المريض؛ كَيْ لا يسري المرضُ في باقي الأعضاء، وأداة لاستقرار المجتمع وطمأنينة للناس على مصالحهم وحقوقهم.
 
كما أنَّ نظامَ العقوبات في الإسلام لا يفرِّق بين أفراد المجتمع، فالناسُ سواسية في نظر القَضاء الإسلامي، ويُقرِّر الإسلام أنَّ التفرقة بين طبقات المجتمع في تطبيق الحدود والعقوبات كانت من أسباب هلاك هذه المجتمعات؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سَرَق فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحد، وايمُ الله، لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقتْ، لقطعتُ يدها))؛ رواه البخاري، وفي إقامة الحدود والعقوبات على الأقوياء ردعٌ لهم؛ لعدم استخدام هذه القوة في التعدي على الخلق.
 
كما حَرَّم الإسلامُ الشفاعة في الحدود، فهي حَقٌّ لله يَجب تطبيقه، وإذا رُفع الحد للقاضي لا تجوز الشفاعةُ فيه؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأسامة بن زيد لما شفع في المرأة المخزوميَّة التي سرقتْ: ((أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الله تَعَالَى؟!))، فالحدود حق لله - عزَّ وجلَّ.
 
كما أنَّ إمام المسلمين يَجب عليه تطبيق الحدود وعدم التهاوُن في ذلك؛ فعدم تطبيقها سبب في نقص الرزق والخوف من العدو؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((حدٌّ يُعْمَلُ به في الأرض خيرٌ لأهل الأرض من أن يُمطروا أربعين صباحًا))؛ أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني.
 
وقد قام نظام العقوبات في الإسلام على أساسين عظيمين: العدل والردع:
فأما العدل، فإنَّ كلَّ عُقوبة على قدر الجرم من دون حَيْفٍ أو تَهاوُن، وهي من لدن حكيم خبير، على عكس ما يظن مَن قصر نظرُه، وضعف عقلُه عن إدراك الحكمة.
 
فقد يتخيل البعضُ أنَّ عقوبة قطع يد السارق - على سبيل المثال- فيها إهدار لآدميته، ونَسِيَ أو تناسى أن ذلك بما اقترفتْ يداه من خرق للجدار، وترويع للآمنين، والاعتداء على أموال غيره، وربَّما أرواحهم إذا قوبل بمقاومة.
 
وقد أنشد أحدهم معرِّضًا بأحكام الشريعة، موهمًا وقوع التناقُض فيها، وهو أبو العلاء المعري في قوله:
يَدٌ بِخَمْسِ مِئينَ عَسْجَدٍ فُدِيَتْ 
مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ 
 
فأجابه القاضي عبدالوهاب المالكي بقوله:
عِزُّ الأَمَانَةِ أَغْلاَهَا وَأَرْخَصَهَا 
ذُلُّ الْخِيَانَةِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي 
 
ورد آخرُ وقال: لما كانت أمينةً كانت ثَمينة، فلما خانتْ هانتْ.
 
وقد يدَّعي البعضُ أن العقوبات في التشريع الإسلامي فيها حَجْر للحرية الشخصية، مثل الزنا وشرب الخمر، وهذا في الحقيقة من أوهى الدَّعاوى، ومُجرد إيرادها يغني عن إبطالها؛ فإنَّ الحرية الشخصية تتوقف عند التعدي على حقوق الآخرين، أو على آدمية الإنسان، فإن الزاني تعدَّى على حقوق الآخرين، ووَلَجَ في إناء غيره، كما أن الحرية الشخصية تتوقف عند الإضرار بمصالح المجتمع، ولا شَكَّ في أضرار الزنا على المجتمع؛ من شيوع الفُحش، والأمراض، وضياع الأنساب، أمَّا الخمر ففيها إهدار لآدمية الفرد، وتعطيل لعقله وهو أشرف ما فيه؛ إذ مُيِّز به عن الحيوانات، والمفاسد المترتبة على شرب الخمر لا يَجحدها منصفٌ؛ مثل شيوع الجرائم، وفساد الأخلاق.
 
أما الأساس الثاني - وهو الردع - فإنَّ العقوبة تُوقِع بالمعاقَب ألمًا يظل دائمًا واعظًا له عن تَكرر الجريمة.
إنَّه تشريع اللطيف الخبير؛ ﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 15].
هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

إيهاب إبراهيم

باحث شرعي وكاتب صحفي

  • 1
  • 0
  • 4,351

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً