الخروج من التيه
إيهاب إبراهيم
فالخروج من التيه ربما يطول لسنوات، وربما يستبدل الجيل، كما حدث مع بني إسرائيل، أو حتى أجيال، ولكن لن يكون تمكين إلا برضى الله؛ قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور : 55].
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
قال الله تعالى في محكم تنزيله: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْم اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْم ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [النور: 26:20].
إن هذا التيه هو إحدى عقوبات الله عز وجل على مخالفة أمره وأمر أنبيائه؛ فإن بني إسرائيل مع إيمانهم بالله عز وجل في ذلك الوقت, وكانوا شعب الله المختار, وكان فيهم نبي من أولي العزم, إلا أنهم لما تخلفوا عن أمرٍ من أوامر الله, -وهو الجهاد- عاقبهم الله بالتيه أربعين سنة, ولا شك أن هذه العقوبة لم تكن خاصة ببني إسرائيل, بل تشمل كل من فعل مثل فعلهم من الأمم من بعدهم, فقد قال تعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ﴾ [العنكبوت:40].
والله لا يحابي أحدًا من خلقه، والشرعُ لا يفرق بين متشابهين، ولا يسوي بين مختلفين.
ومع أننا خيرُ أمة أخرجت للناس، وأن بأيدينا القرآن، إلا أننا دخلنا تيهًا أكبر مما دخله بنو إسرائيل، فكم تخلفنا عن أمر من أوامر الله؛ من ترك للجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة، والصيام، وغير ذلك، من أوامر الشرع، فكان حقًّا علينا أن ندخل ذلك التيه، وقد دخل بنو إسرائيل التيه في واد واحد وهو سيناء، ودخلنا نحن في أوديه متفرقة.
فدخلنا في تيه العلمانية، والاشتراكية، والرأسمالية، والقومية، ومع الأسف فقد أخذ كل تيه أكثر من أربعين سنة، وما زلنا في التيه.
والتيه هو رمز للبعد عن الهدف والغاية والتمكين، فكان لبني إسرائيل في بعدهم عن الأرض التي كتب الله لهم أربعين سنة، وكان التيه لهذه الأمة أيضا في البعد عن الوعد الذي وعدهم الله من التمكين في الأرض، وأن يدخل هذا الدين كل بيت من مدر و وبر.
فكيف الخروج من هذا التيه أو المتاهات؟
لقد خرج بنو إسرائيل من التيه بعد أربعين سنة، واستجابوا لأمر الله على لسان نبيهم فمكن الله لهم، ولكن لنقف أولاً عند الأربعين سنة، لماذا كانت أربعين سنة، وماذا حدث فيهن، حتى تتحول العقوبة إلى نصر وتمكين، بل ومعجزات أيضًا.
لقد بلغ العناد والجحود من بني إسرائيل مبلغًا عظيمًا، حتى شق منهم الصالحون الثياب، كما فعل يوشع بن نون -ولم يكن بعد نبيا- ولكن هذه كانت الحقيقة أن بني إسرائيل لم يكونوا مؤهلين بعد لهذا التمكين، فكان التيه.
وفي الحقيقة إن عقوبة التيه كان فيها رحمة من الله لبني إسرائيل، فلم يهلكهم الله كما فعل بالأمم السابقة، عندما تخلفوا عن أمر أنبيائهم، ويتجلى ذلك في النعم التي أنعم الله عليهم بها في هذا التيه، مثل الغمام، والمن، والسلوى، والحجر، إذًا فالله لا يريد أن يهلكهم بل يريد أن يربيهم.
فكانت مدة التيه لتربية بني إسرائيل، على الامتثال لأمر الله عز وجل، لقد هام بنو إسرائيل على وجههم في الصحراء أربعين سنة، وانقطعت بهم السبل، لا ظل، لا طعام، لا شراب، وكان المصدر الوحيد لهذه الضروريات هو الله سبحانه وتعالى، بمعجزات ظاهرة، فإذا أرادوا أن يأكلوا جاءهم المن والسلوى من السماء، وإذا أرادوا أن يشربوا، فمعهم الحجر الذي ينفجر منه الماء، فأكلهم وشربهم معجزة من الله، ليترسخ عندهم عقيدة التوكل على الله، وأن الله على كل شيء قدير.
وفي ذلك درس للمربين، أن تعلقَ جيل التمكين بربه هو أول وأهم أسباب نصرته، وأن الله خلق الأسباب لنتعبد بها لا لنعبدها، وهو سبحانه قادر على نصرنا بدونها، ولكن إذا صح التوكل منا.
ومع هذه النعم، تأتي أيضا الابتلاءات، لتقيم الجيل الجديد، مثل قصة العجل، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 73- 74].
ليرى الله أثر هذه النعم على قلوب بني إسرائيل.
فظل موسى عليه السلام يربي، ويتعاقب فيهم الأنبياء من بعد موسى، وكان منهم داوود عليه السلام، وطالوت، وما زال الله يبتليهم، حتى في طريقهم إلى المعركة الكبرى، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة :250].
حتى تقول الروايات إنه لم يثبت مع طالوت بعد فتنة النهر، إلا ثلاثمائة وأربعة عشر، ثم نزل نصر الله على الفئة المؤمنة الصابرة.
إن طول مدة التيه وقصرها، والخروج منها، متوقف على مدى امتثال العباد لأمر الله عز وجل، وسعي المربين لذلك، بكل ما أتوا من قوة، والعمل المستمر، ليل نهار، للأخذ بخطام الأمة للانقياد لربها.
وينبغي للدعاة أن لا يحزنوا عند الفتن والابتلاءات، فما هي إلا اختبارات، لإظهار مدى استجابة الأمة لأوامر ربها، والصبر عليها، بل عليهم السعي المستمر، للتأمل في الفتن، والبحث عن حكمة الله فيها، ثم السعي لرأب الصدع، وتلافي الأمر، وعدم الاستعجال للخروج بجيل التمكين، فالتأخير خير من العودة من تحت الأسوار، بجيل مغضوب عليه معاقب، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
فالخروج من التيه ربما يطول لسنوات، وربما يستبدل الجيل، كما حدث مع بني إسرائيل، أو حتى أجيال، ولكن لن يكون تمكين إلا برضى الله؛ قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور : 55].
نسأل الله أن يرد الأمة إلى دينها ردًّا جميلا.
هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.