(بوكو حرام) و (جند أنصار الله)... لا تذعروهم علينا
لقد أمر الله بترْك شرْب الخمر برغم وجود المصلحة فيها، ولكن لَمَّا كانت المفسدةُ أعظمَ وأخطر، حَرَّمها الله على عباده، فاستنبط العلماءُ من هذه الآية وغيرها قاعدةً عامَّة وأصلاً من أصول الدين، وهو أن دَرْءَ المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.
الحمد لله، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
فإلى متى سينزف الجرح، ويضيع شباب الصَّحوة الإسلامية؟
الجماعة الإسلامية - مصر، فتح الإسلام - لبنان، بوكو حرام - نيجيريا، جند أنصار الله - فلسطين.
طَلَّت علينا في الآونة الأخيرة فتنةٌ عمياء صَمَّاء، كان أحدُ أطرافها (جماعة جند أنصار الله) في غَزَّة، وكان قبلها بقليل جماعة (بوكو حرام) في نيجيريا.
ولكُلِّ مسلم يتألَّم لحال هذه الأمة أنْ يتساءل: ما الأمر؟ لماذا هذه الدماء؟ لماذا هذه الصِّراعات؟ لماذا هذه الفتن التي تشبه قِطَع الليل المظلم؟
ولمعرفة الجواب لا بُدَّ من مقدمة نقرر فيها أمرًا مهمًّا، وقاعدة من أصول هذا الدين.
قال - تعالى -: ﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [البقرة: 219].
لقد أمر الله بترْك شرْب الخمر برغم وجود المصلحة فيها، ولكن لَمَّا كانت المفسدةُ أعظمَ وأخطر، حَرَّمها الله على عباده، فاستنبط العلماءُ من هذه الآية وغيرها قاعدةً عامَّة وأصلاً من أصول الدين، وهو أن دَرْءَ المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.
قال العز بن عبدالسلام: إذا اجتمعت مصالِحُ ومفاسدُ، فإن أمكن تحصيل المصالح ودَرْءُ المفاسد، فعلنا ذلك امتثالاً لأمر الله - تعالى - فيهما؛ لقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، وإن تعذَّر الدَّرْء والتحصيل، فإن كانت المفسدةُ أعظمَ من المصلحة، درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة؛ قال الله - تعالى -: ﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [البقرة: 219]، حَرَّمَهما؛ لأنَّ مفسدتهما أكبرُ من منفعتهما.
أمَّا منفعة الخمر، فبالتجارة ونحوها، وأمَّا منفعة الميسر، فبما يأخذه القامر من المقمور؛ اهـ؛ "قواعد الأحكام في مصالح الأنام".
وأخرج البخاري من حديث بيان بن عمرو، قال: حدثنا يزيد، حدثنا جرير بن حازمٍ، حدثنا يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((يا عائشة، لولا أنَّ قومك حديثو عهدٍ بجاهليَّة، لأمرتُ بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أُخْرِجَ منه، وألزقتُه بالأرض، وجعلت له بابين: بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا، فبلغت به أساسَ إبراهيم))؛ فذلك الذي حمل ابن الزبير - رضي الله عنهما - على هدمه... الحديث.
فهذا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُعرِض عن هدم الكعبة ليدخل فيها حِجْر إبراهيم، برغم أنه مُمَكن على مكة ودخلها فاتحًا، ومع ذلك أعرض لما تبيَّن له أنَّ المفسدة - وهي احتمال ردة أهل مكة - ستكون أعظم من هذه المصلحة.
وأخرج البيهقيُّ في "دلائل النبوة" من حديث حذيفة بن اليمان قال: لقد رأيتُنا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليلةَ الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقرٍّ، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألاَ رجل يأتي بخبر القوم، يكون معي يوم القيامة؟))، فسكتنا فلم يُجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله، ثم قال: ((يا حذيفة، قُم فأتنا بخبر القوم))، فلم أجد بُدًّا إذ دعاني باسمي أنْ أقومَ، فقال: ((اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تَذْعَرْهُم عليَّ))، قال: فمضيت كأنَّما أمشي في حمَّام حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يَصْلِي ظَهْرَه بالنَّار، فوضعت سهمي في كبد قوسي، وأردت أنْ أرميَه، ثم ذكرت قول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تَذْعَرْهُم عليَّ))، ولو رميته لأصبته... الحديث.
قال النووي في قوله: ((اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تَذْعَرْهم عليَّ)) هو بفتح التاء وبالذال المعجمة، معناه: لا تفزعهم عليَّ، ولا تُحركهم عليَّ، وقيل: معناه: لا تنفرهم، وهو قريب من المعنى الأول؛ اهـ. "شرح النووي على مسلم".
انظر إلى حكمةِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكيف راعى وقرَّر هذه القاعدة، فقتال المشركين في هذه الحالة لا تُحمد عُقباه، فقد تجمع عليهم قبائل العرب من المشركين، وانظر كيف راعى الصَّحابي الجليل حذيفةُ هذه القاعدة، فقَتْلُ رجل من المشركين - وخصوصًا سيدهم - سيؤدي إلى مَفسدة أعظم، وهي إثارة الحميَّة عند المشركين، وعزمهم على القتال؛ انتقامًا لسيدهم بعد هَمِّهم بالرحيل لما أصابهم من البرد والريح الشديدة.
فالله - عزَّ وجلَّ - أمرنا بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ومع ذلك قرن ذلك بالاستطاعة؛ قال - تعالى -: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وجماع ذلك داخلٌ في "القاعدة العامة": فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيِّئات، أو تزاحمت، فإنَّه يَجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإنَّ الأمر والنهي وإن كان مُتضمنًا لتحصيل مصلحة ودفع مَفسدة، فينظر في المعارض له، فإنْ كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثرَ، لم يكن مأمورًا به؛ بل يكون محرَّمًا إذا كانت مفسدتُه أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة؛ "رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
هذا ما يجب أن يُقرِّره علماءُ المسلمين، وما يَجب أن يفقهه شبابُ المسلمين.
إنَّ غيابَ هذه القاعدة وجهل بعض هذه الجماعات بها، أدخلَ الأُمَّة في نفق مُظلم، وأخَّر الدعوة والتمكين عشرات السنين؛ إذ إنَّهم أعطوا المشركين والمنافقين والأنظمة الفاسدة الذريعةَ لمحاربة الدعوة دون إنكار أحدٍ عليهم؛ بل ربَّما ساعدت المجتمعات المسلمة الأنظمة الفاسدة على سَحق هذه الجماعات؛ لِمَا رأوا منها من غلظة وسَفك للدماء بغير حق.
وهناك أيضًا تناقضات تدْعو المرء للتأمُّل، فجماعة مثل بوكو حرام أو طالبان نيجيريا هي جماعة من طلاَّب العلم، تركوا التعليم، وقاموا بإنشاء هذه الجماعة التي تعني (التعليم الغربي حرام)، إذًا هي تُحارب أفكارَ وطريقةَ التعليم، فما دخلُ السلاح هنا؟ كان يَجب عليهم مواجهة هذه الطريقة التي يعتقدون فسادَها، ببيان هذا الفساد، وإظهار ما هم عليه من الحق، فأين مدخل السلاح هنا؟ ولماذا المواجهة مع الأمن؟
وتأتي جماعة مثل جند أنصار الله، جماعة لا تَملك إلا مسجدًا، تواجه أجهزةَ الأمن في حماس المُمَكنة؛ لتقيم الإمارة الإسلامية مستندة إلى رُؤيا لزعيمها، ومن أصولِ أهل السنة أن الرُّؤى والأحلام لا تُؤخذ منها أحكام، إنَّنا هنا لا نسوغ لحماس ما قامت به، ونقول لها: "إنَّ شَرَّ الرعاء الحطمة"، ولكن نناقش هذا الفكر المشوَّه، فأيُّ إمارة تكون حدودها المسجد فقط؟!
يقول الشيخ محمد صالح العثيمين في الردِّ على سؤال مُوجَّه من المقاتلين في الجزائر: أمَّا الجماعة السلفية، فأرى أنْ يُوافقوا؛ لأنَّه مهما كان الأمر، الخروج على الحاكم - ولو كان كفرُه صريحًا مثل الشمس - له شروط، فمِن الشروط: ألاَّ يترتَّب على ذلك ضررٌ أكبر، بأن يكون مع الذين خرجوا عليه قُدرة على إزالته من دون سفك دماء، أمَّا إذا كان لا يمكن من دون سفك دماء، فلا يجوز؛ لأنَّ هذا الحاكمَ - الذي يحكم بما يقتضي كفره - له أنصار وأعوان لن يَدَعوه. اهـ من كتاب: "فتاوى العلماء الأكابر".
هذا لو قلنا بكفر حماس، وهذا ما لم يقلْه أحد، حتى هذه الجماعة.
يقول الدكتور محمد إسماعيل المقدم في تسجيلٍ صَوتي له: أما فقه الخروج على الحكام، فهذه قضية كبيرةٌ تستحقُّ أن نفصِّلَها بالتفصيل، لكن باختصار شديد، لا تطبق قواعدُ وضوابط الجهاد بمعناه الاصطلاحي على هذه القضية؛ لأنَّ في الغالب قضيةَ الخروج المسلَّح على الحكام بالذَّات في أوضاعنا الحاليَّة لا تأتي إلاَّ بضرر مَحض، في ضوء الأدلة الشرعية أولاً، ثم في ضوء التجارب.
في ضوء التجارب ما حصل قتل إلاَّ للمسلمين؛ يعني: إذا استحضرنا تاريخَ الحركة أو الجماعة الإسلامية في الصَّعيد، فما الحصيلةُ التي حصلت؟ الأخ يكون عارفًا حاجةً من اثنين، إمَّا سيُقتَل أو سيُسجن، أمَّا غلبة النصر، فهو احتمال غير وارد، هذا هو الواقع. اهـ.
لا شك أنَّ السببَ الأول لظهور هذا الفكر النَّاتج عنه هذه الأحداث، هو غيابُ هذه القاعدة - المصالح والمفاسد - عن مُنَظِّريه، وإعراضهم عن كلام أهل العلم وفتاواهم، ورُبَّما أيضًا لوجود السلاح بأيديهم، فإن السلاح يُغري باستخدامه.
وعلى جميع القادة في الحركة الإسلامية تربيةُ الجيل الجديد على تعظيم الدَّليل، وأنْ يكون هو المحرِّكَ الأول لإقدامهم أو إحجامهم في كُلِّ الأمور، مع الشُّورى والنَّظر في كلام أهل العلم ولزوم غَرْزهم.
هذا، ونسأل الله بفضله ومَنِّه أنْ يُصلح حالَ المسلمين، وأن يُبصِّرَهم بما يَنفعهم في رفعة دينهم، والسَّعي لإعلاء كلمة ربِّهم، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
- التصنيف:
- المصدر: