الإعلام وصناعة الوعي
إيهاب إبراهيم
لقد خلق الله للإنسان أدوات يكتسب بها وعيه ليتعرف عليه -سبحانه-، وعلى كل ما ينفعه في هذه الدنيا، ويكون مسئولاً عنها يوم القيامة، قال -تعالى-: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36]، وهذه الأدوات هي: الأذن، والعين، والعقل.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فلا يتحرك الإنسان في هذه الدنيا إلا بوعي يدفعه للإقدام على الشيء أو الإحجام عنه؛ لذا فإذا أردت أن تحرك إنسانًا ما إلى عملٍ ما أو حتى تحجمه عنه فيجب عليك أن تشكل له وعيًا.
ولكن كيف يتشكل وعي الإنسان؟
لقد خلق الله للإنسان أدوات يكتسب بها وعيه ليتعرف عليه -سبحانه-، وعلى كل ما ينفعه في هذه الدنيا، ويكون مسئولاً عنها يوم القيامة، قال -تعالى-: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36]، وهذه الأدوات هي: الأذن، والعين، والعقل.
فهذه الأدوات الثلاث تعتبر مصنع الوعي عند الإنسان حيث تشكل بمجموعها فريق عمل لتشكيل الوعي، فالأذن والعين يكتسب بهما الإنسان المعطيات المتمثلة في الصور والأصوات، والعقل يحلل هذه المعطيات فيحكم على الصور بالصدق أو التزييف، وعلى الأصوات بالصدق أو الكذب، ويرد الكاذب منها ويقبل الصادق ويهذبه، ويقرر في النهاية وجهة نظره الخاصة التي تمثل الوعي.
بيد أنه هناك تباين كبير بين قيمة ودور كل أداة من هذه الأدوات الثلاث من حيث الجهد المبذول لاستعمالها وأهميتها, فالأداة الأولى: "السمع" لا يجد الإنسان مشقة كبيرة في تفعيلها، بل ربما يسمع كثيرًا من الأحيان رغمًا عنه, وكذلك العين, بل ربما يستمتع الإنسان أثناء استعماله لهذه الأدوات, أما "العقل" فهو العملية الأكثر تعقيدًا وصعوبة في مراحل تشكيل الوعي.
إذن هي عملية رياضية معقدة تُستدعى فيها الخبرات والمعلومات السابقة, وتحليل الصور والأصوات بشكل محايد للخروج بحكم يتمثل في وعي الإنسان الخاص به؛ ولعل هذا ما يجعل كثيرًا من الناس لا يقوم -ربما كسلاً- بهذه العملية، ويعتمد فيها على غيره.
ونحب هنا أن نوضح أننا لا نتكلم عن صحة الحكم -الوعي- أو عدمه، فربما يقوم الإنسان بتفعيل الأدوات الثلاث ولا يصل لحكم -وعي- صحيح, ولكن على كل الأحوال سيمثل وعيه هو، وليس وعيًا مصطنعًا.
وهنا تتضح خطورة الإعلام وبرامجه, حيث إنه يعتبر أكبر وأهم أداة لصنع الوعي هذه الأيام, فالإعلام ما هو إلا ناقل لصور وأصوات وأخبار بطرق مختلفة: مقروءة، ومسموعة، ومرئية، مستخدمًا التطور التكنولوجي الكبير الذي يخرج كل يوم علينا بجديد.
ولكن لماذا يصنع الإعلام الوعي عند كثير من الناس رغم أنه يفترض أن يكون عاملاً من عوامل تشكيل الوعي فقط؛ حيث إنه مجرد ناقل للصور والأصوات؟!
ولعل الإجابة عن هذا السؤال أصبحت واضحة من خلال ما تقدم, فإن كثيرًا من الناس أصبح يعطل المرحلة الأخيرة والأهم من مراحل تشكيل الوعي؛ مما سمح للإعلام بأن يكون البديل الماهر لها.
عندما تخاطِب كثيرًا من الناس الآن تجده يدلي بآراء شاذة في كثير من الموضوعات لا تكون منطقية لك بما تعرفه عنه، وعند سؤال عابر له عن سبب تبنيه لهذا الرأي يقول: "أنا سمعت فلانًا في القناة الفلانية يقول ذلك"!
وعندما تحاول أن تخرجه من أسر هذا الوعي المصنوع وتناقش معه المعطيات بغير نتائج مسبقة يغير رأيه تمامًا لا لشيء إلا لأنك أخذت بيده لتشغيل الأداة الأهم والأخطر لتشكيل الوعي: "العقل".
ولكن هل يعاب صنع الوعي؟!
نقول: إذا كان الأمر متفقًا عليه، ونريد دفع الناس له، مثل: التوعية بمخاطر التدخين أو المخدرات؛ فهذا أمر محمود، ولا يمثل في الحقيقة صنعًا للوعي، بل هو تنشيط لوعي الإنسان بما هو مقرر عنده، ويحتاج لمن يؤكد له عليه ويذكره به.
إنما الخطورة تكمن في صنع وعي يخدم أيدولوجيات وتوجهات بعينها دون أن يشعر المرء بذلك, وهذا يجرنا إلى قضية هامة، وهي قضية المهنية -الحيادية- في الإعلام.
للمهنية في الإعلام مفهوم واسع يبدأ بالحيادية وينتهي بالأمور الفنية من إخراج وجودة إلخ..
ولكن ما نتحدث عنه هو المفهوم الأصيل لها وهو الحيادية في نقل الأخبار وعرض الآراء وعدم الانحياز إلى طرف من أطراف الحوار أو النقاش، وكذلك عرض الأخبار كما هي دون زيادة أو نقصان, وهذا ما تدعيه كل وسائل الإعلام.
ولكننا نرى أن مفهوم المهنية هو شيء نسبي فما أراه أنا مهنية ربما تراه أنت انحيازًا شديدًا, إننا عندما نحاول أن نتصور إنسانًا بلا توجه، وكأننا نتصور اللا شيء أو العدم, فإننا عندما نطلب من مذيع الأخبار مثلاً أن يتمالك نفسه، ولا يرق بدمعه بعد عرضه تقرير عن مذبحة فلسطينية بدعوى أن ذلك يخالف المهنية فهذا أمر غير أخلاقي ومصادم للفطر، وكأن المهنية تقتضي أن يخرج الإنسان حتى من آدميته!
أما عن المهنية في عرض الآراء فحدث ولا حرج عن الانحياز الصارخ في اختيار الضيوف، وإعداد الأسئلة وطريقة طرحها، والوقت المعطى لكل طرف إلخ..
إننا لا نجحد وجود المهنية، ولكننا نرى أنها اجتهاد مما يجعلها تختلف من قناةٍ أو صحيفةٍ لأخرى.
والإعلام في عصرنا من حيث التوجه إعلامان: إعلام معلن التوجه، مثل: قناة أو صحيفة تابعة لحزب من الأحزاب، أو هيئة من الهيئات، وهذا لا مشكلة معه، بل نحترمه كل الاحترام فقد أخرج نفسه من مأزق المهنية النسبية, ورفع عن نفسه الحرج حيث أعلن للمشاهد أنه يدعم توجهًا معينًا وينحاز له, فهذا فيه احترام لعقل المشاهد -وفي الحقيقة هذه المهنية المطلقة في رأينا-.
ولكن المشكلة الكبرى في الإعلام غير معلن التوجه، الزاعم للمهنية والمتشدق بها، وبعيدًا عن نسبية هذا المصطلح الذي قررناه فإننا نجد منه انحيازًا صارخًا لتوجهات بعينها، مثل: كثير من القنوات والصحف التي تموَّل بالمال الطائفي والخارجي، حتى أصبحت صانعة للحدث وليست ناقلة له, عن طريق صنع وعي للمشاهد أو القارئ يخدم توجهات معينة بإدخاله في متاهة من الآراء والنقاشات، وتزييف المعطيات، والتكرار المتواصل على الفكرة مستعينة بما يسمى "النخبة"، مغلفة كل ذلك بالمهنية.
فليحذر المشاهد أو القارئ هذه الوسائل الإعلامية غير المهنية, وليصنع وعيه بنفسه مستخدمًا ما وهبه الله له من أدوات لتشكيل الوعي الذي سيسأل عنه.
كما أننا لا نحجر علي أي وسيلة إعلامية أن تتبنى توجهًا معينًا, ولكن نطالبها بالإعلان عنه؛ احترامًا لعقل الجمهور، ووصولاً للمهنية الحقيقة.
هذا وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.