قضية الجبر والاختيار في ظل ميكانيكا الكم
أحمد كمال قاسم
فإنك عندما تلقي بعملة واحدة إلى الأعلى، وتتلقاها مرة أخري فإنه يصعب جدًا تحديد على أي الوجهين ستقع، ولكن من السهل جدًا أن تجزم أننا لو رمينا إلى الأعلى بليون عملة فإنه سيسقط نصفهم على وجه والنصف الآخر على الوجه الآخر، وهذا بالضبط ما يحدث مع الكواكب، وهذا من رحمة ربنا بنا أن مكننا من توقع تصرفات الكون الكبير المهمة لحياتنا اليومية.
- التصنيفات: التصنيف العام - الإسلام والعلم -
لو تأملنا الفيزياء الكلاسيكية لوجدنا أنها تقول بمبدأ الحتمية، بمعنى أنه لو حدث حدث معين (أ) فلا بد حسب قوانين الفيزياء الكلاسيكية أن يعقبه الحدث (ب).
ولكن العلم الحديث اكتشف أن الأمر ليس بهذه البساطة، ولكن النسق الحقيقي الذي تسير به الأحداث هو كالتالي: لو حدث الحدث (أ) فإنه سيعقبه إما الحدث (ب) أو الحدث (ج) أو ..... وهكذا.
ولكن لكل حدث تابع احتمالية معينة في الحدوث بحيث لو كررنا الحدث (أ) عدد كبير جدًا من المرات تحت نفس الظروف لوجدنا كل الأحداث المحتملة حدثت ولكن بنسبة احتماليتها التي تحددها قوانين ميكانيكا الكم.
ومعنى هذا أنه طبقًا لميكانيكا الكم فإنه من المستحيل بمكان أن تجزم بوقوع حدث معين في لحظة محددة ومكان محدد، ولكن كل ما تستطيع تحديده هو تحديد احتمالية حدوث هذا الحدث من غيره، وتوجد آيات كثيرة في القرآن العظيم تخبرنا أن علم الغيب المفصل إنما هو لله فقط ومن هذه الآيات:
قال تعالى في (سورة الأنعام:آية 59):
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}.
وقال تعالى في (سورة النمل:آية 65):
{قُل لّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}.
وقد يسأل سائل لماذا لا يظهر هذا الآمر في حركة الكواكب والنجوم، فإنه يبدو للباحث أن مساراتها في الفضاء والزمن قابل للتحديد بدقة عالية، وأقول هذا صحيح، فكلما زاد عدد الأجسام الأولية في المجتمع الذي ندرسه كلما سهل توقع تصرف المجموعة ككل، وليس تصرف أفرادها.
فإنك عندما تلقي بعملة واحدة إلى الأعلى، وتتلقاها مرة أخري فإنه يصعب جدًا تحديد على أي الوجهين ستقع، ولكن من السهل جدًا أن تجزم أننا لو رمينا إلى الأعلى بليون عملة فإنه سيسقط نصفهم على وجه والنصف الآخر على الوجه الآخر، وهذا بالضبط ما يحدث مع الكواكب، وهذا من رحمة ربنا بنا أن مكننا من توقع تصرفات الكون الكبير المهمة لحياتنا اليومية.
إذًا التحديدية المطلقة ما هي الإ خدعة كبرى وُهِمَ بها العلماء لزمن كبير، فقانون السببية تحول من صيغته التحديدية إلى صيغة أخرى احتمالية، ولكنه لم يسقط بعكس كثير من الآراء غير المحققة.
وقد يقول قائل قد يكون هناك عوامل لا ندركها بأجهزتنا الحالية هي التي تحدد الاختيار (ب) أو الاختيار (ج)، ونقول بالطبع كلامك صحيح، فهناك شيء ما يتحكم في اختيارات الأحداث، ولكن هذا الشيء لا يتحكم به بشكل عشوائي، بدليل أن احتمالية حدوث الأحداث تظل ثابتة.
إذًا الأمر محير، ويبدو أن من يختار الأحداث يختارها بشكل لا يخل باحتمال حدوث كل حدث، أي يختارها بناءً على قانون، ويبدو أننا دائمًا نعلم عدد معادلات أقل من عدد المجاهيل، (بالرغم من تساويهما في الواقع، ولكن توجد مجاهيل مختفية لا نراها بحواسنا أو بآلاتنا!)، وبالتالي يوجد دائمًا بالنسبة لنا أكثر من حل لكل مجهول، بينما في الحقيقة يوجد حل واحد لكل مجهول، وهذه المجاهيل المخفاة يتم وضع قيمها من خارج المكان رباعي الأبعاد الذي نراه، إنه أمرٌ محير حقًا، ولكنه في نفس الوقت يثبت طلاقة قدرة الخالق على وضع هذه المجاهيل المختفية بالقيم التي يشاء مع استحالة علمنا لها مسبقًا قبل قياسها في المعمل، وأيضًا في نفس الوقت يبدو أن الله عز وجل أعطى لأرواحنا بعض صلاحيات اختيار بعض المجاهيل المختفية الخاصة بأجسامنا بل بالكون.
قال تعالى في (سورة الإسراء:آية 85).
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}.
فبالرغم أن جسمي يعتبر نظام فيزيائي معقد يحتوى على عدد هائل من الأجسام الأولية، إلا أنه لا يمكن لأحد ما من البشر توقع ما استطيع فعله في اللحظة القادمة، (إلا بشكل احتمالي من خلال دراسته لعدد كبير من تصرفاتي)، وذلك لأن حل معادلات الذرات التي أتكون منها تعطي عدد كبير جدًا من الحلول، والتي أستطيع أنا دون عن غيري من الناس أن أختار أي حل سأتبعه، لأن الله مكنني من اختيار قيم بعض المجاهيل الرياضية المختفية باستخدام إرادتي الحرة، هل سأرتكب معصية أم سأطيع ربي في اللحظة القادمة؟! كلا الاحتمالين في يدي.
قال الله تعالى في (سورة الإنسان:آية 3):
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}.
ونستنتج أربع نتائج مهمة من هذه الدراسة.
1/ طلاقة قدرة الله عز وجل.
2/ حرية إرادة الإنسان في ظل ميكانيكا الكم، وعدم تعارضها مع كل من إرادة الله عز وجل، ومع قوانين الفيزياء، وقد يسأل سائل، كيف نوفق هنا بين تحقيق إرادة الله وتحقيق إرادتنا.
الحل بسيط: نحن (إرادة روحنا)، نختار المتغيرات المختفية المسموح لنا باختيارها من قبل الله عز وجل، ولكن لا يمكننا وضعها وتفعيلها في المعادلات، بل الله تعالى هو الذي يضعها لنا.
قال تعالى في (سورة الأنفال:آية 17):
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وقال في (سورة الإنسان:آية 30):
{وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
أي أن قضية حرية الإرادة تتلخص في أننا نختار أفعالنا ولا نخلقها، بل الله يخلقها لنا.
قال تعالى في (سورة الصافات:آية 96):
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}
3/ إنه بالرغم من الطبيعة الاحتمالية لتصرفات الأجسام الأولية إلا أنه من رحمة الله بنا أنه جعل تصرفات الأجسام المادية (غير الحية) التي نتعامل معها بشكل يومي يمكن تحديدها بدقة وذلك رحمة من الله بنا.
4/ إننا كأحياء نعتبر حالة خاصة يجتمع فينا العالم الميكروسكوبي بطبيعته الاحتمالية، والعالم الماكروسكوبي؛ حيث أننا نرى بعضنا بعضًا بدقة، بل ونخضع لقوانين الحركة الكلاسيكية، وذلك عندما تؤثر علينا قوى خارجية، ولكن هذا يحدث على مستوى الجسم ككل، وليس على مستوى تفاصيل أجسامنا التي نتحكم فيها بإرادتنا الحرة، أما صفاتنا الميكروسكوبية فتنجلي في أن اجسامنا هي نظم تحتوي على عدد هائل من الجسيمات الأولية، وفي نفس الوقت لا يمكن توقع تصرفاتها على سبيل الحتم بعكس باقي الأجسام الماكرسكوبية الأخرى، التي اعتدناها مثل الكواكب أو الآلات المعقدة مثلًا، وحتى لو اعتبرنا أجسامنا آلة معقدة جدًا إلا أن هذه الآلة تدار بواسطة المخ الذي تنطلق إشاراته بشكل لا يمكن توقعه من أي انسان إلا الإنسان الذي يمتلك هذا المخ، ويبدو لي أن المخ البشري تتجلى فيه ميكانيكا الكم ومتغيراتها الخفية أكثر من أي شيء آخر في العالم الماكروسكوبي.